“خريف البطريرك” وشتاء الغضب بتونس
أمجد ناصر
عندما قام الكاتب والمترجم التونسي محمد علي اليوسفي بترجمة رائعة ماركيز “خريف البطريرك” كان في ذهنه أن يستضيف بالعربية عملاً روائياً فذاً بالتأكيد، ولكن من المحتمل أنه فكِّر كذلك في حياة بطريرك آخر حكم بلاده تونس بمزيج من الأبوية والقسوة والطرافة والانفراد المطلق بالحكم، هو الحبيب بورقيبة الذي كان في الهزع الأخير من خريفه الطويل.
كثير من التونسيين قالوا يومَها، كأنّ ماركيز كتب تلك الرواية عن بورقيبة الذي بدا لهم (ولغيرهم) أنه لن يغادر قصر قرطاج أبداً. لاحقاً سيقول عرب آخرون كأن ماركيز كتب رواية “خريف البطريرك” عن حكام بلادهم.
تلك هي -في كل حال- ميزة الأدب الحقيقي الذي يستطيع أن يحوّل الواقعة المحلية إلى أمثولة عابرة للأمكنة والحدود والثقافات، فرغم اختلاف الأمكنة والثقافات هناك تجارب إنسانية متشابهة قبض عليها الأدب وصيَّرها مثالا إنسانيا.
هكذا قبض المتنبي على لحظات إنسانية خالدة في بعض شعره عبرت الفضاء العربي إلى فضاءات أخرى، ولهذا السبب يبقى شكسبير معاصرنا عندما وضع يده على نزعات إنسانية شبه ثابتة وعابرة للأزمنة يمكن أن يتوحد فيها الإنجليزي بالعربي بالياباني بالأفريقي بالأميركي اللاتيني، ولأسباب مشابهة نعود إلى كفافي وأبي العلاء المعري والرومي وديستوفيسكي وغوته ودانتي وسرفانتيس وابن عربي.. إلخ.
هناك رئيسان تعاقبا على تونس منذ الاستقلال.. لم يعرف ذلك البلد العربي سوى بورقيبة وبن علي.. أجيال جاءت وراحت، عقود تعاقبت، شموس أشرقت وأغربت ولم يجلس في قصر قرطاج سوى رجلين حكما بلادهما باسم حزب واحد. التشابه بين شخصيتي الرجلين محدود، لكنَّ هناك “شرعيتين” طبعتا لحظتي حكميهما الأوليين: شرعية “الاستقلال” بالنسبة لبورقيبة، وشرعية “التغيير” بالنسبة لبن علي.
الاستقلال والتغيير
لم تدم اللحظتان طويلا، فالاستقلال التام، بمعنى العلاقة الندية مع الآخر، العلاقة المتكافئة التي تغلِّب المصلحة الوطنية على أي شيء آخر، لم تعرفه تونس (ولا معظم -إن لم نقل كل- البلدان العربية التي خرجت من معطف الاستعمار)، أما التغيير (شعار بن علي وشرعية حكمه) فلم يكن سوى سحابة صيف سرعان ما تحولت إلى غيمة ثقيلة رازحة. فهناك على ما يبدو، شيء “شكسبيري” في الحكم، في الإمساك بزمام القوة، هناك إغواء في الحكم لا يقاوم.
حكماء الحكم وزهاده قلة.. التاريخ لا يمدنا بأسماء كثيرة على هذا الصعيد.. العكس هو الصحيح. حتى في البلدان التي لا يتأبَّد فيها الحكم لواحدٍ أو واحدةٍ، هناك ما يردع هذا التأبّد: القوانين وليست النفوس الكبيرة الزاهدة، فليس سهلاً على الحاكم أن يعود إلى “صفوف الجماهير”، على حد تعبير عبد الناصر غداة هزيمة يونيو/حزيران. حتى عبد الناصر الذي أعلن رغبته في العودة “إلى صفوف الجماهير” عاد عن “رغبته” تلك إلى الحكم بطلب من “الجماهير”!
هناك مثال عربي واحد معاكس هو الجنرال السوداني عبد الرحمن سوار الذهب. لكن أنَّى لنا أن نعرف كيف سيكون موقف سوار الذهب حيال تراقص جنيات السلطة لو أنه بقي في الحكم فترة أطول، أقصد لو أنه أدمن ذلك المخدِّر العجيب الذي يسمى “السلطة”؟ لا نعرف.
خريف البطريرك
في “خريف البطريرك” هناك دكتاتور يتخلل -باسمه وأفعاله وفضائله- كل شيء في بلاده. إنه يعبر الأزمنة ويتكرر في نسخ من صنع ذاته حتى ليبلغ عمره 232 عاماً عندما يتأكد مواطنوه أنه مات فعلاً! هو الأمة والأمة هو.. إنه موجود ومحتجب في آن.. إنه في الهواء والمرايا وأحلام الناس وتقلبات الطبيعة.
لم يبلغ الحبيب بورقيبة عمر بطريرك ماركيز (مات عن 97 عاماً). لكنه بدا، حتى لحظة سقوطه على يد من جاء به ليكون ساعده الأيمن (بن علي) كأنَّه باق أبداً. قلة من التونسيين يحتفظون بذكريات ترقى إلى زمن لم يكن موجوداً فيه بورقيبة.
فمن يتذكر الملك محمد أمين باي؟ بل من يتذكر أن تونس كانت ملكية؟ كان حضور بورقيبة كلياً في بلاده.. حاز الألقاب الممكنة لحاكم أرضي، فهو المحرر.. الزعيم.. المجاهد الأكبر.. صانع الأمة.. الرئيس مدى الحياة.. بلغ به الفخار وحب الذات إلى حد القول إنه صنع من حفنة غبار أمة حديثة (شعبه).. قاس، لكنه ظريف.. يعبس ويبتسم في الوقت نفسه.. جدي ومهرج.. ممثل على طريقة يوسف وهبي (كان مولعاً به على حد قول من كتبوا عنه).
قد يكون الزعيم المسلم الوحيد الذي أجاز لشعبه الإفطار في رمضان، بل قدم مثالاً عملياً عندما شرب أمامهم على التلفزيون. تلك شخصية روائية. وربما كان هذا -كما أشرت- في ذهن محمد علي اليوسفي عندما نقل إلى العربية رواية “خريف البطريرك”.
لكن شيئاً من هذا ليس موجوداً في شخصية بن علي، فلا تلوّن في شخصيته.. لا حضور لها إلا ما تمنحه السلطة بالإكراه.. رمادي في طبيعته على ما يبدو.. مضجر. الشيء الواضح فيه: مظهره الذي يحافظ عليه جيداً.. شعره المصفف بعناية شديد السواد.
وسيلة وليلى
يقال إنه يحب التكنولوجيا. التلوّن الوحيد الذي طرأ على تلك الشخصية وجعلها تدخل في حيّز “الإغراء الأدبي” (يا للمفارقة) زوجته الثانية: ليلى الطرابلسي. هذا عنصر مشترك بينه وبين “والده الروحي” الحبيب بورقيبة الذي خلعه عن عرشه الخرِف، فقد قيل إن وسيلة بن عمار كان لها اليد الطولى في سياسات بورقيبة في سنيه الأخيرة.
صورة ليلى الطرابلسي كادت تطغى على صورة زوجها في الشارع التونسي، وقد يكون جشعها وتغوّل عائلتها من الأسباب التي أدت إلى سقوط زوجها، إذ لم تبق مصلحة مهمة في البلاد ليست لها صلة بها أو بأفراد عائلتها. إنها “اليد المبسوطة على تونس” بحسب تعبير كتاب فرنسي وضع عنها. توصف بأنها “ليدي ماكبث” تونس. شكسبير يحضر ولكن بمهزلة على الطريقة العربية.
بين بداية حكم بن علي ونهايته تكمن مفارقات عدة، لكن أبرزها هو الانقلاب التام على الوعود الأولى. فلنتذكر أن أولى وعوده كانت: احترام الحريات.. المصالحة الوطنية.. سيادة الشعب.. دولة القانون والمؤسسات.. تعديل الدستور وإلغاء الرئاسة مدى الحياة والخلافة الآلية!
لم يبق بند من هذه البنود على قيد الحياة.. قضت كلها تباعاً على طريق تأبيد “مفخرة تونس” في الحكم، وبدا أن لا أحد يعترض، لأن “رجل التغيير” -“البطريرك” الرمادي والمضجر- كمم الأفواه وفرض صمتاً مديداً على شعبه.. لكن الغضب كان يحفر في الداخل.
غضب عمودي كان ينتظر شاباً يدعى محمد البوعزيزي ليضرم النار في نفسه ويفجر صاعق الغضب المكتوم. وها هو الغضب يهب رياحاً ساخنة على تونس.. ومن المحتمل -بل من المؤمل- أن تجتاز رياح تونس الحدود حيث هناك “بطاركة”، زعماء خالدون ومؤبدون يحكمون قبضاتهم على أعناق شعوبهم.