أين تقف إيران اليوم؟
سليمان تقي الدين
لم نعرف بالضبط ماذا جرى في إيران ولن نعرف الكثير من الوقائع، ليس فقط لأن إيران دولة دينية متشددة ويحكمها نظام مغلق وغير مكشوف على أدوات المراقبة والحريات، بل أيضاً لأن التيارات والأحزاب السياسية التي تختزل عادة بين إصلاحيين ومحافظين لا تملك مشاريع واضحة ومتكاملة، وهي جزء من مكوّنات النظام وليست خارجة عنه.
ما هو معلن ويمكن البناء عليه أن الشعب الإيراني منقسم ولو بنسبة غير متوازية حول أولويتين: دعم سياسة التصنيع الحربي والبحث عن المزيد من الدور الإقليمي والمواجهة مع أميركا، أو التركيز على المسألة الاقتصادية والاجتماعية والتنمية الشاملة وتوسيع هوامش الحريات في الداخل.
لم يظهر في ما تابعناه من برامج للمرشحين نحو رئاسة الجمهورية ما يدل على القطع بين هاتين الأولويتين. الإصلاحيون لم يعلنوا رغبتهم في الرضوخ للسياسة الأميركية والانكفاء عن لعب دور إقليمي، بل هم دعوا إلى استثمار مبادرة الحوار وخفض منسوب الخطاب التصادمي. أما المحافظون فلم يهملوا المسألة الاقتصادية الاجتماعية ومسألة الحريات لكنهم شكّكوا بنيات الفريق الآخر في استغلال المصاعب والمشاكل وتضخيمها.
ما صار معروفاً الآن أن هناك رغبة في التغيير أكدها ثلث الشعب الإيراني بحسب النتائج الرسمية وأن هذه الرغبة قوبلت باستنفار كبير من النظام عكستها تحذيرات «الحرس الثوري» قبل الانتخابات ممّا سماه «الثورة المخملية» وما ينطوي عليه هذا الوصف من تشويه لصورة الإصلاحيين، كما تأكد من خلال انحياز المؤسسة الدينية وعلى رأسها مرشد الجمهورية إلى النتائج التي أعلنت فوز محمود أحمدي نجاد المحسوب على الاتجاه المحافظ.
في تحليل اتجاهات الرأي في الانتخابات الإيرانية قيل إن الشباب في المدن، ولا سيما طلاب الجامعات، يميلون أكثر نحو التيار الإصلاحي، بينما الأرياف الإيرانية تؤيّد الاتجاه المحافظ. تكرّست هذه المقولة إلى حد ما في النتائج. فلقد كانت صناديق الأرياف تؤشر إلى فوز نجاد بينما كانت صناديق المدن تعطي موسوي مؤشرات إيجابية. ربما لهذا السبب سارع (مير حسين موسوي) المرشح الرئاسي الإصلاحي المنافس إلى إعلان تقدمه وفوزه ثم اعتراضه على «التلاعب بالنتائج». لقد كانت المنافسة حقيقية. اقترع 85 بالمئة من الجمهور ما يدل على اهتمامه بالمشاركة، وبالخيارات المطروحة. وبصرف النظر عن النتيجة الرسمية المعلنة فإن نجاح نجاد في سياسته الخارجية كما صار مؤكداً من خلال التراجعات الأميركية والانفتاح على إيران ومحاورتها والتعاون معها في القضايا الإقليمية، لا بد من أنه يؤدي إلى شعور الشعب الإيراني بالفخر والاعتزاز وتقوية الشعور القومي بهذا النجاح، وبتأييد السياسة الهادفة إلى تكريس إيران دولة قوية إقليمياً ومتقدمة عسكرياً وتكنولوجياً خاصة في برنامجها النووي السلمي. هذه العناصر لا يمكن تجاهلها في تجارب الشعوب وفي تجربة إيران، لأن التحوّل في التفكير نحو مطالب التقدم الاجتماعي والرفاه وتعزيز الحريات والتركيز على حقوق الإنسان، لا تتقدم إلا في ظل المزيد من النمو الاقتصادي وانتشار التعليم والثقافة واتساع آفاق التفكير وخفض منسوب التعبئة الإيديولوجية تدريجاً لصالح التفكير العلمي والواقعي. لا نجد في إيران حتى الآن حركات سياسية تحمل مشروعاً جذرياً بهذا البُعد. هناك إصلاحيون واتجاهات إصلاحية في نظام يتقدم بسرعة على طريق الحداثة المادية لكنه متمسك بنموذجه الخاص لبناء «دولة إسلامية» بكل ما تعنيه من التباسات، لأنها في مكان ما تعتمد آليات الدول الأخرى في العالم ولا سيما الاقتصاد.
في الأنظمة العقائدية (الشمولية) ومن نماذجها تجارب روسيا والصين وإيران، والكثير من الدول العربية في المرحلة القومية والفكر الاشتراكي، ارتبط التقدم الاقتصادي والنمو والاستقلال عن هيمنة المركز الرأسمالي العالمي الغربي تحديداً، بضرورة تقوية الدولة وبأولوية السياسة ذات الجذور الإيديولوجية. كل هذه التجارب نزعت إلى مركزة السلطة لمصلحة «الأمة أو الطبقة أو القومية أو الدين»، وهي جعلت من قيمة الإنسان الفرد في أدنى سلّم أولوياتها. بل ان الفكر الفاشي ألغى الفرد نهائياً لمصلحة الأمة والدولة، في حين نزعت الاتجاهات الاشتراكية إلى الاهتمام بالمسألة الاجتماعية لأن الدولة تهدف إلى خدمة المجتمع.
في المحصلة التاريخية بعد أن اجتاز العالم القرن العشرين، قرن الصراعات الإيديولوجية، انتهينا إلى رسوخ الدولة في الدول المتقدمة بشكل خاص، ونمو واضح خاص للمجتمع المدني الذي يلعب دوره في ترجيح خياراتها الاجتماعية والسياسية. في جميع الأحوال تراجع العنصر الإيديولوجي ودور الأحزاب السياسية، كما انتفى مشروع الثورة بالمعنى الذي شهدناه في القرنين الماضيين، وأغلقت أوروبا هذا الباب خلفها مع فشل تجربة ربيع 1968 والانتفاضات الطلابية في فرنسا وإيطاليا.
أما التحوّل الذي جاء في نهاية الثمانينيات في أوروبا الشرقية فهو نموذج تفسّخ الدولة (الكلية ـ الشمولية) وانبثاق مجتمع مدني حديث محرّر من الأحزاب العقائدية لصالح الليبرالية فكرياً وسياسياً واقتصادياً. لكن التجربة الصينية كانت أكثر خصوصية عبر إحداث التحوّل في داخل المؤسسة الرسمية التي انطلقت في مشروع اقتصادي يحتاج إلى السياسات العملية (البراغماتية).
ما يحصل في إيران أن بدايات التحوّل هذه مرتبطة بظروف معقدة لأن إيران لم تخرق الحصار الدولي بصورة نهائية وتكرّس الاعتراف بها دولة إقليمية مستقرة وانضمامها إلى منظومة الدول القوية.
لكن المهم من وراء ذلك، هو أن إيران اجتازت هذا المنعطف السياسي، عبر انتخابات الرئاسة، وأعادت تأكيد خياراتها، وهي تستأنف حوارها مع الغرب انطلاقاً من مكتسباتها السياسية وخاصة دورها الإقليمي. ورغم كل تحفظ من هنا أو هناك في الغرب فهو مضطر للتعامل مع إيران وقبولها في نادي الدول المؤثرة في محيطها الإقليمي. وفي واقع الأمر ليس من مصلحة أحد في العالم أن تنحل الدول أو تحصل فوضى فيها مهما كانت خياراتها، خاصة في منطقة معقدة التكوين والنزعات والهويات كالشرق الأوسط. ربما نكون قد دخلنا فعلياً مع التوجه الأميركي الجديد إلى سياسة الحوار والتعاون تحت عنوان مهم جداً هو البحث عن المصالح المشتركة ومعالجة المشاكل السياسية الموروثة وفي مقدمتها إنهاء ملف الاحتلالات وحروب التحرير نحو عالم أولوياته المنافسة في مجالات التقدم الاقتصادي والاجتماعي.