زمن عربي جديد! من الثورة بالسلطة إلى التغيير بالشعب
ميشيل كيلو
افتتحت ثورة جمال عبد الناصر في تموز من عام 1952 مرحلة تاريخية جديدة في حياة العرب، قامت على فكرة رئيسة سدت ثغرة بدت قاتلة، هي أن الأحزاب لم تكن قوى تغيير ثوري، لأن برامجها جزئية، طبقية وضيقة، لا تحمل أو تضمر أية رؤية تاريخية بعيدة المدى تتركز على المجتمع نفسه، وترسم سبل العمل لتحريره من احتجاز مديد أنهكه وعرّضه للسقوط في أيدي الاستعمار والقوى الخارجية، وحال بينه وبين تحقيق أي تقدم من شأنه فتح الطريق لخروجه من حاله إلى وضع بديل يتيح له تقدما غير محدود وتحديثا عميقا يغيره على صعيد البنية والجذور، بينما السلطة الحاكمة حكومة طبقة مالكة لا مصلحة لها في ثورة أو تغيير إصلاحي حقيقي، تفتقر بدورها إلى مشروع تاريخي يتخطاها إلى المجتمع والدولة، في حين تدور الطبقات المالكة نفسها في دائرة مصالح وحواضن داخلية محدودة جدا وخارجية واسعة، لكون قواها الذاتية لا تمكنها من إنجاز تحرر اقتصادي يؤسس سوقا رأسمالية عامة، وطنية ومستقلة، تساعد على إعادة إنتاج المجتمع في إطار تطور رأسمالي غير مقيد، وفتح أبواب الاقتصاد والسياسة على البلدان العربية الأخرى، وتاليا على تبني برامج وحدة عربية تتضمن استراتيجية شاملة يمكن أن تنشئ حراكا مجتمعيا / شعبيا مستقلا، وطنيا وقوميا، من نمط يوفق بين السياسات والمصالح في كل بلد عربي وداخل بلدان العرب المختلفة، فيفتحها بعضها على بعض، ويؤسس توازنا للعدالة والمساواة بين أطرافها يمدها بالقوة والمناعة، ويقيها الأخطار والتحديات، التي لن تقوى على مواجهتها ما دامت منفردة، فضلا عن أن هذه الطبقات أتبعت نفسها بقوى خارجية متنافسة / متصارعة، حملتها تناقضات وصراعات لا مصلحة لها فيها، ما ان خاضتها، حتى حولت الوطن العربي إلى ميدان يسرح الآخرون فيه ويمرحون، مع أنهم خصومه.
في ظل طبقات ضعيفة ومقيدة التبلور والآفاق، وسلطات متهالكة تدير أزمات مجتمعاتها وتسهر على مصالح قلة مذعورة ومعادية لشعبها، ودول عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وعن تنمية بلدانها وصيانة استقلالها، وأحزاب سطحية الجذور محدودة التوطن في مجتمعاتها، لا تدرك جميعها أهمية التقاطعات المجتمعية العامة، العابرة للطبقات، في العمل السياسي والعام، ولا تفرق بين برامجها وبين الشأن العام، ولا تمتلك استقلالية فكرية عن الأيديولوجيات المتناقضة التي تبنتها وربطت مصيرها ومصير مجتمعاتها وجماهيرها بمقولاتها، وتبعية مستشرية واحتلال قائم في كل قطر ومصر، كان من الطبيعي والحتمي أن يكون برنامج الثورة الناصرية، العسكرية، التي أتت من خارج صفوف الأحزاب والطبقات والسلطات القائمة المأزومة، شديد الإيجاز: التغيير بواسطة الدولة: بقيادة سلطة تقويها وتوحد المجتمع حولها، تستغني عن الأحزاب التي تفرق صفوفه، وتثير تناقضات بين مكوناته، تقوم استراتيجيتها على تحديث المجتمع وتغييره، وجعله حديثا ومنتجا وقادرا على اللحاق بالعصر، على صعيدي وجوده الوطني والقومي، مع ما يتطلبه هذا من نزع صفة الطبقية عن الدولة، والحزبية عن السلطة، والقطرية عن السياسة، والأنانية والاستئثار عن الاقتصاد.
كانت خطة التغيير، التي طوت زمن الإقطاع والرأسمالية، واضحة: البدء بتغيير السلطة وتحديثها في طور أول، كي تغير المجتمع وتحدثه في مرحلة تالية، على أن تستخدم أدوات السلطة كوسائل تغيير، مع ما قد يفرضه ذلك من سياسات قبضة حديدية لطالما كانت من مستلزمات التراكم والحصول على مصادر تمويل وتنمية، في البلدان الأخرى أيضا.
