لماذا دعم فوكو ثورة الخميني؟
د. منى فياض
ظل موقف فوكو الداعم للخميني ولثورته مدار جدل لفترة طويلة، وإن بشكل متجاذب. فهو حيناً يتخذ كأنموذج لصحة دعم الثورة الإسلامية، وحيناً آخر العكس، بعدما تحفظ عليها. ولقد سمحت وفاته المبكرة لاحقاً بالنقاش المفتوح.
في كتابه عن فوكو والصادر العام 2008، عن دار نشر البان ميشال، يحاول بول فاين الإلمام بالجوانب المتعلقة بشخصية فوكو الثقافية، وبتأثير موقفه العائد للطباع بالمعنى الفكري.
كما نعلم، لجأ الخميني في العام 1979 إلى باريس، حيث أدار الثورة الإسلامية المناهضة لحكم الشاه من هناك. تحمست باريس، أو جامعة فانسان، على الأقل، وداخت العقول المتقدمة، والعالمثالثيون المنـاهضون للامبريالية. بمعنى أن دعمهم ينطلق من الحماسة لكل ما هو أنتي – أميركي، من حيث المبدأ، وبغض النظر عن أي شيء آخر.
يشير «فاين» إلى أن موقف فوكو لم يكن منطلقا من هذه الحماسة. لكن كان لديه موقف مسبق محبذ لكل ثورة، ورأى ان هذه كانت انتفاضة لتحرير شعب. ولقد أراد الاستعلام حول هذه النقطة (عبر صحيفة ليبراسيون)، هذا بالإضافة إلى أن شخصية الخميني كانت تدهشه.
كان لدى فوكو انفتاح ذهني وفكري لكل جديد، وغياب يغلب عليه الشك لكل دوغما. بالنسبة إليه المستقبل غير قابل للتوقع أو للاستباق، وبما أنه كان حساساً وميالاً للاحتفال بالصيرورة، فلم يرد أن يختزل هذا المستقبل، ويسجنه في الأمْثلة الغربية، ولا أن يجعل من حجاب النساء ذريعة قاطعة لبرهنة أي شيء… ذهب إذن لرؤية الخميني في نوشفيل – لوشاتو حيث استضافته الحكومة الفرنسية. ولقد أسرّ لفاين عند عودته بما يلي:
«أنت تتفهم أن يذهب المرء. هذا رجل تكفي كلمة منه يلفظها من بعيد، لكي تجعل مئات الآلاف من المحتجين يرمون بأنفسهم أمام دبابات الشاه في شوارع طهران». وأضاف : «لقد حدثني عن برنامجه للحكم؛ ولو استلم السلطة لكان ذلك حماقة تستدعي البكاء». ورفع عينيه نحو السماء عندما تلفظ بهذه الكلمات. ويضيف «فاين».. «هاكم ما سمعته منه».
اعتبر فوكو من دون شك أن الثورة الإيرانية هي نضال شعب من أجل التحرر من الاستبداد. وكما سبق له أن اعتبر النظام الاشتراكي الذي عاينه في بولونيا كاستبداد أجنبي مفروض بواسطة الدبابات السوفييتية:«فالشيوعية لا تدوم ليومين اثنين من دون الاحتلال الروسي»، كان يقول. لكن هناك شيئا إضافيا، ففوكو لم يكن يتقاسم النزعة الغربية الإرادوية و«الإيمان الغيبي» بالديمقراطية وحقوق الانسان من دون نسيان المساواة بين الجنسين، والتي يجدها، مثل كثيرين، دوغمائيات مثل غيرها. لا بد انه كان يعتبر ان هذه غنائم هشة، وأنها ككل شيء في هذا العالم لن تدوم الى الأبد. وهو كان، خصوصا، يعلّق حكمه: لم يكن ضد أو مع، لأنه ضد الدوغمائيات. كان ينظر إلى التاريخ من الأعلى.
وفي الوقت نفسه، كان يبرهن أنه قابل، لكل جديد لن يتوانى التاريخ عن حمله. لقد كانت المرة الأولى في العالم التي تنفجر فيها حركة إسلامية. وكانت نتائج هذا الحدث لما تزل غير معروفة. ولقد أعلن فوكو أنه «مندهش من هذه المحاولة لانفتاح السياسة على البعد الديني». هذا وفيما لم يكن الدين من أوائل اهتماماته، كان يتساءل، حول ما هذا الذي يريده هؤلاء الإيرانيون، حتى ولو دفعوا حياتهم ثمنا له، هذا الشيء الذي نسينا إمكانيته منذ عصر الأنوار: «الروحانية السياسية». وأضاف:«أسمع مسبقاً ضحك الفرنسيين، ولكنهم مخطئون».
يضيف فاين، لنحاول ان نرى بوضوح رفضه المبدئي لكل دوغما. فمن زاويته، لم يكن ممكناً له أن يدين هذا الاختراع الجديد للتاريخ ولا أن يبرره. لكن كان بإمكانه على الأقل تبني موقف محايد وحريص. ومن دون أن يصبح داعماً، بشكل إيجابي، لهذه الروحانية السياسية، ويظل متفهماً لها ومنحنياً لاحتفالية الصيرورة.
لكنه في أعماقه كان لا بد مبلبل الذهن من بطولة الحشود الايرانية في مواجهة البوليس والجيش. وربما هذا ما دفعه -على ما يعتقد فاين- الى تجاوز الحياد واتخاذ موقف محبذ للثائرين، من دون انتظار ما الذي سوف تتمخض عنه الثورة الإيرانية، وما قد تعطيه من أسباب تستوجب الإدانة، أو تثير الاعتراض. وربما كان هذا أيضا موقفا ذهب به الى الحد الأقصى تجاه «الحقائق الغربية»، من موقع أن لا أحد كاملاً.
ولقد أثار موقف فوكو الداعم للخميني في حينها استياء وغضب المهاجرين الإيرانيين المعارضين للإسلامية وللظلامية، وجاءوا الى باب بيته لكي يحطموا أنفه. لكن كان يتوجب أكثر من ذلك من أجل التأثير على فوكو.
قد يجيب البعض أن هذه التجربة تبرهن عن خطأ «الشك المطلق»، لأنه من دون جدوى، ولا يمكنه أن يعلم الانسان ما الذي عليه فعله. لكن أين وجدنا فلسفة او دينا، مهما يكن، بإمكانه تعليمنا ذلك سوى بالوهم الذي نستعد لقبوله لأنه يلائمنا؟
وأين رأينا، إلا اذا كنا مبصّرين بالغيب، أن العالم جيد الصنع وأن الحقيقة تقاس بنفعها؟
على كل حال، العالم ليس مصنوعا بشكل سيئ ايضا. علينا تقرير كل شيء بأنفسنا، علينا الاختيار، لا وجود لحقيقة تهبط علينا من السماء، ولا تتحصل هذه الحقيقة عن طريق التجاوز أيضا.
ها نحن قد خبرنا الثورة الإسلامية وحكمها و«جمهوريتها المنقوصة» الصلاحيات. فلنترك للإيرانيين الأحرار تقرير صورة نظامهم المقبل بأنفسهم، وأن ندعمهم ضد أي قمع سواء كان باسم الدين أم باسم أي مطلق آخر.