يدقون أم يدكّون الأبواب في إيران؟
موفق نيربية
اضطر السيد خامنئي إلى التدخل العلني أخيراً يوم الجمعة السابق، أمام حشود المصلين- التظاهرة- لتأكيد فوز أحمدي نجاد وتأييداً لبرنامجه، وإعلان رفضه «البدع»، التي أشار بها إلى المطالبة بإعادة الانتخابات. ويصعب بعد الآن التأكّد من استمرار صحة ما ذهب إليه من أن جميع الفرقاء يعملون تحت سقف النظام (الذي ينتهي عنده شخصياً).
وكما كان أفضل ما قدمته الانتخابات اللبنانية حماسةُ أصواتها وحسنُ تدبيرها، كان أفضل ما قدمته الانتخابات الإيرانية تفوق الإقبال عليها على كل ما عداها، وذلك ما أكده خامنئي بتركيز، لتدعيم النظام. فالحيوية التي ظهرت لدى الإيرانيين تبعث على الإعجاب والثقة بأن مستقبل هذه الأمة لا يمكن إلاّ أن يكون حيّاً وناهضاً، وحين يكون جارك بخير، فأنت بخير.
لكنّ لهذا الخير الفائض مخاطره وعيوبه، فليس من السهل التوفيق بين الفكر الحديث والعلوم الاجتماعية المعاصرة والتجربة الكونية في القرون الأخيرة؛ التي تفصل بين المؤسسة الدينية والدولة؛ وبين ثورة اجتماعية سياسية يقودها رجل دين أصبح الأقوى بين أقرانه، ولا يُناقش في رأيه وقراره.
لا يستطيع رجل بهذه الصلاحيات أن يحافظ على حياده أمام ما يتيحه النظام من تعددية تحت عباءة القائد، الذي «أشار» إلى الاتجاه الذي يريده قبل الانتخاب بتصريح «بسيط» يطلب من الناس ألا يصوتوا للذين يخدمون سياسات الأعداء، فكان لذلك أثره بالتأكيد. (يذكّر هذا بتصريح البطريرك صفير قبيل الانتخابات اللبنانية. ورغم اختلاف الحالتين، فالتقنية واحدة).
حين رفع الرئيس أحمدي نجاد حرارة سياسته الخارجية إلى حدودٍ بعيدة، كان يهدف إلى تعزيز هذا الدور الإقليمي ولو بالوصول إلى حافة الحرب، بل ربما أراد دغدغة مشاعر العزة والكرامة القومية، وتخوين منافسيه، وتحصيل القوة الانتخابية، لتأكيد سلطته وتكرارها قبل أيّ شيء آخر. لكن حلم «الدور الإقليمي الكبير»؛ الذي يداعب رأس كل حاكم في المنطقة؛ دليل على تزايد الخدوش في شرعيته، على مبادئ الشرعية المعروفة في العلوم السياسية.
وأحسن الرئيس الأميركي حين امتنع عن قول ما يُمكن أن يُعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية الإيرانية في تعليقاته، وركّز انتقاده على ما يتعلّق بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان، التي تنص عليها الشرائع الدولية؛ وأحسن نائب وزير الخارجية الإيراني في ردّه عليه، حين طالبه بأن يتحدّث عن الديمقراطية في بلادٍ أخرى، تحظى باحترام الولايات المتحدة وتغطيتها رغم عدم تمتّعها حتى بجزءٍ من «الديمقراطية» الإيرانية. أحسنا قولاً وتكتيكاً، وإخفاءً لواقع الحال.
فالغرب والولايات المتحدة وأطرافٌ أخرى سعيدة بما يجري الآن، ليس انتصاراً مجرّداً للديمقراطية، بل بالخصوص لأن السلطة الإيرانية سوف تكون أكثر «لطفاً» في المرحلة القادمة، مهما كانت نتيجة الزلزلة الحالية. مؤسسة القائد المطلق الصلاحيات نفسها سوف تكون كذلك غالباً، وسوف تلجأ إلى انتقاء ألفاظها وتنقية ألفاظ أحمدي نجاد بشكل أكبر مما كان يحدث حتى الآن. وربما يتعدى المفعول ذلك إلى تخفيض مستوى التدخل والتداخل في أحوال شعوب المنطقة الأخرى أيضاً.
تتساوى إيران مع الكثير غيرها في المنطقة في مسألة سلطات «الولي الفقيه»، من حيث الكلمة النافذة التي لا تُردّ، ومن حيث تعرّض من ينتقدها للغضب والعقوبة الشديدة الرادعة. ولا تتساوى في درجة إرجاع هذه السلطات إلى التفويض الإلهي. تلك مأثرة لإيران.
لا تتساوى معها أيضاً في درجة حريتها وحيويتها فيما هو دون ذلك. هذا إبداع إيراني في إخراج الشمولية والتسلّط، يتعيّن علينا الإقرار بأفضليته، حتى بالمعايير الحديثة نفسها، وليس الإعلامية والبراغماتية وحدها.
قد يشتهي المرء لنتنياهو وجود أحمدي نجاد، ولكن ذلك يأتي في المستوى النفسي-العسكري وحده، وليس في مستوى الحاجة إلى تأسيس القوة من طريق النهضة والتقدم والحرية والديمقراطية. لذلك كان بعضنا يتمنى تطوّر النظام الإيراني خطوةً عقلانية مع قيادة إصلاحية، يمكن أن تفتح أبواباً أفضل لإيران، وللمنطقة كلّها بالتأثير المتبادل.
طفت ظاهرة جديدة في شبهات التزوير القوية الحجة، بغض النظر عن حجمها وتأثيرها في نتيجة التصويت. فتراجع النظام إلى زاوية القمع وإراقة الدماء، وإلى تهديدات التخوين والإعدام الشاملة كما في تصريح المدعي العام في أصفهان. لكن للأزمة جانبها الآخر الذي أدهش العالم في درجة استعداد شرائح كبيرة من الشعب للعمل العام وللتضحية من أجل ما تؤمن به.
وكيفما تطورت الأمور، فقد أصبحت الإصلاحية قوة سوف تؤثّر في إيران ومستقبلها. أما نحن العرب، فقد يقف بعضنا مع الحارث الغساني والآخر مع المنذر اللخمي في حربهما بالوكالة عن الروم والفرس، مع أن المفروض أن نقف مع أنفسنا أولاً… وما يوم حليمة بسرّ.
* كاتب سوري