الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

«الجزرة» الأميركية والعلاقة بين دمشق وطهران

وحيد عبد المجيد
لا يختلف بعض تفاعلات «السوق السياسية» كثيرا عن العلاقات المعروفة في السوق الاقتصادية. ففي عالم التجارة، يتمتع البائع بمركز أقوى حين يكون هناك أكثر من مشتر لبضاعته. وتزداد قوة البائع بمقدار ما يحدث تنافس على ما لديه من سلع.
يحدث شيء من ذلك، أيضا، في العلاقات الدولية والإقليمية، وفي عمليات التفاوض والمساومة السياسية خصوصاً.
لذلك وجدت إسرائيل، مثلا، نفسها في مركز قوي بعد أن أفضى مؤتمر مدريد للسلام في 1991 إلى مفاوضات ثنائية متوازية مع أربعة أطراف عربية كان بينها طرفان خشي كل منهما أن يسبقه الآخر إلى اتفاق معها. وفي ظل غياب ثقة متبادلة بين قيادتي سورية ومنظمة التحرير، إنعدم أي تنسيق بينهما، فأتاح ذلك لإسحق رابين، الذي تولى رئاسة الحكومة في تموز (يوليو) 1992، فرصة للتلاعب بالمسارين الفلسطيني والسوري على نحو مكّن فريقه المفاوض من اقتناص اتفاق أوسلو في العام التالي.
كان الزعيم الراحل ياسر عرفات قلقا من أن يسبقه السوريون إلى اتفاق سلام يترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة إسرائيل. فقاده القلق إلى إحاطة مفاوضات أوسلو بسرية تامة حالت دون استعانة المفاوضين الفلسطينيين باستشارات قانونية كان يمكن أن تحّسن صيغة الاتفاق، حسب تقدير قانونيين مصريين عُرضت عليهم مسودته النهائية في الوقت الضائع.
وأعاد إيهود باراك، بعد توليه رئاسة الحكومة أوائل 1999، الكرّة. فقد استأنف المفاوضات مع سورية للضغط على عرفات ومحاولة وضعه في أجواء تدفعه إلى القبول بحل نهائي يتخلى فيه عن حق العودة مقابل سيادة جزئية ومحدودة على القدس. لكن تكتيك التلاعب بالمسارين لم يحقق هدفه حينذاك، وإنما أسفر، على العكس، عن تدمير أوسلو وإطلاق إحدى أكبر موجات العنف في تاريخ الصراع.
يعني ذلك أن هذا التكتيك ليس مجديا دائماً، وقد لا يفيد إدارة أوباما في تحقيق الهدف الذي قد تتوخاه من الرسائل التي توجهها لكل من إيران وسورية. فتدل هذه الرسائل، وطريقة توجيهها، على أن الهدف إضعاف العلاقة التي توطدت في السنوات الخمس الأخيرة بينهما.
وإذا كانت رسالة أوباما المسجلة، التي تزامنت مع عيد «النيروز» الفارسي، الأقوى حتى الآن في خطابه السلامي نحو إيران، فقد سبقتها بأيام أول زيارة رسمية أميركية إلى سورية منذ أكثر من اربع سنوات. وما الزيارة والرسالة إلا حلقتان في سلسلة رسائل متوالية صدرت عن أوباما وإدارته، تفيد أن «الجزرة» تحتل مساحة أكبر بكثير من «العصا» التي لم يتخل عنها تماماً تجاه إيران وسورية.
ولئن بلغت العلاقة بينهما مبلغا من القوة قد يوفر لها الصمود إزاء محاولة اختراقها، فهي ليست محصنة تماما في ظل التفاوت بين ما تريده كل منهما. ورغم حرصهما على إبقاء تفاعلاتهما الثنائية طي الكتمان، طفا على السطح خلال الشهر الماضي ما أفاد وجود مقدمات قلق إيراني: فللمرة الأولى، وعلى نحو غير معتاد، صدر عن طهران ما ينبه دمشق إلى «مخططات الأعداء».
