الفضائيات العربية في مهب الأزمة العالمية: مصائب قوم عند قوم فوائد!

محمد منصور
يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم هذه الأيام… سيكون لها أثر إيجابي على المشاهد العربي… المشاهد القابع في بيته أمام شاشات المحطات الفضائية، يرتفع ضغطه وهو يتابع الأخبار، ويشعر بالعوز والفاقة وهو يتابع حالة الاقتصاد، ويطرب وهو يتابع الأغاني، ويترفه وهو يجتر المسلسلات، ويضحك مع البرامج السياسية، ويدعم المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني وهو جالس أمام الشاشة أيضاً… ويشعر بمتعة التطهير الدرامي حين يرى مصائب غيره، فيتنفس الصعداء وهو يقول: (حواليّ ولا عليّ)، رغم أنه غارق بالمصائب دون أن يصدق!
أما كيف سيكون للأزمة الاقتصادية العالمية هذا الأثر الإيجابي على المواطن التلفزيوني العربي… فيمكن ببساطة القول، إن هذه الأزمة ستخلصنا من كثير من المحطات الفضائية العربية الفائضة عن الحاجة، وستحررنا من كثير من الوجوه التلفزيونية التي سيكون غيابها ألطف ألف مرة من حضورها، وستتوقف الكثير من البرامج التافهة، التي لا تضيف لرصيدنا كمشاهدين، سوى مزيد من التفاهة والأذى وثقل الدم الذي يلاحقنا من قناة إلى أخرى!
وقد قرأت تقريراً في هذا السياق جعلني أستبشر خيراً، فشركات الإعلانات التي تعدّ المموّل الأساسي للبرامج التلفزيونية جمدّت ميزانياتها حتى شهر حزيران (يونيو) المقبل في انتظار أن ينجلي غبار الأزمة، إذ ان الشركات الإعلانية الخليجية تعوّل أيضاً على مواسم الأعياد كعيد الفطر وعيد الأضحى، لكنّ ذلك يبدو غير كاف لضخ الأموال مجدداً نحو التلفزيونات والقنوات العربية.
وقد امتدت الأزمة لتشمل شركات الإنتاج الفنية التي يعاني بعضها اليوم مشكلات التمويل، وبعضها الآخر مشكلات التوزيع والبيع والشراء.. الأمر الذي ينذر بتوقف شركات إنتاج فني في الخليج وسواه عن الإنتاج… كما سيجبر الكثير من الممثلين الذين بالغوا في رفع أجورهم بشكل جنوني تماماً (من جنون العظمة) إلى العودة عن جنونهم المالي هذا، والاكتفاء بالجنون المعنوي فقط!
ولعل هذا كله، يبشر أيضاً في أن عدد القنوات الفضائية العربية في قائمة جهاز التحكم سيتقلص… وأن هذا البذخ التلفزيوني في كثير من المحطات الخليجية واللبنانية التي لا هم لها، سوى إفساد كل قيمة حقيقة في الفن والثقافة والإعلام والحياة… لا بد سيتقلص، وتظهر عليه آثار التقشف الإعلاني، والذل المالي، الذي سيتماشى تماماً مع التقشف الفكري الذي طالما كان يرتع فيه!
يعني مثلاً… لنفترض أن هذه الأزمة المالية العالمية ستجعل قناة (إم. بي. سي) تعد للعشرة بسبب تقلص الرعاة الإعلانيين، قبل أن تطلق جزءاً ثانياً من برنامجها الغنائي التافه (ألبوم) الذي كلف الجزء الأول منه سبعة ملايين دولار أمريكي، فما الذي سيجعلنا نحزن كمشاهدين وخصوصاً أن حلقات ذلك البرنامج انتهت إلى لا شيء، وانتهت الضجة الإعلامية حوله، وتمخض الجبل فولد فأراً… وأتحدى كثيرين منكم، أن تتذكروا اسماً لامعاً من المتسابقين في ذلك البرنامج غير المأسوف على جزئه الأول… أو الثاني!
ثم لماذا سنأسف إذا علمنا أيضاً، أنّ البرنامج الجديد الذي سيتحفنا به، مذيع المجاملات والتصنع والافتعال (نيشان ديرهاروتينان)، يواجه صعوبات بسبب عدم توافر راعٍ رسمي وغياب الإعلانات… أي أسف سنشعر به، ونحن نتذكر سماجة (العراب) التي لا تحتمل، ووصلات المدائح البلهاء التي كان يسفحها نيشان تحت أقدام الفنانين، كي يأتوا إليه وهم (يستخفّهم الطرب)، بينما تثقل علينا الادعاءات والأكاذيب وعقد النجوم التي تكاد تكون لدى كل واحد منهم مستشفى أمراض نفسية!
هل سنأسف إذا دفعت هذه الأزمة العالمية قناة مثل (الجرس) إلى إغلاق أبوابها والتوقف عن البث، بحيث تكتفي صاحبتها نضال الأحمدية، بما تيتحه لها مجلتها الورقية من فسحة أثيرة لإثارة الفضائح في قضايا ومماحكات فنية سخفية وهامشية؟!
وهل سنشعر بالفقدان والخسارة إذا أغلقت (ميلودي) قنواتها الطربية الفاضحة التي تفسد الذوق والطرب والأجيال والأخلاق… أو إذا كفت قنوات الشعر النبطي السعودي عن إمدادنا بطوابير جديدة من شعراء الركاكة والمفاخرة القبلية، والغزل الأبله، في قنوات مثل (فصول) و(الساحة) و(الإمارة) وغيرها وغيرها!!
والله لا شيء يدعو للأسف… على العكس سيشعر المشاهد العربي ببعض الارتياح والصفاء الذهني، لو قلصت أزمة الاقتصاد العالمي فائض الإنتاج الدرامي التلفزيوني العربي بالمرة… هذا الإنتاج الذي يغرقنا كل عام في موسم رمضان التلفزيوني، فلا نعرف ماذا يشاهد وماذا يترك… وما هو المسلسل الذي يستحق المتابعة، أو المسلسل الذي يستحق اللعنات. ويا حبذا لو أن هذه الأزمة أبقت لنا ما لا يزيد عن عشرين مسلسلاً كل عام، علنا نستطيع الإحاطة ببدعها وعلنا نستريح بذلك من رؤية ممثل واحد في خمسة أو ستة مسلسلات دفعة واحدة… لأن فائض الإنتاج وفر له فائض في الفرص، وفائض من الإطلالة اليومية على المشاهد، بحيث لا يترك أي متنفس لذرة اشتياق!
ليست هي الشماتة الصفراء… ولا الفرح بخربان بيوت أحد… لكنه الفائض الرديء!
أجل هي مشكلة الفائض والنافل والمكرر والمضجر… وهي مشكلة المحطات التي لا تضيف سوى أرقام لقائمة البث، والبرامج لا تقدم سوى استهلاك مساحة من الوقت والبث، والوجوه التي تمارس مهنة لا تمتلك أياً من أدواتها، ولا علاقة لها بها لا من قريب ولا من بعيد!
بهؤلاء نشمت… وبهؤلاء نطلب من الأزمة المالية العالمية أن توقع عليهم القصاص… وبهؤلاء نتمنى للغة الأزمة أن تلعب دورها في لجم الأصوات الركيكة والباهتة، وطردها من سوق الإعلام… ومن فضاء حياتنا… فنحن العرب لا شيء يوقف شططنا في أي مجال من المجالات، سوى دروس الأزمات الاقتصادية!!
بين هجرة (الشام) وبيع (الدنيا):
مأساة المحطات السورية الخاصة!
وبعيداً عن انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية، يعاني الإعلام التلفزيوني الخاص من مشكلة أخرى… إذ يبدو اليوم أنه يخسر القنوات التي كان يأمل منها بعضهم أن تكون بديلاً عن التلفزيون السوري الرسمي، الذي صار بالنسبة لكثير من السوريين حالة ميؤوسا منها منذ سنوات طويلة، وهي حالة تختصر بكلمتين بليغتين: (فالج لا تعالج!)
قناة (الشام) وأدت قبل أن ينطلق بثها، وانتهت إلى القاهرة… فيما رفعت الحصانة عن صاحبها عضو البرلمان السوري محمد أكرم الجندي… بعد أن استدان قرضاً كبيراً من الحكومة وعجز عن التسديد بسبب ‘خربان البيوت’ الذي حل به بعد فترة الإيقاف القسري التي تعرضت لها القناة، وقيل له إنها لن تكون طويلة فإذا بها تمتد اشهراً طويلة!
أما قناة (الدنيا) فيتداول الوسط الإعلامي السوري، خبر عرض مجلس إدارتها القناة للبيع كاملة… بعد أن أدى الصدام مع مديرها المؤسس الدكتور فؤاد شربجي، إلى تقديم استقالته… لتتوالى الاستقالات والإقالات بعد ذلك… ولتحل المسلسلات القديمة والمستعادة على مساحات أوسع للبث، بعد تقليص مساحات نشرات الأخبار، والتقارير والمواد البرامجية الأخرى!
في الظاهر تبدو مشكلة هذه القنوات إدارية ومهنية من الداخل… لكن في واقع الحال، لا يمكن أن نفصل ذلك عن المناخ الإعلامي العام الذي تعاني منه سورية، منذ بزغت عام 2000 أحلام نشوء صحافة خاصة في سورية، تستعيد أمجاد الصحافة العريقة والعظيمة التي كانت قبل حكم البعث… ثم راحت تذوي وتذبل أمام الصدام تارة مع وزارة الإعلام، وأخرى مع كماشتيْ: (مؤسسة التوزيع، ومؤسسة الإعلان) اللتين أنيطا بهما خنق أي تجربة إعلامية بقوة القانون الذي أعطاهما الحق الحصري في التوزيع وفي الوساطة والتحصيل الإعلانيين.. وهكذا انتهت تجربة الصحافة السورية الخاصة إلى إنجازات هزيلة ومخجلة بحق تاريخ سورية العريق، قوامها مطبوعات وجرائد إعلانية، ومجلات ألبومات صور ومجتمع مخملي، وصحف يومية معدودة (لا تهش ولا تنش)!
بالمقياس ذاته، لن يكون حال الإعلام التلفزيوني السوري أفضل، فحين لا يكون بمقدور الإعلاميين الحقيقيين أن يكونوا مؤسسين لقناة، وأصحاب امتيازات إعلامية، وحين يتحالف رأس المال الجاهل مع سلطة تبارك تغييب الإعلاميين وتهميشهم في صنع مستقبل مهنتهم… سوف تهاجر قناة (الشام) وتباع قناة (الدنيا) وستكون (المشرق) أنجح التجارب، قياساً بما حاق بزميلتيها وليس بما يمكن أن يتحقق!
القدس العربي