عن إشكالية «الأقليات» في الوطن العربي: هل أقام الأكراد دولتهم المستقلة في العراق؟
سمير التنير
الأكراد هم إحدى المجموعات البشرية التي تتحدر عرقياً ولغوياً من أصول آرية هندو ـ أوروبية ويستوطنون مرتفعات آسيا الغربية المحصورة بين إيران والعراق وسوريا وتركيا وأرمينيا. ويعود تاريخ الأكراد المسجل إلى حوالى ثلاثة آلاف سنة. وعاش الأكراد في تنظيمات قبلية وعشائرية تعتمد على رابطة الدم والقربى والولاء المطلق لهذا الكيان الجمعي. العشائري القبلي، وأسلوب الحياة المشتركة الذي يعتمد على الزراعة والرعي أساسا. ولأن بلادهم جبلية وعرة، ولأن تنظيمهم الاجتماعي يرتكز على العشائرية والقبلية، ولأن تنظيمهم الاقتصادي يعتمد على الرعي والزراعة الممطرة عاش الأكراد في شبه اكتفاء ذاتي عن الخارج معظم تاريخهم.
وبعد الحرب العالمية الأولى جرى اقتسام المشرق العربي في اتفاق سري بين سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي. وضمن ترتيبات مماثلة تم إعطاء وعد بلفور للحركة الصهيونية، ووعد مكماهون للشريف حسين بدولة عربية مستقلة. وقد تم تنفيذ كل الوعود والاتفاقات باستثناء تلك التي أعطيت للعرب.
ضمن هذه الترتيبات كان اقتطاع ما يسميه الأكراد «كردستان التاريخية» لكل من العراق وإيران حيث تهيمن بريطانيا، وجزء لسوريا حيث تهيمن فرنسا، وجزء للاتحاد السوفياتي، وظل الجزء الأكبر مع تركيا الحديثة الوريث الشرعي الوحيد للسلطنة العثمانية.
تمت ترتيبات النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأولى في سلسلة من المؤتمرات والمعاهدات فرساي 1918، وسيفر 1919 ولوزان 1923 وانتهى الأمر بتوزيع الأكراد على خمس دول كالآتي:
1ـ منطقة الأكراد في تركيا، وهي الأكبر مساحة (194,000 كلم2) والأكثر سكانا (10 ملايين).
2ـ منطقة الأكراد في إيران ومساحتها (125,000 كلم2) وعدد السكان 7 ملايين.
3ـ منطقة الأكراد في العراق. وتأتي في المرتبة الثالثة (72,000 كلم2) وسكانها (5 ملايين).
4ـ منطقة الأكراد في سوريا، وتأتي في المركز الرابع مساحة (18,000 كلم2) وسكانها (مليون كردي).
5ـ منطقة الأكراد في أرمينيا وتأتي ايضاً في المركز الرابع (المساحة 18,000 كلم2) وعدد السكان مليون.
حرصت بريطانيا خصوصاً على أن يكون ذلك القسم في شمال العراق من نصيبها لا حباً بالأكراد او العراقيين، بل حباً بالنفط، اذ كانت الاكتشافات وقتذاك تشير إلى وجود حقول كبيرة حول مدينة كركوك.
أدى هذا التشرذم الجغرافي والسياسي الى نشوء توتر دائم بين الدول الخمس والأكراد من ناحية. وتوتر دائم بين هذه الدول الخمس من ناحية أخرى. وكانت كل من تركيا وإيران والعراق تعتبر قيام دولة كردية تمهد لفقدان هذه الدولة او تلك جزءا من أراضيها. ولذلك تتفق هذه الدول الثلاث على منع قيام دولة كردية.
الأحزاب الكردية على الرغم من وجود اوصاف «الديموقراطي» و«الوطني» و«العمالي» في اسمائها، الا انها في النهاية تعبر عن قبائل او تحالفات وتجمعات عشائرية او قبلية. فإذا لم تكن قد قامت للأكراد دولة مستقلة في التاريخ القديم او الوسيط، فإن أحد أسباب ذلك القبلية، التي تجعل من الصعب على معظم قبائل كردستان قبول سلطة مركزية لقبيلة واحدة على بقية القبائل، خصوصاً تلك التي تتقارب معها من حيث العدد. وبسبب هذه القبلية وهذا التنافس او الصراع القبلي، فإن دول الاستعمار كثيراً ما سهل عليها استغلالهم لأغراضها الخاصة.
لقد كان تاريخ الشعب الكردي خلال القرنين الماضيين تاريخا مأسوياً، وقد أصبح الأكراد منذ الحرب العالمية الأولى ضحايا الجغرافيا السياسية التي فرضها الحلفاء المنتصرون. وهم أيضا ضحايا للقبلية التي تتنازعهم وتمنع انصهارهم في بوتقة واحدة. والأكراد أيضا هم ضحايا الاستعمار الأجنبي الذي شرذمهم، واستغل قبليتهم في مخططاته الانتهازية.
ان الدول القومية التي توزعت أرض الأكراد لم تكن بالضرورة هي التي سعت إلى هذا الانقسام في كل الاحوال. وباستثناء تركيا فقد وجدت الدول الأربع الأخرى (العراق وإيران وسوريا وروسيا) حصصاً معروضة عليها او مفروضة بواسطة القوى الكبرى. فالعراق نفسه لم يكن دولة مستقلة حينما تمت ترتيبات معاهدات «فرساي» و«سيفر» و«لوزان» بعد الحرب العالمية الأولى.
إن العراق الحديث نفسه هو نتاج لهذه الترتيبات، اذ شكل من ثلاث ولايات عثمانية سابقة هي الموصل وبغداد والبصرة. وقد أضيف الى سوريا والعراق مناطق يسكن فيها الأكراد لم يطالب بها عرب العراق او عرب سوريا آنذاك. كما كان الحديث تحت الانتداب الفرنسي. اما منطقة الأكراد في سوريا فقد تمت مقايضتها بلواء الاسكندرون الذي أعطي لتركيا. وكان ذلك التقسيم والتوزيع بين خمسة كيانات سياسية مستقلة جزءا من تقسيم أكبر شمل كل المشرق العربي والشرق الاوسط.
أدى انحسار نفوذ بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية لظهور الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوى عظمى. وقد عاش الملا مصطفى البارزاني طيلة حياته يحلم بدولة للأكراد. وحينما انهارت الدولة الكردية الأولى في التاريخ وهي دولة «مها باد» في منطقة الأكراد في إيران (1946) لجأ الرجل وأتباعه إلى الاتحاد السوفياتي على اعتبار انه معاد للامبريالية. ولكن الملا مصطفى البارزاني نفسه لجأ إلى الولايات المتحدة بعد عام 1975، ولفظ أنفاسه في مستشفى البحرية الأميركية عام 1979.
ان الولايات المتحدة تحالف أكراد العراق. ولكن لا تعلم مدى قوة هذا التحالف. فتحالفات القوى الاجنبية مع زعماء الأكراد وحركاتهم كانت كلها تحالفات مؤقتة. وبعد الاحتلال الاميركي للعراق قنن الدستور الانتقالي العراقي (2003) الفدرالية لاقليم الشمال بمحافظاته الثلاث: السليمانية وأربيل ودهوك، ثم جاء الدستور الدائم الذي كتبه المفكر الاميركي الصهيوني نواه فيلدمان (2005) ليسبغ شرعية على الوضع الذي احدثه تقسيم العراق عام 1991 الى ثلاث مناطق يحظر على الطيران العراقي الدخول اليها شمال خط عرض 36 وجنوب خط عرض 32. وقد سمح هذا الوضع للاقليم الكردي ليجعل من سيادة العراق على شماله سيادة اسمية لا فعلية. وهكذا أصبح للإقليم ضرائبه وعملته وميليشياته ومؤسساته التشريعية والتنفيذية. وبعد الاحتلال تمددت صلاحيات الاقليم وصولا الى فتح مكاتب لتمثيله في الخارج والتعاقد المباشر مع الشركات الاجنبية دون مشاورة الحكومة المركزية ومنع دخول الجيش الى الاقليم. ووضع ضوابط لدخول العراقيين من غير الأكراد واشتراط وجود كفيل. انه استقلال فعلي لا ينقصه إلا الاعتراف الدولي.
السفير