الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

إيران في جدلية الداخل والخارج: التوازن الذي سيصنع ملك ايران القادم

null
مصطفى اللباد
تتبلور الإشارات الإيجابية المتبادلة بين واشنطن وطهران منذ انتخاب الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي راهنت إيران على فوزه؛ فاستمرت في عرقلة مشاريع الإدارة السابقة ومنعتها من تحقيق أية نجاحات في ملفات المنطقة في السنة الأخيرة مخاطرةً في ذلك بتلقي ضربات عسكرية لمنشآتها النووية وبنيتها التحتية. راهنت إيران على نجاح أوباما ونجح رهانها، وتراهن حالياً على اضطرار الإدارة الأميركية الجديدة إلى الدخول في مفاوضات معها لحل الورطات التي تركتها الإدارة الإيديولوجية السابقة في أفغانستان والعراق كمرحلة أولى ثم الانتقال لاحقاً الى تقنين وتنظيم حدود وأدوار الطرفين في كامل المنطقة. ويبدو أن الرهان الإيراني قريب من الدقة في ذلك أيضاً، لأن وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث هنا في أميركا تعتبر إيران قضية الساعة ومحور الاهتمام.
وبالرغم من التلاقي الموضوعي في أهداف ومصالح الطرفين في العراق وأفغانستان، إلا أن الوصول إلى تفاهم قادر على التبلور والبقاء يبقى رهناً بقدرة كل من الطرفين على ترتيب الأوضاع داخلياً كخطوة أساسية قبل انطلاق المفاوضات الثنائية. وقد أخذت إدارة أوباما منذ انتخابها في إرسال الرسائل الإيجابية إلى طهران وآخرها توجيه الدعوة إلى حضور مؤتمر دولي حول أفغانستان، في رسالة ذكية مفادها الانتقال من مناخ العداوة إلى جو سياسي يقبل بوجود إيران كطرف إقليمي له حقوق في أفغانستان ضمن مؤتمر دولي متعدد الطرف. وصممت الرسالة الأميركية بحيث تسمح بانتقال متدرج من العداوة إلى المفاوضات الثنائية عبر الجلوس أولاً إلى مائدة مؤتمر متعدد الطرف، فضلاً عن أن اختيار مؤتمر أفغانستان لدعوة إيران يهدف إلى طمأنة حلفاء واشنطن في المنطقة بأن التقارب الأميركي-الإيراني في هذا الملف لن يكون على حساب مصالحهم.
تعلم طهران جيداً ضخامة التحدي المطروح عليها بمقتضى المفاوضات مع واشنطن، فهي مثلما تفتح نافذة الفرص أمامها، في حال تكللت بالنجاح، في إحراز موقع الزعامة الإقليمية الذي ثابرت طهران طوال السنوات الماضية في الوصول إليه، فإن المفاوضات في الوقت عينه تحمل في طياتها أخطاراً في حال الفشل، لأن طهران ستبدو ساعتها كخصم إيديولوجي يعرقل لمجرد العرقلة وليس للوصول إلى أهداف وطنية في منطقة مختلة التوازنات ومختلفة التشابكات. ويقتضي تحدي المفاوضات من طهران أن ترتب أوراقها وبيتها الداخلي لمواجهة الاستحقاق الأهم في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية، وذلك عبر خلق توازنات داخلية جديدة تسمح لهذه المفاوضات بالانطلاق والنجاح وتسحب من أمامها العوائق الإيديولوجية والمؤسسية.
ويبدو أن وقت ترتيب البيت الداخلي الإيراني استعداداً للاستحقاقات الإقليمية والدولية قد حان الآن، إذ يذهب فوز الشيخ هاشمي رفسنجاني برئاسة مجلس الخبراء اخيراً مؤشراً واضحاً على ذلك. ويسمح منصب رئيس مجلس الخبراء لصاحبه أن يمسك أوراقاً قوية في تركيبة السلطة الإيرانية، حيث يملك هذا المجلس انتخاب مرشد الجمهورية، أعلى منصب في البلاد، مثلما يملك عزله من منصبه. تقلّب علي أكبر هاشمي رفسنجاني في كل المناصب العليا للدولة الإيرانية باستثناء منصب واحد فقط هو منصب المرشد، حيث تولى رئاسة البرلمان مرتين في الفترة 1980-1989 كما تولى رئاسة الجمهورية مرتين في الفترة 1989-1997. ويحتفظ الشيخ رفسنجاني إلى جانب رئاسة مجلس الخبراء بمنصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، إضافة إلى عضويته في مجلس الرقابة على الدستور، وبهذا الانتخاب يرسخ الشيخ رفسنجاني وجوده السياسي باعتباره الشخصية الثانية من حيث الأهمية في إيران بعد مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي.
