صفحات أخرى

هجرة الشباب في بلادنا القلقة

null

د.منى فياض

كيف يمكن تقدير ما بلغه مستوى القلق في بلد معين؟ هل هناك مؤشر واحد أم تراكم لإشارات عديدة ومنتشرة؟ لن أقوم هنا بدراسة علمية تقيس مدى بلوغ مؤشر القلق عند اللبنانيين، لكن هناك بعض الظواهر الملفتة التي تفرض نفسها، بغض النظر عن حجم الاكتئاب الذي يقدر الأطباء أن نسبته تثير القلق،
ولا بسبب نسبة الاصابة بالسرطان العالية جدا هي أيضا، وليس فقط لان عمليات القلب المفتوح تحولت الى تدخل طبي جراحي عادي ويومي. لكن آخر تقليعات التعبير عن مدى الخوف والقلق في لبنان هو تحوّل التبصير والتنجيم من تقصي أحوال القلب والزواج او الطلاق والمستقبل المهني لابن او زوج، وترك كلّ ذلك وتحويل «الصبحيات النسائية» الى حلقات تبصير عن أحوال وطن الأرز وهل سينتخب رئيس للجمهورية أم لا؟ هل سنرسم الحدود مع سورية أم لا؟ هل تستعاد مزارع شبعا أم ماذا؟ وهل ستنشب الحرب أم لا؟.

حقيقة كأن البلد تحوّل الى مكان تسيّره عجلة دائمة الحركة اسمها «النقّ» باللبناني. تصعد الى سيارة الاجرة فيتحسر صاحبها على أحوال العام الماضي –التي كانت متدهورة هي أيضا– ويخبرك انه يكف عن العمل في الساعة السادسة (بالتوقيت الصيفي الجديد) وان الشوارع تصبح خالية يحتكرها الجيل الصاعد من الصبية والمراهقين الذين صاروا يتربون على السؤال عن مذهب جيرانهم، ولم تعد للأب عندهم كلمة بل هم رهن لمن يدفع لهم «تكلفة حراستهم» و«سؤالهم عن هوية المواطن» الذي لم يلتزم الحذر فخرج من منزله في يوم غير آمن.

في الحقيقة بلغ الوضع النفسي في لبنان أقصى درجات التأزم. وكما يقول السائق: «العالم كلها مفقوسة» وصارت «النفسية تعبانة». وفي لبنان هناك شكوى من البطالة ومن الفقر وطلب كثيف على الهجرة لكل هذه الأسباب مجتمعة.

ربما هذا الأمر لا يطول لبنان فقط، فالأزمة الاقتصادية التي تطل برأسها الآن تطول مختلف دول العالم، ولقد مرّ العالم بأزمات مشابهة ولا شك في الماضي. لكنه يكتسب الآن بعداً إضافياً بعد ان صار العمل بشكل عام حق لكل مواطن يعطيه معنى لوجوده، وصارت البطالة مصدر الكثير من العلل. من ناحية ثانية يكتسب العمل للطبقات الفقيرة اهمية قصوى، فالعمل هو الرأسمال الوحيد الذي يملكه الفقراء، كما ان زيادة انتاجية العمل تعتبر أفضل وسيلة لتقليص الفقر. ويتطلب هذا تعزيز فرص كسب المال وتنمية رأس المال البشري بغية حفظ التوازن للمواطنين. وفي بلداننا نجد انه بدل تزويد الشباب بمهارات متقدمة تتخطى مجرد الالمام بالقراءة والكتابة من اجل إيجاد العمل المناسب، نكسبهم العداوات والتعصب واستخدام السلاح واتباع الاصوليات المفرخة هنا وهناك. ولهذا نجد انه فضلا عن المشاكل الناتجة على الصعيد الشخصي وعلى عدم القدرة على الاندماج في المجتمع، يمكن ان يصبح الشباب الموجودون خارج قوة العمل لفترات طويلة،عبئا يعيق الاقتصاد والنمو.

يعاني الشباب في العالم العربي عامة من العثور على عمل لائق وهذا لايزال يشكل تحديا رئيسيا لبلداننا. وهم يعربون عن القلق ازاء مدى تيسر العمل ونوعيته ولاسيما فيما يتعلق بالاقتصاد غير الرسمي، حيث لا توفر معظم الوظائف آفاقا مهنية. وينطبق هذا على الشباب غير المتمتع بمهارات، وعلى العديد من الشباب المتعلم ذوي المهارات ايضا والذين يعانون بدورهم من البطالة او قلة التوظيف او غير العاملين في مجالات دراساتهم.

