قانون الاحوال الشخصية الجديد

العلمانيون، والملحدون، خارج العرس والمأتم..

نبيل الملحم
بعد أربعة عقود، على وصول حزب علماني إلى السلطة في سوريا، تجري التعديلات على قانون الأحوال الشخصية، والقانون المعدّل الذي أوقف أعقاب احتجاج رجال الكهنوت المسيحي (وحسنا أنّ المعدّل أوقف)، أوقف لا لكونه تجاوزا لقانون الأحوال الشخصية المعمول به، والمستند أساسا إلى الشرع الإسلامي، بل لكونه استعادة بلْهاء لماضٍ بالغِ البلاهة، يستند في لغته على مصطلحات ربّما تمثل جزءا أساسا من نسيج الاستبداد الديني، حيث يتفوّق دين على دين، وعرقٌ على عرقٍ فيكون هناك:
– أهل ذمّة. وهذا مصطلح استخدمه القانون المعدّل، المعطّل . المفارقة، ليست في التعديل الذي يحيي النصوص الميتة، ليطوق بها عنق الحياة السورية، فيستعيد مصطلحاتٍ من نوع: (الكتابيون وأهل الذمّة)، المفارقة أنّ من عطّل القانون هم رجال الكهنوت لا ناس الحياة، وهم الذين تناولتهم التعديلات، بالكثير من الفخاخ التي تعيد سلطة الدينيين على المجتمع، بما يجعل المجتمع بكلّ تنويعاته محكوما لفتاواهم، ومواقفهم، وثقافتهم، بل محكوما، مسبقا، إلى سلطتهم التي انتزعت منهم منذ خمسينات القرن الفائت، ليستعيدوها، عبر بوّابة القانون المعدّل، خصوصا في مواجهة العلمانيين والملحدين وربما في مواجهة (اللا ـ كتابيين) من أهل الديانات غير المحسوبة على الديانات الرسمية الثلاث: اليهودية والإسلام والمسيحية، ونعني هنا ديانات منتشرة ولو بأحجام ضئيلة في ثنايا المجتمع السوري كاليزيدية على سبيل المثال، أو البوذية لمن اختارها طوعا، فبات مرتدّا إن كان يعود إلى جذور إسلامية.
المفارقة أنّ العلمانيين، والملحدين، واللاأدريين، كانوا آخر من يعلم بحيثيات القانون الأساس، وآخر من يعلم بمحاولات تعديله، وكانوا ليكونوا أوّل ضحاياه لو تيسّرت له سبل الوصول إلى الإقرار، وتحويله إلى قانون يحكم الحياة، ويتسلل إلى زواريب الحياة القضائية السورية، بما يسمح لما أسماه القانون المعدل بـ :” النيابة العامة الشرعية”، أن تكون مطرقة تحكم بالردّة، وتسحب من المرتدّ زوجته وطفله وميراثه، لتكون هذه الهيئة: محكمة تفتيش جديدة، تذكّر بالأيام التي باع فيها الدينيون الجنّة، وسحبوا الدنيا إلى الآخرة، فحقّقوا الجحيم على الأرض قبل قيام قيامته.
في قراءة أوّلية لمشروع قانون الأحوال الشخصية المعدّل – المعطّل، نقاط يمكن أن تكون مفاتيح للمخفيّ من الصريح في هذا القانون، وهذه النقاط متصلة بأحكام الزواج فيه:
– زواج المسلم بغير مسلمة، وزواج المسلم بغير مسلمة إذا لم تكن كتابية (باطل).
– زواج المرتدّ أو المرتدّة عن الإسلام ولو كان الطرف الثاني غير مسلم (باطل).