يعتبر النظام السياسي الإيراني حالة فريدة بين الأنظمة السياسية في العالم، إذ يجمع ذلك النظام بين العناصر الدينية اللاهوتية والعناصر المدنية الديموقراطية في إطار دستوري مميز. تتمثل العناصر الدينية اللاهوتية في مقام مرشد الجمهورية -أعلى مناصب البلاد وأوسعها من حيث الصلاحيات -، وأيضاً في مجلس الخبراء الذي ينتخب المرشد ويعزله ويتكون من ست وثمانين فقيهاً، وليس آخراً في مجلس صيانة الدستور الذي يتكون من اثني عشر شخصاً نصفهم من الفقهاء. ويملك المجلس الأخير تعطيل قرارات البرلمان في حال كانت متصادمة مع أحكام الشريعة. وفي المقابل تتمثل العناصر المدنية الديموقراطية في الدستور الإيراني عبر منصب رئيس الجمهورية الذي يجري بالانتخاب الشعبي المباشر بين أكثر من مرشح، على أن يكون الاحتفاظ بهذا المنصب ممكناً في حد أقصى دورتين رئاسيتين فقط. كما تتمثل العناصر الديموقراطية أيضاً في البرلمان الذي يتم انتخاب نوابه بالاقتراع السري المباشر من الشعب، فضلاً عن مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يفصل في الخلافات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور ويتم انتخاب الأعضاء فيه أيضاً. وهكذا تختلط مشروعية النظام السياسي في إيران بين نظرية “ولاية الفقيه” التي أرساها الإمام الراحل روح الله الخميني وهي أحد أشكال الفقه الشيعي الاثني عشري وتنص على ضرورة قيادة الفقهاء للمجتمع من ناحية، والمقتضيات الحداثية والديموقراطية عبر الانتخابات المباشرة من ناحية أخرى. وبرغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الإطار الأوسع للدستور الإيراني وجمعه لمتناقضات المشروعية الدينية والمدنية، فإن الممارسة السياسية للنظم العربية على اختلاف نظمها الدستورية تعجز عن مقارعة المشروعية الشعبية للنظام الإيراني المتأتية من الاقتراع المباشر، بسبب افتقار الانتخابات العربية – في حال وجودها أصلاً – إلى الحد الأدنى من شروط الحيادية والتكافؤ.
يتمثل الخلاف الأساسي بين التيارات السياسية الإيرانية بشأن المفاوضات مع واشنطن حول التوقيت؛ إذ يعتقد المحافظون البراغماتيون بقيادة هاشمي رفسنجاني أن عليهم قطف ثمار ممانعة إيران وعرقلتها للمشاريع الأميركية في السنوات الماضية. وفي المقابل يعتقد المحافظون الأصوليون، ومن ضمنهم الرئيس نجاد، أن الظرف الإقليمي مهيأ راهناً لتمديد النفوذ الإيراني بشكل أوسع ومن دون الاضطرار حتى إلى الدخول في تفاهمات مع واشنطن الآن. هنا بالتحديد ستكون كلمة المرشد فيصلاً وحكماً في توجيه دفة السياسة الإيرانية، فالمرشد نفسه ليس محافظا متشددا بالدرجة التي يتخيلها البعض، والإطار الأفضل لدوره وسلطته يحتم عليه أن يظل ممثلاً لنقطة التوازن داخل الطبقة السياسية الحاكمة.
كان السيد خامنئي غالباً ميالا إلى توافق محافظ – إصلاحي إن جاز التعبير طيلة فترة الرئيس السابق خاتمي، ثم وبعد اختفاء الإصلاحيين من الساحة السياسية الإيرانية أصبح نقطة التوازن داخل تيار المحافظين بين البراغماتيين ممثلين برفسنجاني والأصوليين ممثلين بأحمدي نجاد. ومع رجحان الكفة لمصلحة الرئيس نجاد وتيار الحرس بشكل كبير منذ العام 2005، نجد المرشد وفي هذه اللحظة التاريخية يعود ليضع توازنات جديدة تسمح بصعود رفسنجاني إلى موقع الشخصية الرقم اثنين في النظام، مثلما تعطي زخماً جديداً للتيارات السياسية المناوئة لنجاد والحرس. كانت انتخابات رئاسة الجمهورية التي جرت في العام 2005 وفاز بها الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد متغلباً على رفسنجاني قد ذهبت مؤشراً على تراجع نفوذ الأخير وقتذاك، بالتوازي مع تقدم حظوظ الرموز السياسية الدائرة في فلك الحرس الثوري الذي ينتمي الرئيس نجاد إليه.
تزدحم قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية من التيار الإصلاحي مثل الرئيس السابق خاتمي، ورئيس الوزراء الإصلاحي مير حسين موسوي، وتبقى قائمة الشخصيات المرشحة من التيارات المحافظة غير معلومة حتى الآن، لأن الرموز المحافظة لم تعلن بعد عن رغباتها بالترشح. ربما يكون رئيس البرلمان علي لاريجاني الأقرب فكرياً إلى المرشد من بين كل الشخصيات السياسية الإيرانية الحالية، كما أن خبراته التفاوضية إبان إدارته للملف النووي الإيراني كانت عالية المستوى بسبب درايته الشاملة بأساليب التفاوض ووعيه بتوازنات النظام الدولي الحالي. ولذلك تطرح شخصية علي لاريجاني نفسها كأحد أبرز المرشحين نظرياً لإدارة المفاوضات مع أوباما، ولكن قرار توليه منصب الرئاسة لا يحتاج إلى قرار من المرشد فقط، بل إلى قدرة ترشيحه على إحداث التوازن المطلوب داخل المعسكر المحافظ. بمعنى أخر سيتعلق قرار تحديد المرشد لمرشحه المفضل -أياً كان اسمه- بمسألة تحقيق هذا المرشح لشرط أساسي في هذا السياق؛ وهو تمثيل هذا المرشح للتوازن السياسي المطلوب بين أجنحة السياسة في إيران. تأسيساً على ذلك لن يدخل الشيخ رفسنجاني انتخابات الرئاسة المقبلة كمرشح، كما فعل ثلاث مرات سابقاً، ولكنه سيلعب دور “صانع الملوك” مع المرشد، أي سيساهم في صنع التوازنات الداخلية التي تجعل فوز مرشح بعينه نقطة التوازن لأجنحة إيران السياسية. إنها جدلية الداخل والخارج الإيرانية في أوضح تجلياتها وأكثرها تعقيداً!
مصطفى اللباد – نيويورك
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية في القاهرة)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى