… فـــي قبضـــة المرشِـــد
بقلم منى فياض
عند انطلاق الثورة الإيرانية العام 1979، تلقت الدعم من مختلف الفئات والقوى في العالم، سواء اليسارية أوالديموقراطية. فهي ثورة ضد حكم الشاه الديكتاتوري المستبد. فكيف لا تدعم؟
وطالما اتخذ دعم فوكو للثورة للتدليل على صحة الموقف المتخذ في حينه، كما أنه كان ايضاً المرجع عندما يراد تفسير تغيير الشخص موقفه من الثورة الايرانية بعدما تبين مدى دمويتها في تصفية الرفاق و المعارضين سواء كانوا إسلاميين أو شيوعيين او ليبراليين، في سبيل الإمساك بزمام السلطة وتدعيم أجهزة الرقابة.
أمسك الخميني بالسلطة مستمداً شرعيته من الجماهير الايرانية استناداً الى تاريخه النضالي والى مرجعيته العلمية الأكيدة، محاولاً الجمع بين مفهوم “الجمهورية” ومفهوم الحكم الاسلامي. بالاضافة الى هذه العوامل “الداخلية” اذا أمكن القول، ساهمت الحرب مع العراق في إرساء سلطة الثورة الخمينية وتقويتها داخلياً. الخطر الخارجي ساهم في دعم النظام الديني وفي ترسيخ قاعدته وتسهيل إمساكه بمقاليد السلطة المطلقة. لكن خامنئي لا يكتفي بتقليد الخميني بل يتخطاه في فرض سلطة حديدية، متجاهلاً وضعيته، التي تختلف جذرياً عن وضعية قائد الثورة الأول ومرشدها الملهم الخميني.
جاء خامنئي عبر تسويات معينة، وهو الذي لا يتمتع بوضعية “علمية دينية” راسخة ترجحه ولا يميزه عن غيره سوى قبولهم به، لكنه عمل على تهميش رجال الدين الآخرين واضعافهم. وجعلت منه ممارسته للولاية المطلقة الرجل الوحيد في العالم حالياً – على ما اعتقد – الذي يجمع هذا المقدار من السلطات الزمنية والدينية المطلقة، الأمر الذي فشلت الكنيسة تاريخياً في فرضه إلى أن صار البابا حالياً أعلى مرجعية روحية لكن من دون أي سلطة سياسية.
ممارسة الخامنئي لولاية الفقيه المطلقة تجعل منه ظل الله على الأرض. فإذا ما افترضنا خضوع الجميع لهذه المشيئة، يفترض منه على الأقل العدل وعدم الانحياز واتخاذ مسافة واحدة من الجميع. لكن المرشد الأعلى يعلن انحيازه لنجاد!! وهو مستعد لخراب إيران في رفضه الخضوع لإرادة – جزء لا يستهان به من الشعب. هذا في الوقت الذي يستمد فيه شرعيته من تمثيله لإرادة هذا الشعب ولكونه “منتخباً” من مؤسسة هي بدورها منتخبة. وهذه جميعها “أشكال انتخابية” ألصقت بها صفة التمثيلية لأننا نعلم كيف يتم “انتقاء” من يترشحون لعضويتها من القريبين من المرشد.
مع ذلك يظل السؤال كيف يمكن للسلطة الايرانية ان تدافع عن “ثورتها” ضد الشعب الذي تحكم نظرياً باسمه وباستخدام وسائل القمع ذاتها التي انبثقت الثورة أصلاً لمواجهتها؟ وهل يمكن قبول فكرة ان الشاه الذي اقتلع لاستبداده كان أرحم بالشعب من حكامه الحاليين؟
لكن يبدو ان قدر الثورات هو ان تترهل وان تصبح عاجزة عن تلبية طموحات أبنائها وأن تضطر لإشهار سلاحها في وجههم لكي يخضعوا لاستبدادها، وخاصة عندما تعجز عن تلبية طموحات الاجيال التي لم تعرف إيران قبل الثورة او عن تأمين أي تنمية اقتصادية لهم وتقفل امامهم المستقبل. في موازاة ذلك، يهدر ريع البترول على التفاخر في إنجاز البرنامج النووي وفي تصدير الثورات المستدامة وفي العيش في وهم التحول الى امبراطورية مفترضة تحل محل الامبراطورية الاميركية “المنهارة”.
العامل الذي لا يعيه المرشد هو اختلاف الزمن وتعميم فكرة حقوق الانسان التي أصبحت بديهية للشباب الذين لا يستوعبون معنى منعهم من التمتع بالحق في العيش بحرية، حرية التعبير والتنقل والحرية الشخصية المتاحة في مجتمعات تقل تطوراً عن المجتمع الايراني العريق تطلبه.
لا يجد هذا الجيل، الذي يشكل أكثر من 60% من السكان، أي سبب مقنع لقبول التشدد المتزايد الذي يفرضه النظام الديني الايراني وتجاهله مطالب التغيير الجذرية التي يرغب بها. في حين ان الاتجاه العام للدول هو نحو المزيد من الانفتاح والخضوع للرأي العام العالمي المتنامي ولرقابة المؤسسات الدولية مثل الامم المتحدة مهما قيل عن خضوعها للهيمنة الاميركية التي تنحو هي نفسها لتغيير جلدها واسلوبها في التعاطي مع العالم.
إن هذه المرجعيات “التقليدية” التي تريد عزل الإيرانيين عن العالم لم تستطع التقاط نبض الشباب الإيراني، الذي هو جزء من هذا العالم بفضل وسائل الاتصال الحديثة، التي وحدها أخرجت صوته وإرادته إلى الخارج وربما تنقذه من مصير طلاب ساحة تيان ان من. فإذا كانت “الكاسيت” ساعدت الخميني في ثورته منذ 30 عاماً فإن الهاتف النقال والانترنت ساعدا الجيل الجديد على فضح ممارسات العنف امام العالم. هذا في وقت يحتار فيه العالم في كيفية مساعدة هؤلاء، إذ ومن دون دعم حقيقي من قبله يتهمون بالعمالة والاستتباع للغرب. (هذا الغرب الساحر الذي يمكنه إقناع الملايين من الإيرانيين بالعمل على خدمته عن بعد وبالريموت كونترول بينما يعجز عن ضبط الرأي العام الداخلي في اعتراضه على بعض ممارساته الخاطئة)!!
غريب أن يصوّر القائمون على السلطة الحالية المتظاهرين المسالمين واللاعنفيين بأنهم مدفوعين من الخارج! والغريب ان حكام ايران لم يتوانوا عن ترك فرصة او مناسبة لم يتدخلوا فيها في هذا “الخارج” عينه: من العراق الى لبنان الى فلسطين، مروراً في البحرين والكويت والاردن والمغرب والقاهرة، وصولا الى باكستان وافغانستان، دون ان ننسى ارمينيا.
مع ذلك تهمة النظام جاهزة: هذا الشعب الذي يثور عميل، فالنظام القمعي يحتاج الى عدو وهمي دائم يبرر القمع والقتل؛ مثل حاجته الى استعراض القوة. فوهم القوة الذي استمده من ضعف العراق وانقسام لبنان ونجاحه في السيطرة على شيعته، جعلته يزيد من قبضته على الداخل وهذا ما يضطره للبرهان المستمر على أنه ممسك بالسلطة بيد من حديد لكي تظل هيبته قوية عبر امتداداته. وهذا ما يفسر المناورات العسكرية في الخليج وبحر عمان لتقول لنا: نحن أقوياء ولا تعتقدون ان ما يحصل في الداخل يمكنه ان يكف يدنا او تسلطنا عن الخارج!؟ اما زيارة نجاد لروسيا فهي رسالة قوة الى الداخل: لا تظنون أنكم تخيفوننا، انتم لا تستحقون ان أتوقف امام ما تقومون به او تريدونه أو أن أحسب أنكم موجودون. في حين أنه في أنظمة “الحكم الديموقراطية المزيفة” يقطع أي رئيس جمهورية او حكومة زياراته الخارجية لكي يكون مع شعبه ليستمع الى ما يريد.
لقد أعطى المرشد الغطاء “الشرعي” لمشاهد العنف تجاه متظاهرين سلميين عزّل يحملون شعاراتهم واصواتهم فقط لا غير، في مشاهد لم أستطع منع نفسي عن مقارنتها بالعنف الاسرائيلي الشهير ضد الفلسطينيين؛ وشاهدت نفس المنظر اللإنساني لرجل أمن مقنع يكسر عمداً يد متظاهر مصاب برضوض وجروح. سوف يقال بالطبع انها صور مفبركة وسوف توزّع تهمة العمالة كالعادة، لكن ما دامت الشفافية هي المسيطرة على النظام التيوقراطي الموصوف بالديموقراطية لماذا طرد الصحافيين أنفسهم بعدما كان النظام نفسه استقدمهم لتمثيل دور الشفافية؟ واذا كانت الانتخابات ديموقراطية وحرة، لماذا يمنع أي كان من مراقبتها (حتى من المرشحين) ومن مراقبة عمليات الفرز، كما حصل في لبنان مثلاً وكما يحصل في دول العالم؟
لكن المرشد أصدر أمراً: إن إيران ليست أوكرانيا! لم يكن منتظراً أن يقول إنها ليست لبنان لأن رهاناته على لبنان لا تزال قائمة ولأن امتداده اللبناني – وإن لم ينجح في ان يصبح اكثرية برلمانية – برهن على أنه “اكثرية شعبية”.
مع ذلك يبدو ان الشعوب تستمد مثالاتها من بعضها البعض وفي عصر انتشار الأفكار عبر الصورة والخبر فهي تستمد نماذجها أيضاً؛ ويبدو ان النموذج اللبناني – البلد الصغير الذي رفض الخضوع لولاية الفقيه المعسكرة – قد ساهم في إعطاء بعض الأمل للمعارضين.
وفي معرض مقارناتنا بين لبنان وايران، لا بد من الاشارة الى إحدى المحركات الأساسية لكل هذا الاعتراض، فنجاد، الذي بالغ في أهمية برنامجه النووي – الأمر الذي اعتبرته جماهير شعبوية ايرانية وعربية وإسلامية إنجازاً إعجازياً يحل عقد النقص المستحكمة – أمسى الرجل القوي والمتحدي الشجاع، فنجح في استتباع الضعفاء لأنهم وجدوا فيه الأمان الذي يفتقدونه. لكن خطبه النارية التي تخلط الغيب بسحر الخطابة متخطية المنطق العقلاني السليم قد تسببت لجزء كبير من الإيرانيين الشباب بالشعور بجرح كرامتهم الانسانية، وذلك بسبب مبالغاته على طريقة القذافي في زمن غابر. وهي المشاعر نفسها التي عانى منها اللبنانيون، عندما فُرض عليهم مسؤولون أشعروهم بالإهانة لكونهم ممثلين لهم تجاه العالم.
يبدو أن الأمور تسير نحو الأسوأ، ويدل على ذلك سلوك السلطة تجاه المعترضين المثيرين للاعجاب والذين صدقوا ان نظامهم ديموقراطي وعادل، عدالة الحسين ومثاليته، فانتظروا الانتخابات وقرروا الاقتراع بكثافة تعويضاً عن امتناعهم السابق وخسارتهم عندما أحبطوا بعد فترة حكم خاتمي. لكن رهانهم على التغيير السلمي فشل، فلقد عودنا التاريخ أن المستبد يخال نفسه قادراً دائماً على الاستمرار في الإمساك بزمام الأمور حتى ربع الساعة الأخير.
كما انه لا يفهم سوى لغة واحدة: العنف.
ما نرجوه ألّا يتفشى هذا العنف وان يتم الوصول الى تسويات مقبولة، وأن تعتبر الأنظمة العربية، فلربما “غارت” شعوبها هي ايضاً!!
(أستاذة في الجامعة اللبنانية)
النهار