حزمة باطلة من الزيجات يترتب عليها بطلان الزواج، فلا نسب ولا وراثة، ولا عائلة، وهذا ما اختاره المشرّع، والمشرّع في مثل هذه الحال، قصر الشرعية في حياة العائلة على من يشبهه أو ينتمي إلى ما ينتمي إليه المشرّع، ونعني به هنا الإسلام الرسميّ، ليتحوّل المجتمع بذلك إلى مجموعة من جنس واحد وثقافة واحدة وعقل واحد، في مجتمع سوري، الأكثر تعددية، والأكثر قلقا على مستوى الهوية، ممّا يسمح بالقول إنّه المجتمع المفتوح على المستقبل بخياراته وتلويناته المختلفة، وعودة إلى نشأة الأحزاب والقوى السورية، بعناوينها العريضة تفيد بأنه مجتمع شهد التيار القومي (بتلويناته)، واليسار (بتلويناته)، كذلك موجات كبيرة من الوجودية إبان نشأتها بما سمح لـ (بابا سارتر)، أن يتحول إلى أيقونة سورية ذاتَ يوم من حياتها، وفي استعادة لماضي سوريا فثمة ما يقول بأن خالد بكداش في مواجهة خالد العظم، كانا القطبين الرئيسيين في البرلمان السوري، وبما يضيف أن الحامل الاجتماعي الذي حمل حسن البنّا في مصر، لم يكن قادرا على حمله إلى سوريا، فيما كادت سوريا مطلع خمسينات القرن الفائت أن تتحول إلى سوق مفتوحة لا للبضائع فحسب، بل وإلى حركة الأفكار، بما يجعل الفكر الديني مادة ثانوية في الحياة الاجتماعية السورية، وبما يسمح بقانون أحوال شخصية يقوم على التراضي والتعاقد، وإرادة الطرفين، ليكون الدين هو المادة غير المرسبة في اختيار الشراكة ضمن مؤسّسة العائلة، وهذا ما حدث في تونس بورقيبة في ذات الفترة، وكاد أن يكون في سوريا لو لم تذهب القوى السياسية السورية إلى خيار الشعارات الكبرى، من مثل:” تحرير فلسطين، والوحدة العربية”، أو :” إلى يا عمال العالم اتحدوا”، كاد أن يحدث، لو وضعت هذه القوى التغيير الاجتماعي كأولوية في جدول أعمالها وبياناتها، فتنحّى الثقافي- الاجتماعي، إلى مرتبة متأخرة في سلم أولوياتها، وبعدها لم تأخذ بلح العراق وفاتها عنب الشام، فلا فلسطين تحرّرت، ولا الوحدة تحقّقت، وبعد نصف قرن عادت الجلابيب للتسلل إلى الفراش الزوجي، فجاء مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، محاولة ليمسك الأموات بأعناق الأحياء، وليفتح الباب للتكفير والردّة، ولكن عبر مصادرة المولود والزوجة هذه المرّة، ما يعني أنه لو اعتمد قانونا كهذا، فإنّ سلطة الدينيين ستكون أقوى السلطات وأكثرها قدرة على إعادة إنتاج سطوتها، ومثال حامد أبو زيد (المصري)، سيكون المثال المتكرّر سوريا، في مرحلة تبدو فيها سوريا، وكأنها مقبلة على تحوّلات اجتماعية – اقتصادية، لا تتّسق والعقائد المغلقة، أعقاب نشوة قوى السوق، وانسداد الآفاق أمام الأحزاب والقوى العقائدية، وأمام مجمل التحولات العالمية التي انعكست متسارعة على الحياة السورية، بما سمح بولادة مخاض فكري صعب، جذوره تكمن في التقاط هوية سورية، تخرج البلاد من قلق الهوية الذي رافقها ربما منذ انهيار الدولة الأموية، لتأتي القوى السلفية بمشروع قانونها هذا، وترسم خارطة طريق لمستقبل يتوقف عند أبوابات مخابئها.
القانون أحبط، ولكن إحباطه ليس إنجازا للتيارات العلمانية، ولا بفعل الأفكار العابرة للفكر الديني:
– الدينيون أعاقوا الدينيين.
وبقي العلمانيون، والملحدون، خارج العرس والمأتم.. متفرّجين على جنازة تضاف إلى مقابرهم، والى أوراق ربّما لم يأخذوا حظّهم في (الفرجة) عليها.
غائبون في ضجيج أصوات متنافرة – متشابهة، أصوات هي التي تقرّر:
دينيّ مقابل دينيّ والباقي .. ليته متفرّجا.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى