إيران.. تفكيك النخبة أو عسكرة النظام
محمد السعيد إدريس
لم يكن أحد يتصور أن يحدث كل ما حدث في إيران قبيل وأثناء وعقب إجراء الانتخابات الرئاسية يوم الثاني عشر من شهر يونيو الجاري.. فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، أي منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أجريت في إيران تسعة انتخابات رئاسية شهدت الكثير من المنافسات والتفاعلات، لكن ما حدث في الانتخابات الأخيرة العاشرة لا يمكن مقارنته بما حدث في كل تلك الانتخابات السابقة، سواء فيما يتعلق بالصراعات الحادة بين المرشحين الأربعة،
أو فيما يتعلق بالتداعيات المحتملة للانقسام حول النتائج المعلنة لهذه الانتخابات التي انتهت بفوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
لقد تركزت الصراعات بشكل أساسي بين كل من الرئيس أحمدي نجاد ومنافسه القوي مير حسين موسوي، ولم يدخر كل منهما جهداً أو وسيلة للنيل من الآخر، ولجأ كل منهما إلى توجيه الانتقادات الحادة التي وصلت إلى حد التشهير في قضايا داخلية وأخرى إقليمية ودولية.
الاتهامات لم تقتصر على المرشحين فقط بل امتدت أيضاً إلى الداعمين والمساندين خاصة من جانب الرئيس أحمدي نجاد ضد ما وصفه بالتحالف الثلاثي الداعم لمير حسين موسوي ويضم: هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس خبراء القيادة رئيس مجمع تشخيص النظام، والرئيس السابق محمد خاتمي ومعهما علي أكبر ناطق نوري مستشاري المرشد الأعلى والرئيس الأسبق لمجلس الشورى الإيراني، ووصل التشهير إلى درجة التشكيك في الذمة المالية لرفسنجاني وأسرته.
لقد كانت المناظرات التلفزيونية غير المسبوقة بين المرشحين الأربعة فرصة لكشف الأوراق وتعرية ركام هائل من ممارسات الفساد المالي والسياسي على مدى سنوات طويلة مضت من عمر الجمهورية الإسلامية، وبقدر ما كشفته هذه المناظرات من أخطاء وتجاوزات في السياسات والممارسات، بقدر ما أدت إلى تعرية النظام نفسه أمام الرأي العام الإيراني الذي قرر أن يمارس حقه في المشاركة بالرأي في تلك السياسات والممارسات من خلال قيامه بعملية تصويت مكثفة غير مسبوقة في الانتخابات حيث وصلت نسبة التصويت إلى ما يقترب من 85 % من عدد من لهم الحق في التصويت.
كثافة انتخابية
هذه المشاركة الشعبية المكثفة في الانتخابات وضعت المراقبين، وربما كبار المسؤولين في النظام الإيراني، في حيرة من أمرهم، حيث لم يستطع أحد أن يحسم ما إذا كانت هذه المشاركة المكثفة دعماً للنظام أم انتقاماً منه، وربما يبقى السؤال دون إجابة طالما لم يحسم أمر نزاهة الانتخابات أم تزويرها. فإذا تأكدت نزاهة الانتخابات فسوف يحسب هذا التصويت على أنه دعم للنظام، أما إذا ثبت العكس فسيكون انتقاماً منه حيث سيتأكد أن هذا التصويت المكثف كان دعماً لمير حسين موسوي.
لكن الأهم من ذلك هو تلك التداعيات المحتملة لنتائج الانتخابات ولمجمل الأحداث التي وقعت خلال الحملة الانتخابية وبالذات ما يتعلق:
أولاً – بتفكيك النخبة العليا الحاكمة، وأثره على مستقبل النظام،
ثانياً – ما يتعلق باحتمال انقلاب الجزء الأكبر من التيار الإصلاحي خارج السياج الحاكم للعملية السياسية في إيران المحكوم بقواعد نظام الجمهورية الإسلامية وخاصة ما يتعلق بالديمقراطية الدينية ومبدأ ولاية الفقيه.
ثانياً – والاحتمال الثالث يتعلق باحتمال اتجاه النظام إلى مزيد من انغماس الحرس الثوري في الحياة السياسية وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تفاقم ظاهرة عسكرة السياسة في إيران وتحول الجمهورية الإسلامية من الديمقراطية الدينية إلى نظام استبدادي تسلطي يسيطر عليه العسكريون.
تفكك النخبة الدينية
بالنسبة للتفكك المحتمل للنخبة وبالذات بين رموز النظام وبتحديد أكثر المرشد الأعلى السيد علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني والرئيس محمد خاتمي ومعه مير حسين موسوي، فإنه سوف يتوقف على أمرين: أولهما، مدى قدرة الثلاثي: رفسنجاني – خاتمي – موسوي على تصعيد التحدي ضد المرشد السيد علي خامنئي الداعم لفوز أحمدي نجاد، أو مدى استعدادهم للتفاهم والتراجع عن التصعيد. وثانيهما، موقف المرشد السيد علي خامنئي من إمكانية التصعيد ضد التحالف الثلاثي أو احتواء الخلاف والتوصل إلى تفاهمات مشتركة تعيد للنخبة الحاكمة تماسكها.
أما بالنسبة لاحتمالات تجاوز أحزاب التيار الإصلاحي للخطوط الحمراء والخروج للمرة الأولى عن ثوابت الجمهورية الإسلامية ورفض قواعد الديمقراطية الدينية ومبدأ ولاية الفقيه، والدعوة لديمقراطية ليبرالية، فإن هذا الاحتمال الذي يعني في حالة حدوثه فرض التغيير الحقيقي وإحداث هزة حقيقية في النظام، سيبقى رهن مدى قدرة أحزاب التيار الإصلاحي على التماسك والاستمرارية بعد الانتخابات، وهي قدرة مشكوك فيها في ظل خصوصية البنية الاجتماعية للقوى الإصلاحية، فهي قوى تجمع المثقفين والمفكرين والفنانين والشباب، وبالذات الطلاب والمرأة ومعظم الطبقة الوسطى في المدن الكبرى، وما يجمع هؤلاء هو قضايا الحريات السياسية والاجتماعية والمشاركة وغيرها من القضايا السياسية، لكنها قوى غير منخرطة في أحزاب سياسية لها صفة الاستمرارية، ولذلك يصعب الرهان على وجود كتلة سياسية صلبة تحمل مشروع الإصلاح في إيران في ظل افتقار هذه الكتلة إلى مصادر القوة الحقيقية عكس التيار المحافظ المناوئ، وبالذات تيار المحافظين الأصوليين الذي ينتمي إليه الرئيس أحمدي نجاد.
فهذا التيار يسيطر على مصادر القوة الحقيقية، فهو يضم رجال الدين والبازار والحرس الثوري والباسيج، أي القوة الدينية والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية، وفوق هذا أو ذاك يدعم المرشد الأعلى هذا التيار ويعتبر الحصن القوي المدافع عن مشروع الجمهورية الإسلامية.
عسكرة النظام
ولذلك فإن الأرجح أن ينفرط عقد تكتل التيار الإصلاحي إذا ما أمكن احتواء الخلاف بين رموزه وبين المرشد الأعلى، وخصوصاً أن الخلافات التاريخية بين هذا التيار ورفسنجاني لم تتلاش آثارها بعد، وبالذات رفض الإصلاحيين مساندة رفسنجاني في حملته الانتخابية الرئاسية السابقة العام 2005 وترشيحهم مصطفى معين وزير العلوم في حكومة الرئيس خاتمي منافساً في تلك الانتخابات، كما أن مير حسين موسوي لا ينتمي إلى هذا التيار الإصلاحي وأنه قبل أن يكون مرشح هذا التيار بضغط من صديقه الرئيس محمد خاتمي، بعد أن فضل خاتمي الاعتذار عن عدم خوض انتخابات الرئاسة في مواجهة أحمدي نجاد، وبعد فشل التيار الإصلاحي في اختيار مرشح قوي قادر على خوض هذه الانتخابات.
ولذلك فإن احتمال عسكرة النظم بمزيد من انغماس الحرس الثوري في العملية السياسية يبقى خياراً وارداً في حال نجاح التيار الإصلاحي في إطالة أمد الأزمة السياسية وفرض خيار إجراء انتخابات رئاسية أخرى جديدة على مجلس صيانة الدستور الذي تلقى طلباً من مير حسين موسوي بمراجعة نتائج الانتخابات والتحقيق في اتهامات التزوير التي وقعت خلال جولة الانتخابات التي جرت يوم 12 يونيو الجاري.
وهكذا يواجه نظام الجمهورية الإسلامية تحديات حقيقية وحرجة ويواجه أصعب اختباراته وبالذات مدى قدرته على احتواء الأزمة من ناحية، ومدى قدرته على التكيف مع المطالب الجديدة والمتجددة، وعلى الأخص مطالب التغيير.. فشل النظام في هذا الاختبار لن يكون له غير معنى واحد هو أن العد التنازلي قد بدأ وأن التحدي الحقيقي الذي سيواجه الجمهورية الإسلامية سيكون من الداخل أكثر من كونه خارجياً، على نحو ما هو معتقد في ظل احتقان الأزمة بين إيران والغرب، وفي ظل التربص الإسرائيلي بإيران، ولاسيما أن إسرائيل ترى أن فوز أحمدي نجاد فرصتها السانحة لجعل إيران هدفاً يجب القضاء عليه من كل المجتمع الدولي.
أوان