بتعميم هذه الخطة الاستراتيجية على بقية البلدان العربية، بعد نجاح الثورة وتحقيق إنجازات بدت خارقة في حينه، عرفت بلداننا العربية زمن سيطرت السلطة فيه على الدولة والمجتمع، وقام نظام واحد على وجه التقريب في كل مكان، تكاملت عناصره بعد غياب عبد الناصر، الذي واجه مصاعب هائلة، بينما كان يحاول ضبط السلطة وموازنة دورها مع أولية دور الدولة ومصالح المجتمع. لكنه لم يفقد الهدف الرئيس في أي وقت: بناء الدولة عبر تغييرات تطاول توزيع الثروة والسلطة، وتحويل المجتمع الحديث نفسه إلى حامل دولة حديثة تخضع السلطة لهما وترى نفسها بدلالتهما وتخدم مصالحهما.
بعد انقلاب السادات وغياب الناصرية، تبلور في كل مكان من عالمنا العربي نظام سلطوي تخلق بصورة تامة بعد هزيمة حزيران وكان استجابة لها، قام على وجود سلطة مطلقة، تعيد إنتاج المجتمع والدولة حسب مصلحتها ورؤيتها، وتفرض عليهما بما يتوافر لها من أدوات إكراه معنوي ومادي، رؤية نفسيهما بدلالتها والرضوخ لها وخدمتها. بما أن هذه السلطة اكتسبت منذ البداية طابعا شخصيا وتحولت إلى سلطة فردية أنتجت نفسها من رأسها، فإن تحولا تاريخيا خطيرا أصاب التصور الأصلي للتغيير ومشروعة وقلبهما رأسا على عقب، ما عتم أن نزل بالوضع العربي إلى درك أدنى بكثير من الدرك الذي كان عليه قبل تموز 1952، جسده نقل السياسة من طور اتسمت فيه كفاعلية عامة بالجزئية والحزبية إلى طور فقدت فيه عموميتها وانحدرت إلى ما دون الجزئية والحزبية، إلى الشللية والعصبوية، ثم أخرجت بصورة تامة من المجتمع، قبل أن تغدو محرما لا يجوز لأحد من خارج دوائر السلطة العليا الاقتراب منه أو ممارسته.
إلى هذا، قوضت السلطوية بصورة تكاد تكون كلية أي نسق فكري أو عملي يعبر عن استقلالية الفسحة المجتمعية النسبية، ووضعت يدها على كل ما يفترض أنه ملك المجتمع الدولة من ثروة وحرية ومعرفة ومؤسسات وعلم وإعلام وتنمية، مغلقة بذلك جميع سبل التغيير والإصلاح، وأبطلت جوامع الهوامش الحرة والشخصية لأية حراك مجتمعي يمارسه المواطنون، وقوضت الأحزاب، وأضفت طابعا كاريكاتيريا على سائر أشكال التمثيل السياسي والشعبي، وزورت إرادة الناس بعد أن صادرتها، وقلبت الأحوال فتحولت من سلطة تحدث نفسها كي تحدث مجتمعها، إلى سلة تحتجز حرية وتقدم كل فرد في وطنها، ومجتمعها ودولتها بصورة عامة، تحدث نفسها أمنيا وقمعيا ليمكنها الحيلولة دون بلوغهما أي نوع من أنواع الحداثة والتقدم، وكي تنجح في إعادة إنتاجهما في إطار تأخر مادي وروحي لا يني يتعاظم ويتفاقم، يدفع ثمنه المواطن أينما كان ومهما كان موقعه هامشيا، لأن كل مواطن يجب أن يشعر بأثره الجسيم على حياته، وإن بأشكال ودرجات متنوعة/ متفاوتة.
ليس هناك في وطن العرب نظام لا يجسد هذه الحالة بصورة تكاد تكون نقية. وليس هناك نظام تجسدت فيه أكثر مما جسدها نظام تونس، الذي وحد السلطة وأضفى طابعا أمنيا صرفا عليها، وشق الشعب، وألغى الأحزاب، وطارد النخب والنقابات، وقوض المجتمع المدني، ووضع يده على أرزاق الناس وأموال الدولة، وشخصن الحياة العامة والسياسية وحول رئيسه إلى إله سياسي عبده وفرض عبادته على الشعب، وأخضع لسيطرته المطلقة الإعلام والتعليم والسلطة والثروة والضمائر والذمم، وأضفى طابعا أسريا/ عائليا، إقطاعيا وعصبويا على الحقل السياسي وخاصة منه السلطة، التي حولها إلى سلطة دولة تملكها وتستأثر بمقدراتها أرضا وشعبا أسرتا الرئيس بن علي وزوجته، بينما فتكت البطالة والهامشية بالمواطنين، وعانى الناس الأمرين من الملاحقة والقمع والتجويع والإفساد، وتناقصت حصتهم من ثروات وطنهم التي ينتجونها بأيديهم وعقولهم، وسدت منافذ النجاة في وجوههم غير منفذ السجن والتجويع أو الهجرة والقتل، وبدا أن مملكة ألفية نشأت في تونس لتدوم، وأن أحدا لا يجرؤ على تحديها أو مواجهتها، وأن وضعها لا يمكن أن يتزحزح أو يتبدل، لأنها تمشي كالساعة، كما يقال، فلا مجال لمقاومتها، خاصة في بلد تم تحجيم معارضته أو إخراجها إلى المهاجر، وتشويه سمعة قادتها ورموزها وتخوينهم، وتخويف الشعب منهم ومن الثمن الذي قد يدفعه إن هو أقام أية صلة مهما كانت واهية معهم، أو تعاطف مع ما يقولونه ويطالبون بتحقيقه من إصلاح وتغيير.
لم يعد هناك اليوم بن علي، الذي تهاوى نظامه بسرعة لافتة، وسينهار تماما إن عرفت المعارضة كيف تتفادى الخلافات والصراعات والمصالح والمنظورات الحزبوية والجزئية الضيقة، وتوحد نفسها على أسس عامة متوافق عليها تلتزم جميعها بتطبيقها طيلة مرحلة انتقال مديدة ترسي خلالها أسس مجتمع مدني حديث ودولة تعبر عنه، بوسع المواطن العادي فهمها وقبولها. وفهمت كذلك كيف تبقى الشعب موحدا وفي حالة يقظة واستعداد باعتباره هو من صنع الثورة وأسقط النظام، وعليه الحفاظ على بديلهما، وكيف تنظمه وتكسب وده وتنجح في نيل دعمه وتتوطن فيه: في أحيائه ومنازله وأماكن عمله ومدارسه وهيئاته التمثيلية، وكيف تقيم سلطة بديلة على مستواه، عند القاع المجتمعي، تتولى إدارة شؤونه وتقيد عمل السلطة الاستبدادية القائمة وحزبها ومؤسساتها القمعية، ريثما تحسم مصيرها، فإن أعيد إنتاجها في أشكال جديدة قاومتها بالسلطة الشعبية البديلة، وإلا تحولت هذه السلطة إلى سلطة رسمية هي الوحيدة في الدولة، لها طابع شعبي مدني يختلف عن طابع ثورة تموز 1952 العسكري، فلا مفر من أن تفضي إلى نتائج مغايرة لنتائج ثورة مصر، التي مهد فشلها لصعود السلطوية كنظام عربي بديل وشامل. لقد قوضت ثورة الشعب التونسي إحدى قلاعه الحصينة الرئيسة، لذلك ينتظر الشعب العربي أن تؤسس دولة غير سلطوية وغير قمعية: مدنية، أي مجتمعية وديموقراطية هي دولة حريات وعدالة ومساواة وتقدم وحداثة، لا بد أن تبدأ معها حقبة تاريخية جديدة في حياة تونس والعرب، تكمل انطلاقتها من تونس الشعب، التي تشق اليوم دربا للعرب وللشعوب المقهورة، يستحيل على السلطوية أن تبقيه مغلقا.
مع ثورة تونس، ينتقل مركز الفعل التاريخي العربي إلى القاعدة الشعبية، لأول مرة في عصرنا الحديث، ومنذ قرون طويلة جدا، وتحمل الحركة الشعبية سمة رئيسة تميزها هي عداؤها للاستبداد والتمييز الاجتماعي والسياسي، وتشكلها في رحم غير حزبي أو سلطوي، فهي حركة شعب وليست حركة أحزاب أو عسكر، وهي التعبير الأكثر صدقا على مر تاريخنا عن إرادة الإنسان المقهور، الذي طفح به الكيل، فكنس نظام السلطوية من وطنه، في تأكيد ساطع على أن القدر يستجيب لأي شعب يريد الحياة، وعلى أن كل من يسير على درب يصل!