وفي لبنان نجد ذلك كلها بشكل أكثر تركيزا بسبب أزماتنا المتفاقمة. لقد وجهت استمارة الى 15 من طلاب الجامعة اللبنانية في العام الماضي (14فتاة وفتى واحد) تراوحت اعمارهم بين 18 و27 عاما، اسئلة بسيطة تتعلق بتوقعاتهم للمستقبل ورضاهم عن الوضع العام وتوقعاتهم للعمل وهل سوف يعملون في لبنان ام في الخارج؛ وجاءت اجاباتهم فيما يتعلق بالعمل وبالرغم من كونهم في غالبيتهم فتيات كالتالي: 5 من 15 فضلوا العمل في الخارج و10 اجابوا هنا. لكن ذلك لا يعني ان لديهم الثقة بايجاد العمل، ولقد كانت بعض اجاباتهم الحرفية كالتالي: «توقعات مرعبة اكثر من توقعات ميشال حايك، (قارئ بخت آخر) ولكن املي بالله كبير»، «توقعات للعمل سوداء»، «احب العمل في البلد الذي يوفر لي الامان والراحة، ولكن أرفض الانقطاع الكلي عن بلدي».

ولقد توقع 8/15 عدم إمكانية ايجاد فرصة عمل بعد التخرج.

فالمستقبل بالنسبة لهم اما غامض واما مظلم بنسبة بلغت 12من 15 وهذه بعض الاجابات الحرفية: «أخاف منه(المستقبل)»، «ثقة بالمستقبل 30 %»، «المستقبل لا يعني لي شيئا ولكن تقدمي في السن يجعلني أرى مستقبلي قاتما بعض الشيء» ان عمر صاحبة هذه الاجابة 18 عاماً؛ «مستقبلي مع الآخرين ليس لدي ثقة به، أما مستقبلي وحدي فأنا واثقة به»، «لا توجد ثقة بالمستقبل»، «التوقعات غير جيدة»، «توقعات المستقبل غامضة»، «لا ثقة بالمستقبل»، «الثقة بالمستقبل عدم»، «الثقة بالمستقبل بسيطة».

وأكدت ورش العمل في اطار الامم المتحدة وجود عراقيل مؤسساتية (مؤسسية) امام عمل الشباب، فاسواق العمل تقليدية وغير قادرة على أداء وظائفها مما يجعل آليات تداول اليد العاملة في المنطقة ضعيفة، ومن ناحية أخرى فان عدم وجود دعم فعال ومتكامل للمشروعات الصغيرة ساهم في تمدد انماط البطالة بين الشباب، وبخاصة في الدول متوسطة الدخل وتلك التي تقع تحت الاحتلال مثل فلسطين والعراق او التي عانت من الصراعات الاهلية الطويلة مثل لبنان والصومال والسودان والجزائر.

من هنا مدى جدية مشكلة الهجرة وكما اشار تقرير التنمية الانسانية 2002 «حول نتائج استطلاع رأي الشباب- في ان 51 % من المراهقين العرب الاكبر سناً، و45 % من المراهقين الاصغر يرغبون في الهجرة معبرين عن عدم رضاهم عن الظروف الراهنة والآفاق المستقبلية المتاحة في أوطانهم».

وفي الاحصاء الاخير للدولية للمعلومات المشار اليه سابقا نجد ما يلي: تعتبر هجرة الأدمغة، وخاصة الشابة منها، خسارة كبرى للبنان لا تعوّضها جزئياً إلا الأموال التي يحوّلونها إلى أهلهم في لبنان. وعند سؤال المستطلعين عن خيارهم إذا أتيح لهم الاختيار ما بين الهجرة أو البقاء في لبنان، كانت الغلبة لخيار الهجرة إذ فضّل 45,9 % منهم البقاء في لبنان، و38,4 % منهم الهجرة إلى دولة أجنبية، و14,8 % منهم إلى دولة عربية. ورفض 0,9 % منهم الإجابة. وتعود أسباب الراغبين بالهجرة إلى اسباب عديدة: 64,1 % بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، 29,2 % بسبب عدم توافر الأمن، 22,6 % عدم توافر مستوى تعليمي جيد، 20,3 % تفشّي الطائفية، 2,5 % عدم توافر فرص العمل.

من هنا خطورة الوضع وضرورة العمل على تلافي الخسارة المزدوجة الحاصلة في بلادنا، خسارة العناصر الشابة المختصة والموهوبة والخسارة الاقتصادية المتمثلة في الصرف على تهيئة كوادر وعدم الاستفادة منها محليا.

والظاهرة تصبح أكثر من مقلقة عندما تشير الارقام الى ان عدد السكان يبلغ في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا حوالي 300 مليون نسمة، وحوالي الـ50 % منهم تحت سن 24 سنة. ما يعني أن 160 مليوناً في المنطقة سوف يحتاجون الى العمل حتى العام 2010!؟

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى