ربمّا كان حسين بين المتظاهرين هناك.. في كندا أو في سواها
حسن داوود
لم أعد إلى الإتّصال بحسين وزهرة في طهران، ولا أجدني لائما نفسي على ذلك لأنّ من نعرفهم في أيّام السفر القليلة يظلّون في بلدهم الذي تركناهم فيه. لا أكثر من اتّصال واحد نجريه، قد يُعاد مرّة واحدة أخرى، قبل أن نعهد للذاكرة تولّي أمر ما عشناه هناك. حسين وزهرة مكثا صورا متفرّقة في دفئها. في صورة أولى هما في الطائرة التي حملتنا إلى بلدهما، جالسين إلى جانبنا. “أنتما في زيارة إلى إيران؟” سألتهما. “نحن إيرانيّان”، قال حسين. لم يكن ما ترتديه زهرة يدلّ على ذلك. لا عباءة تخفي ثيابها ولا هي وضعت غطاء فوق الرأس. قال حسين إنّهما عائدان من دمشق حيث أجريا مقابلة في السفارة الكنديّة استكمالا لملفّ الهجرة الذي تقدّما به. لم يقولا شيئا عن الأسباب التي تدعوهما إلى ترك بلدهما. ربّما هو الخوف، أو ربمّا الحذر الذي من قبيله قولهما، حين مغادرتهما إلى دمشق، إنّهما ذاهبان لزيارة مقام السيّدة زينب، وهذا ما أجّلا قوله لنا إلى حين لقائنا بهما في طهران.
في صورة ثانية كانا في قاعة الوصول المزدحمة. زهرة صارت أكثر إيرانيّة هناك، أقصد التشادور الأسود الذي ضمّها على الفور إلى عديد النساء المزدحمات بانتظار تخليص معاملات الدخول. قبل أن يختفيا هي وحسين في تلك الزحمة، أعطانا حسين ورقة دوّن عليها رقم هاتفه وقال لنا أن نتّصل إن احتجنا إلى شيء خلال وجودنا في إيران. ونحن، الصحافيين الثلاثة الذين لم يكن لدينا عمل محدد نقوم به هناك سوى التفرّج على إيران، ارتأينا أن نتّصل به في اليوم الثالث لوصولنا. كان يقود سيارّة بيجو متأخرة خمس سنوات أو ستّ عن طراز نوعها الأخير، لكنّنا، مع ذلك رأينا فيها دلالة على يسر ما، متوسّط في الأغلب، لكون السيّارات هناك، في أكثريّتها الساحقة، متشابهة إذ لم يسعَ صنّاعها الإيرانيّون إلى إحداث تغيير يذكر في هيكلها وشكلها، سنة بعد سنة.
في إيران يذهب الناس في العصارى والأمسيات إلى أمكنة يصعب ردّها إلى صفة ما كأن نقول بأنّها مطاعم مثلا، أو مقاه، أو طاولات مستأجرة. كانت العائلات المتفرقة على تلك الطاولات ترتفع في جلوسها، هناك على الطاولات التي جُعلت سطوحها مثل شُرَف أو غُرَف مكشوفة على الخارج من جهاتها جميعا، مقار خمسين سنتيمترا. وقد ارتقينا نحن واحدة من تلك الطاولات حاملين معنا كيسا أو كيسين من التوت المجفّف الشديد الحلاوة. حسين وزهرة كانا ميّالين إلى الصمت، وعلى رغم التشادور، المُلْزم على أيّ حال، وعلى رغم معرفتهما معا بتلك “الحديقة” التي أخذانا إليها لتعريفنا بوجه من إيران لا يقصده الزائرون عادة، بدَوْا لنا غريبين، أو كأنهما ،مثلنا، زائران عابران. لا يحتاج أحدنا إلى كثير تدقيق ليلاحظ تلك المسافة الفاصلة بين الناس والأمكنة، حتى إن كان هؤلاء ملمّين بها. ربما كان سبب ذلك، أو أحد أسبابه، الحياء، أو ربّما كان سببه غلبة آخرين على المكان وإيغالهم في إشهار انتسابهم إليه.
ذلك الحضور الخفيف في بلد لم يتوقّف أبدا، منذ ثورته التي كان قد انقضى عليها آنذاك أكثر من نصف قرن، عن تعريف نفسه بمنعته وباستعداده لمصادمة قوّة البلدان الأخرى، لن تكون تلك المنعة إلاّ مرهقة ومُبعدة له. ذاك الحياد ، أو الإبتعاد، لا يحتاج، ليُلاحَظَ، أن يقارن الزائرون العابرون، مثلنا، ما رأيناه من حسين وزهرة بما نتخيّله من أهل إيران، بل أيضا من مقارنته بسائق التاكسي، ذاك الذي جعل، في الوقت ذاته، يجاهر باعتراضه على الحاكمين ويعيش حياته “بالعرض” مثلما رحنا نقول. سألَنا رجل التاكسي ذاك عمّا نريد، “أيّ شيء نريده” قال، من دون أن يبدو عليه أيّ نوع من الحذر. وحين ذهبنا بصحبته إلى أحد المطاعم أخذ يُطنب في مديح العصر البائد.
وهما، حسين وزهرة، أصبحا أكثر ابتعادا وانفصالا في نظرنا حين رأينا أولئك الهاتفين الألف الذين جرى تجميعهم في ذلك المكان الضيّق، الشبيه بالقفص، لكيلا تتفرّق أصوات حناجرهم وتتبدّد فيما هم يهتفون لمرشد الثورة آية الله خامنئي. تخيّلنا حسين وزهرة بأيّ ارتجاف كانا سيتلقّيان تلك الأصوات الهادرة، المهدّدة حتى حين تكون تكتفي بتمنّي طول العمر للإمام. هذا وقد أتيح لنا، نحن الصحافيين الثلاثة، أن نشاهد تعرّض بعض من هؤلاء لحسين عند باب الفندق. كان قد أتى مع زهرة بسيّارتهما البيجو ليلاقيانا. قال لي أحد الزميلين راكضا إلى البهو إنّهم ألقوا القبض على حسين. كانوا أربعة رجال أو خمسة، مرتدين الثياب السوداء ذاتها التي ملأت ذلك القفص بالسواد، لكنهّم اختيروا هنا من بين ضخام الأجسام. أمّا الحُجّة المخجلة التي جعلوها إدانتهم لحسين، إتّهامهم له بأنّه أحضر زوجته إلى نزلاء في الفندق.
وقد ساعدنا منظّم رحلتنا، بعد إتّصالات ومحاولات إقناع استمرّت أكثر من ساعة، على أن يفرجوا عن حسين. “إذهب إذهب يا حسين.. ذهابنا إلى البازار ليس ضروريّاً رحنا نقول له. في السيّارة التي لم يعرف حسين إن كان ينبغي له أن يُسرع في ركوبها، سرعة الخائف، أو أن يتباطأ مظهرا عن أن ّ الإهانة أبقت له شيئا من القدرة على حسن التصرّف، كان وجه زينب متجّها إلى نقطة ثابتة أمامه لا يحيد عنها. لم تلتفت إلينا حين انطلقت السيّارة ونحن، الواقفين وخلفنا مرتدو القمصان السوداء، لم نشأ أن نلوّح بأيدينا مودّعين، إذ ربما كان ذلك مما يثير الريبة.
لا أعرف إن كان حسين قد تمكّن مع عروسه من السفر إلى كندا. لم أتّصل به إلاّ مرّة واحدة بعد عودتنا من إيران: “هل خابروك؟ هل تعرّضت لشيء بعد سفرنا؟” مرة واحدة فقط، ذاك أنّ من نتعرّف عليهم في أيّام السفر القليلة سريعا ما تأخذهم الذاكرة إليها لتبقيهم فيها.
ربّما وُفّقا في الوصول إلى كندا، أو إلى سواها من البلدان التي رأينا مهاجرين إيرانيين يتظاهرون فيها حاملين لافتات صغيرة يقولون فيها إنّهم يريدون لأصواتهم المسروقة أن تُستعاد. هناك، في أيّ من تلك البلدان، يستطيع حسين أن يشعر بأنّ إيران بلده، كما يستطيع أن يقول ذلك أمام إيرانيين آخرين.
المستقبل