وربما يكون لهذا القلق ما يبرره، حتى بعد الرسالة الأقوى التي وجهها أوباما إلى الإيرانيين، وذلك بسبب التفاوت الكبير بين تطلعات طهران وأهداف دمشق. فما تريده الأخيرة تغيير السياسة التي انتهجتها إدارتا بوش تجاهها. وهذا أمر يسير لأن أوباما يسعى إلى إلغاء معظم سياسات هاتين الإدارتين، حتى إذا لم تكن لديه تصورات واضحة عن بدائلها. وقد عبرت دمشق عن تطلعها لرعاية أميركية لمفاوضات يمكن أن تكون مباشرة مع إسرائيل بغض النظر عن النتائج التي تسفر عنها. وفي خلفية هذا الموقف رجاء في تأمين وضع النظام السوري ومستقبله أيا تكن النتائج التي تنتهي إليها المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري.
وتريد سورية، بطبيعة الحال، اعترافا أميركيا بدورها الإقليمي. ولكن شتّان بين هذا الدور وذلك الذي تتطلع إيران إلى إقرار غربي، وليس فقط أميركيا، به عبر صفقة شاملة في شأن توزيع النفوذ في الشرق الأوسط. فطهران ترغب بتفاهم في العمق مع واشنطن على ترتيب الأوضاع في هذه المنطقة، وفي الخليج بصفة خاصة.
وهذه صفقة كبيرة، وقد تكون أكبر من قدرة إدارة أوباما، لأنها تقوم على تبادل مصالح ربما لا يكون على حساب دول عربية فقط، الأمر الذي قد لا يرضي دولا حليفة لواشنطن، وفي مقدمتها إسرائيل التي لا تقبل بأقل من ضمانات صارمة تمنع عسكرة البرنامج النووي الإيراني.
ولذلك ليس متصورا أن تبارك إسرائيل، التي تجنح نحو مزيد من التطرف، صفقة تحصل فيها طهران على اعتراف بنفوذ إقليمي واسع مقابل تنازلات محدودة في طريقة إدارة برنامجها النووي، ضماناتٍ قد تطمئن في المدى القصير، من دون ضمانات صارمة في المدى الأطول.
وليست إسرائيل وحدها من يمثل عائقا أمام الصفقة التي تتطلع إليها طهران مع أوباما. فالاستعلاء الإيراني قد يجعل الباب الذي فتحه الرئيس الأميركي أضيق من أن يسمح بالعبور إلى «البداية الجديدة». تريد إيران الانتقال من علاقة شديدة العداء بين «شيطان أكبر» وضلع رئيس في «محور الشر» إلى صفقة شاملة من دون المرور بالمراحل الطبيعية للتحولات الكبرى في العلاقات الدولية. كما تطلب من أميركا إبداء حسن النوايا بمقدار أكبر مما تنتظره هذه منها، كما لو أن طهران عاصمة الدولة الأعظم وليست واشنطن.
وهنا يبدو الدور الإسرائيلي مهماً، وربما يرقى إلى مستوى التيسير والتعسير. وإذا كان أثره المعيق راجحا بالنسبة لإيران، فقد يكون ميسّراً في ما يختص بسورية. ولا ننسى أنه كان هناك تفاهم أميركي–إسرائيلي صريح أو ضمني على إطلاق التنافس بين السوريين والفلسطينيين في مفاوضات السلام 1992-93. ففى كتابه الجديد «أبرياء في الخارج: كشف حساب الديبلوماسية الأميركية للسلام في الشرق الأوسط»، أشار مارتين انديك إلى استخدام أميركا، وليس فقط إسرائيل، المسارين السوري والفلسطيني بشكل تنافسي بعد مؤتمر مدريد.
ولذلك فالأرجـح أن تؤدي السياستان الأميركية والإسرائيلية إلى إثارة شكوك متبادلة بين طهران ودمشق، خصوصا لدى القيادة الإيرانية. غير أنه يصعب التأكد من إمكان إطلاق تنافس بينهما إلا إذا تعاطت طهران مع التوجه الأميركي الجديد تجاهها بشكل أقل استعلاء أو أكثر تواضعا. والاحتمال الأرجح، في ظل المعطيات الراهنة، أن تبتعد سورية عن إيران خطوة، وليست خطوات، بما قد يؤثر في المدى الذي بلغته علاقتهما وليس في طابعها نفسه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى