صفحات الناس

ثكنة ادهم إسماعيل

null
سعاد جروس
رفضت الطفلة الصغيرة استخدام المصعد الكهربائي للوصول إلى مركز أدهم إسماعيل، وأصرت على أمها أن تصعد الدرج، وصعدته قفزاً كفراشة يطيرها الفرح والأحلام، وأمام الباب وقفت مع والدتها التي قرعت الجرس، فيما كانت تجلس على الدرج سيدة شابة تحمل أدوات رسم، بدا وكأنها تنتظر.
بعد أول كبسة على الجرس وثانية وثالثة ورابعة… والباب لا يفتح، الإنارة شغالة واليافطة على الباب تؤكد أن هذا هو مركز ادهم إسماعيل الذي سمعت عنه من أقاربها وأصدقائها أنهم تعلموا فيه الرسم في الطفولة، ولدى دخولهم كلية الفنون، ولكثرة ما سمعت عنه تملكتها الرغبة في أن تلحق ابنتها الصغيرة ذات الست سنوات المدمنة على الرسم بإحدى دوراته . الطفلة تلقفت هذه الرغبة وصارت بالنسبة إليها حلماً لذيذاً، وراحت تذكر أمها صباح مساء بالذهاب إلى مركز ادهم إسماعيل.
طال الانتظار على الباب، وكادت الأم أن تهم بالمغادرة سيما وأن قريبة لها كلفتها بالسؤال عن المركز قد جاءت في اليوم السابق ومكثت تقرع الجرس لأكثر من ربع ساعة، لكن لا جواب، رغم أن الأنوار مضاءة، وحين عادت إلى البيت بحثت في الانترنيت عن موقع المركز عسى تجد معلومات تفسر لها إغلاق بابه الذي عرفته أيام دراستها الجامعية مشرعاً أمام الجميع كباقي مؤسسات الدولة، أو على الأقل أسوة بالمراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، إذ لا بد وكأضعف الإيمان أن يكون هناك موظف استعلامات أو حاجب يرد على استفسارات الزائرين . بعد أن بحثت عن موقع المركز على الانترنيت وجدته معطلاً، وبالبحث في مواقع سورية أخرى حصلت على رقم الهاتف، وراحت تحاول الاتصال مراراً وتكراراً من دون ملل، تارة يكون مشغولاً وتارة أخرى لا أحد يرد. أخبرت والدة الطفلة بما جرى، فارتأت الأخيرة أن تذهب إلى المركز لتحاول بنفسها. وبعد انتظار انفتح الباب، واطل منه كائن ما، مد رأسه للخارج ساداً بباقي جسده انفراج الباب، وقال بجفاء وكأن الزائرة جابي ضرائب المالية أو مسلح يريد اقتحام المكان، لا سيدة تصطحب طفلتها التي تكاد أن تطير كالأثير نحو جنائن الألوان.
ـ نعم ماذا تريدين؟
ردت: أريد الدخول إذا أمكن لأقابل مديرة المركز؟
سألها باستغراب : لديك موعد ؟
ـ لا، حاولت الاتصال بالهاتف منذ عدة أيام، وكان مشغولاً حينا أو لا احد يرد باقي الأحيان.
ارتفعت لدى ذلك الكائن درجة الجفاء والفظاظة ليقول:
ـ نحن نزعنا فيش الهواتف لأننا منشغلون كثيراً ولا وقت للرد على أحد!!
سحبت نفسا عميقاً قبل أن تنفجر غيظا وبهدوء سألت:
ـ كيف أقابل مديرة المركز أو المسؤول عن دورات الأطفال؟
ـ ممنوع الدخول وانتهى التسجيل بالدورات منذ عشرين يوماً؟
انفجرت غاضبة في وجهه: أهكذا تستقبلون الناس؟ هل هذا مركز لتعليم الرسم أم ثكنة عسكرية حتى تغلق على هذا النحو ؟ لماذا لا تعلقون إعلاناً على الباب تعتذرون فيه عن الاستقبال، أو تصلحون موقعكم على الانترنيت؟ كنا على الأقل لم نتكبد عناء المجيء إلى هنا ومحاولات الاتصال بدون جدوى.
انصرفت غاضبة تبربر لا تلوي على شيء، أما طفلتها فقد ذوت كزهرة ذابلة تجرجر الخيبة قدميها الصغيرتين تحت شمس الظهيرة. الطريق لم يكن طويلا إلى المركز الثقافي الروسي ولسان حال الأم يقول كان من الأول يجب الذهاب إلى الروس وبلا قرف مؤسساتنا.
في المركز الثقافي الروسي استقبلها موظف الاستعلامات بوجه بشوش، مازح الطفلة وقال إن لديهم دورات رسم ورقص وموسيقى وكل ما ترغب في تعلمه، وان المدرّسة لطيفة جدا وستحبها كثيرا لأنها كما يبدو طفلة مميزة، أما مدير المركز فأظهر حفاوة خاصة واهتماماً كبيرين بزائرته الصغيرة التي لا بد ستحب الثقافة الروسية والفنون الجميلة الراقية …
انتهت قصة الطفلة نهاية سعيدة كما أملت الأم التي سرعان ما نسيت مركز ادهم إسماعيل، لكن نحن وكل من يعرف هذا المركز في أيام عزه لن ينسى أن هذا الموقف مؤلم ومحزن، بل مخز ومعيب، فلا يستحق تاريخ هذا المركز ولا اسم ادهم إسماعيل ولا حتى وزارة الثقافة السورية تصرفات كهذه غير لائقة، تسأل عنها إدارة المركز قبل ذلك الكائن الذي سد الباب بجسده، لأن هذه المؤسسة الصغيرة التي كانت حضناً دافئاً لمحبي الرسم وملجأ للمواهب التي لا تستوعبها كلية الفنون، من المؤسف جداً أن تصبح ثكنة مغلقة على عدد محدود من الناس. علماً أن سوء المعاملة وما يترتب عليه من سوء سمعة لا يصيب الإدارة، بل المؤسسة الثقافية السورية عموماً، ويسيء إلى جهود الفنانين والمثقفين الذي بنوا هذا المكان، وصنعوا اسمه المرموق بكدهم وحبهم للفن والثقافة والوطن والإنسان، ولا يحق لذلك الكائن ولا أي كائن كان، التصرف وكأن المركز مزرعة خاصة، يمنع الزوار من الدخول بفظاظة.. لأن لا أحد يقول له ولا للمسؤولين عنه ما أحلى الكحل في عيونكم .. طالما هم قادرون على تجميل صورهم في الصحافة والإعلام وتقديم صورة ايجابية عن نشاطاتهم الرائعة، وطالما أن من يلقى سوء معاملة منهم يعمل بمبدأ “الجامع مسكر ونحن بغنى عنه” وهذا أخطر ما يصيب الشعور الوطني، فينسى الإساءة بمجرد وجد البديل في مركز ثقافي أجنبي ـ وما أكثرها ـ يتلقفه كالأرض العطشى، مؤسف جدا أن تتداعى مؤسسات ثقافية ناجحة تعد من المكتسبات الهامة، بدل الحفاظ عليها وتعميمها في باقي أرجاء البلاد وبالأخص المناطق النائية، حيث تنبت المواهب كالزهور البرية؛ تتفتح في الربيع ليقضي عليها اليباس في الصيف. ومؤسف أن لا يوجد من يدافع عن حقه في تلك المؤسسات، فيما ينشط الأجانب على أراضينا لنشر ثقافتهم وتمرير أفيالها من خروم الإبر، فيما تبقى ثقافتنا فريسة الجهل واللامبالاة والفساد.
أخيرا نرجو ألا يفهم كلامنا على أنه نقد لوزارة الثقافة والمعنيين بالشأن الثقافي في بلدنا، وإنما فقط للفت عنايتهم إلى ما يجري، فهذا ليس سلوكا فرديا غير مسؤول، وإنما مؤشر على عمق الشرخ في بنيان المؤسسة الثقافية، وكلنا أمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى