مِزقةٌ في العمامة…
جهاد الزين
في زيارتي الأخيرة لطهران قبل سنوات، سألت السيد محمد علي ابطحي وكان يستقبلني في شقته الفخمة في طهران بعد ان اصبح اسماً اساسياً بين اسماء فريق رئيس الجمهورية يومها السيد محمد خاتمي وعين احد نواب الرئيس في ولايته الثانية…
سألت محمد علي ابطحي:
كيف سمح الرئيس خاتمي باعتقال واضطهاد صديقك “ما شاء الله شمس الواعظين” وهو الصحافي البارز و”الاصلاحي” الذي لا شك بدعمه لتياركم؟
ابتسم السيد ابطحي وقال ساخراً (باللغة العربية): ذهب “شمس الواعظين” بعيداً… بعيداً جداً… نحن لا نستطيع اللحاق به!
كان الرئيس خاتمي في الواقع قد بلغ درجة كبيرة من الضعف يومها حيال الاجهزة الامنية المسيطرة، “شبه مستسلم” امام المتشددين الذين يطلقون “موجات” ضغط ضد اعداد من المعترضين على مستويات عديدة… لاسيما عندما بدا ان الرئيس خاتمي وفريقه يحاولان فتح حوارات مع القوى الغربية وبعض العربية، وسط تجاوب سعودي مثّله “ولي العهد” عبدالله بن عبد العزيز وتحفّظ مصري (كان ابطحي نفسه “مندوب” خاتمي المفضّل لدى عبدالله).
ها هو الآن محمد علي ابطحي معتقل… حسب الاخبار الآتية من طهران صباح امس. فيما الزميل ما شاء الله شمس الواعظين لا زال (حتى اللحظة)… طليقاً.
اذن… ايضاً محمد علي ابطحي ذهب بعيداً هذه المرة… بعيداً جداً. طبعاً اشك في ان يبقى معتقلاً لمدة طويلة قياساً بشمس الواعظين الذي امضى سنوات صعبة في السجن، وكان مع كل اعتقال يشهد على اغلاق صحيفته… فيخرج ليصدرها باسم جديد… مع نجاح مهني جديد.
• • •
المعطى، او احد المعطيات الكبيرة، لاحداث ما بعد الانتخابات، ان “تورّط” امثال محمد علي ابطحي، كصف ثان بارز، يضيء على درجة الانخراط الاعتراضي بل التنظيمي لاسماء الصف الاول مثل مير حسين موسوي كذلك خاتمي ومهدي كروبي… وهما من قيادات تنظيم “روحانيون مبارز” النافذ جداً في الثمانينات من القرن الماضي ناهيك عن القطب الدائم في النظام هاشمي رفسنجاني وغيرهم وغيرهم.
هنا بضع ملاحظات:
1 – قد تكون ايران امام اول انشقاق من نوعه داخل النخبة الحاكمة، صحيح ان النظام الايراني قام دائماً على تنافس وتجاذب الكتل السياسية والايديولوجية الدينية، الا ان هذه الصراعات لم تتوسل سابقاً – والى هذا الحد – القوى “الشارعية” في طهران والمدن الاخرى ضد بعضها البعض. فبعد انتهاء مرحلة “التصفيات” العنفية “الغامضة” التي اودت بالعشرات من معظم قادة الصف الاول في اوائل الثمانينات، كانت الصراعات داخل النخبة الحاكمة مضبوطة بآليات المؤسسات. فالمسلم به ان النظام الايراني ليس نظاماً ايديولوجياً تقليدياً. السيطرة فيه لا تقوم على الفرد وحده، حتى في ظل ولاية الفقيه، خصوصاً بعد الامام الخميني، بل على “توازن مؤسسات الاستبداد”… التي تمنح للنظام حيوية حركية متعددة المراكز.
هذه المرة يبدو الامر وكأن حلقة ما انكسرت في الهيكل… فأفلتت – ولو مؤقتاً – قوى الاعتراض من هيكلها الحركي الممسوك والمتماسك؟
2 – اذا لم تكن النخبة المعترضة على رئاسة احمدي نجاد تواجه للمرة الاولى خطر استبعاد كامل لها من اي دور سياسي، مما يجعلها مهيأة لبعض “المغامرة” في الاعتراض الشارعي – من الصعب جداً تصوّر وضع يذهب فيه هؤلاء المعترضون الكبار – وهم جميعاً مؤسسون بارزون في النظام بعد 1979 – الى حد قيادة ثورة على النظام نفسه. خصوصاً ان هؤلاء يعرفون، ان قوى الطبقة الوسطى في المدن الكبرى، وخصوصاً بين الشباب والنساء التي ايدت سابقاً محمد خاتمي، ثم عادت وجددت تأييدها لمير حسين موسوي، هي قوى بينها فئات واسعة تعترض على النظام الديني نفسه ولا تجد الا هذه النافذة – اي انتخاب معارض من داخل النظام – للتعبير عن موقفها. انها اذن – اجتماعياً – قوى معارضة للنظام الديني تحت قيادة رموز اساسية من النظام… وحتى انفجار التظاهرات الاخيرة… كان هذا الاعتراض يخدم النظام نفسه الذي يتحكم بمتنفساته.
3 – لا سابق بهذا الشكل لظهور “الحرس الثوري” (وملحقاته العسكرية) كقوة هجوم متماسكة ضد المعترضين من داخل النخبة الحاكمة. صحيح انه قوة الدفاع الدائمة العسكرية الاولى عن النظام الديني، انما لم يسبق ان مارس هذا المستوى من الاعتقالات لوجوه “حاكمة” او كانت حاكمة حتى لو افرج عن معظمها لاحقاً.
4 – حتى اللحظة – وهذا منطقي – لم ينف اي معلّق او خبير او ديبلوماسي اميركي متابع للوضع الايراني شعبية الرئيس احمدي نجاد. بل حتى احتمال ان يكون فاز بأغلبية غير واسعة بسبب الكتل التي تقف وراءه: “حرس ثوري” موحد مع قاعدة تجيير اجتماعية… “المرشد الاعلى” وقدرة “الدولة” التجييرية ايضاً… ناهيك عن سمعة نجاد في اوساط فئات فقيرة او الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في المدن… قد يكون “النظام” هذه المرة بالغ في عمليات الضغط الامني على الناخبين او تورّط في بعض المخالفات الجسيمة اقتراعاً واعلان نتائج… لكن لا يعني الامر انعدام امكانية ان يكون احمدي نجاد قد فاز… مبالغة النظام في المخالفات نتجت عن قرار رئيسي بإلغاء اي احتمال مفاجأة تؤدي الى فوز مير حسين موسوي… اي كي لا تتكرر ظاهرة خاتمي في الولاية الاولى، وهذا يعني ان “النظام” كان قد اتخذ قراراً استراتيجياً بتسليم المتشددين – ورمزهم احمدي نجاد – وليس المعتدلين التفاوض مع الغرب… حول قضايا “الامن القومي” الكبرى: الملف النووي، موقع ايران في المنطقة، العراق…
احد شهود العيان في تظاهرة امس الاول الاثنين المؤيدة لمير حسين موسوي قال – وهو صحافي – ان مهدي كروبي، رئيس مجلس الشورى الاسبق والمرشح الثاني من “الاصلاحيين” كان داخل هذه التظاهرة لبعض الوقت بدون عمامته.
هذا امر يحصل في الايام العادية لدى العديد من رجال الدين المسلمين، ايرانيين وغير ايرانيين… لكن في الوقت الذي يعتبرونه من حياتهم الخاصة لا العامة. لهذا على الارجح ليس تخلي كروبي عن عمامته في تلك الساعات تعبيراً عن احتجاجه على نظام سياسي، وصفه الفعلي انه اكثر من نظام ديني، بل هو عملياً “نظام رجال دين”، فكيف اذا كان كروبي نفسه، بمعزل عن الاصوات المحدودة التي نالها في الانتخابات، هو احد رموز هذا النظام حتى لو كان بعيداً عن السلطة المباشرة وبالتالي من المستحيل ان يعتبر رأسه الحاسر اشارة اعتراض على النظام نفسه! فإذا كانت الرموز الكبيرة حالياً المتصارعة عبر الشارع تختلف على صورة ايران الخارجية وبعض الداخلية فهي جميعاً تبني مشاريعها على الصورة التي تريدها للنظام نفسه وليس ضده. هذا مع العلم، ان مواقع معظم هؤلاء تبدلت بشكل مذهل في العقود الثلاثة المنصرمة لان خاتمي وكروبي و(الذائع الصيت في لبنان) علي اكبر محتشمي كانوا في الثمانينات – وفي ظل نجل الخميني احمد – يمثلون الموقع المتشدد في الصراع مع الولايات المتحدة الاميركية (ازمة الرهائن الاجانب)، وانتقلوا تدريجياً في التسعينات الى الموقع “الاصلاحي” داخلياً و”المعتدل” خارجياً!
5 – السؤال الكبير المحوري في ما يحدث: هل يتأثر موقع السيد علي خامنئي الذي احكم قبضته في العقدين المنصرمين على المؤسسات الاساسية للنظام بما فيها بل على رأسها “الحرس الثوري” واستطاع ان يدير الصراع الداخلي بنجاح؟
“فرصة” الايام العشرة التي اعطاها “المرشد الاعلى” لنفسه، عبر تحديد مهلة البت بالطعون الانتخابية، هل ستكون كافية لاعادة ضبط الحركة الشارعية التي هي في بلد كإيران سبق له ان اسقط نظام الحكم عبر الشارع، سلاح خطر جداً، واية تسوية ممكن ان تنتج بين “اقطاب النظام”… سيحاول “المرشد الاعلى” جعلها اقل كلفة على موقعه بعد تبنيه الحماسي لفوز احمدي نجاد… في حين كان بامكانه ان يفعل الامر نفسه انما بصيغة اقل انحيازاً في الشكل!
اية تسوية بعد ان بدأت التظاهرات والتظاهرات المضادة؟
• • •
اياً تكن الدرجة التي سيصلها الحراك الشارعي في ايران، فإن هذا “النموذج المضاد” الذي قدمته ايران قد تكون له تأثيراته العميقة على المدى الابعد والطويل في المحيط المسلم… كما حصل خلال محطات عديدة عميقة في القرن العشرين.
فالثورة الدستورية (المعروفة بـ”المشروطة”) في طهران سبقت “الانقلاب” العثماني الذي ادى الى العمل بالدستور بثلاث سنوات، كان الحدث الايراني عام 1905، حصل الحدث الكبير في التاريخ العثماني (وفي تاريخنا كجزء من ولايات عثمانية) عام 1908.
عام 1951 وصل الزعيم الوطني محمد مصدق الى رئاسة الوزراء في ايران واعقب ذلك قرار تأميم النفط في سياق اضطرار الشاه لمغادرة ايران للمرة الاولى… عام 1952 حصل الانقلاب المصري بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر في مصر وخروج الملك فاروق النهائي وعام 1956 نجح نموذج التأميم المصري لقنال السويس.
اخيراً… هل يمكن تصور انبعاث الحركات الاصولية الاسلامية، السنية والشيعية في كل العالم الاسلامي بدون نجاح الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 حتى لو اتجه الجيل الثاني من الاصولية السنية ضد النظام الايراني نفسه كما حصل مع “طالبان” رغم احتفاظ طهران الخمينية بعلاقاتها الوثيقة مع معظم حركات “الاخوان المسلمين”؟
النهار