الصراع في إيران: رداً على بعض الأ فكار المسبقة
حميد دباشي
في مقال قصير طُلِب من عباس أمانات، وهو باحث في الشؤون الإيرانية في القرن التاسع عشر في جامعة ييل، كتابته لصحيفة “نيويورك تايمز” حول الأزمة الحالية في إيران، أكّد أن ما نشهده هو “صعود طبقة وسطى جديدة تتناقض مطالبها مع راديكالية الرئيس المنتهية ولايته محمود أحمدي نجاد والقيم المحافظة الجوهرية لنخبة رجال الدين التي تحظى بلا شك بدعم شريحة محافظة دينياً من السكان”.
يختصر هذا الموقف المطّلع من باحث بارز، الحكمة السائدة التي يقدّمها الأكاديميون الإيرانيون في الاغتراب لرأي عام متحمّس يتسمّر أمام التظاهرات الحاشدة التي يشاهدها على شاشات التلفزة أو الكمبيوتر، ويتلهّف لسماع من يعطيها تفسيراً منطقياً.
تؤدّي هذه التفسيرات المتسرّعة دوراً في اعتبار الحركة التي تدور أمام أعيننا، انتفاضة للطبقة الوسطى في شكل أساسي ضد ثيوقراطية رجعية تعوّل على جماهير متخلّفة ومحافظة وغير مثقّفة لا تجيد ما هو أفضل من ذلك. في حين تؤمّن الجماهير الأمية و”الفظّة” القاعدة الشعبوية لدعم أحمدي نجاد، تطالب الطبقة الوسطى بمجتمع مدني مع سوق مفتوحة.
وهكذا يُعتبَر الإيرانيون المثقّفون جداً والتقدّميون والموالون للغرب بأنهم يقفون إلى جانب مير حسين موسوي، في حين يُعتبَر القرويون المتخلّفون والفقراء في المدن إلى جانب أحمدي نجاد. ويأتي جلب نساء غير محجّبات عادة ويتكلّمن الإنكليزية بطلاقة للتحدّث باسم المتظاهرات في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، ليعزّز الانطباع بأنه إذا كانت النساء محجّبات أو لا يتكلّمن الإنكليزية بطلاقة، فلا بد من أنهن يدعمن أحمدي نجاد.
إنه فرز خاطئ جداً يعكس صورة مشوّهة إلى العالم الخارجي. وينطلق من التفسير الذي تعطيه مجموعة محدودة جداً من الأكاديميين المغتربين لحركة استثنائية للغاية في الثقافة السياسية الإيرانية لم يتم بعد استكشاف أبعادها كاملة.
الواقع هو أنه نظراً إلى الحدود الهيكلية التي تقيّد ديموقراطية ناشئة تُسحَق وتُدفَن في إيران تحت تفسير خاص من وضع قلعة قضائية شيعية، تتوزّع معارضة أحمدي نجاد بين أتباع ثلاثة مرشحين ذوي برامج اقتصادية ومواقف سياسية منقسمة إلى حد كبير.
يُعرَف موسوي على نطاق واسع بأنه اشتراكي متشدّد في برنامجه الاقتصادي وإصلاحي اجتماعي في سياسته. ويقع مهدي كروبي إلى أقصى يمين موسوي في نيوليبراليته الاقتصادية ومحافظيته الاجتماعية. أما محسن رضائي فهو يقع أيضاً إلى يمين كروبي في محافظيته الاجتماعية إنما إلى يساره في برنامجه الاقتصادي.
ولعل خير دليل على عدم صوابية قراءة هذه الأحداث بأنها ثورة من الطبقة الوسطى ضد “راديكالية فظة” هو إحصاء أساسي يقدّمه البروفسور جواد صالحي – أصفهاني، أحد علماء الاقتصاد الإيرانيين الأكثر موثوقية في الولايات المتحدة، في مجموعة الأجوبة نفسها التي طلبتها “نيويورك تايمز” من خبراء. يورد صالحي – أصفهاني “يشكّل الشبان بين 15 و29 عاماً 35 في المئة من السكان لكنهم يجسّدون 70 في المئة من العاطلين عن العمل”.
تتألف الغالبية الساحقة من الأشخاص الذين يحتشدون في شوارع طهران ومدن أساسية أخرى دعماً لموسوي من هذه الشريحة العمرية التي تتراوح بين 15 و29 عاماً. كيف يمكن أن تكون انتفاضة للطبقة الوسطى إذا كانت الغالبية الساحقة ممن يدعمونها ويجازفون بحياتهم تتألف في الواقع من شبان عاطلين عن العمل تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً ولا يزالون يعيشون مع أهلهم – وهم عاجزون حتى عن شراء شقة، فما بالكم بالزواج وتأسيس عائلة والانضمام إلى الطبقة الوسطى في اقتصاد يستند في شكل أساسي إلى النفط ولا يتمتع بكثافة العمل؟
الإحصاء الأساسي الآخر الذي لا يأتي صالحي – أصفهاني على ذكره هو أن النساء يشكّلن أكثر من 63 في المئة من الطلاب الجدد في الجامعات في إيران، لكن 12 في المئة فقط منهن ينضممن إلى القوة العاملة. يعني ذلك أن نسبة الواحد والخمسين في المئة المتبقية هي من دون عمل، غير أن الجانب الأكثر وضوحاً للعيان في هذه التظاهرات المناهضة لأحمدي نجاد هو أن عدد النساء يفوق بكل وضوح عدد الرجال. أيُعقَل أن يشارك رجال ونساء عاطلون عن العمل في انتفاضة حاشدة للطبقة الوسطى ضد القادة “الفظين”؟
إذا نظرنا عن كثب إلى إعلانات حملة موسوي وبرامجه الاجتماعية والاقتصادية منذ دخوله السباق، والمناظرات الرئاسية مع كل المرشحين الآخرين، نرى أن جزءاً كبيراً من مؤيّديه يتألف بالفعل من طلاب جامعيين وأساتذة جامعيين شبّان ومن النخبة الفكرية في المدن – مثل صانعي الأفلام والفنانين ورجال الأدب.
غير أن الواقع هو أن جزءاً أساسياً من أتباع موسوي يتألف أيضاً من فقراء المدن ولا سيما قدامى المحاربين الذين لا يحترمون أحمدي نجاد لأنهم يعتبرون أن تاريخه الحربي غير مشرّف، لكنهم يكنّون إعجاباً يفوق الوصف لموسوي نظراً إلى الدور الذي أدّاه عندما كان رئيس وزراء شديد التفاني خلال الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988).
في المقابل، هناك شريحة مهمة من الطبقة الوسطى التقليدية تُعرَف بالبازاريين (أي أصحاب الحوانيت وتجار الشوارع)، تفيد في الواقع من سياسات أحمدي نجاد الاقتصادية القائمة على الدعم الحكومي للسلع الأساسية والخدمات، وتوفّر له تالياً التأييد.
أما في ما يتعلق بـ”الفظّين” في أوساط القرويين الإيرانيين، فقد قال إريك هوغلوند، وهو باحث رفيع المستوى في الشؤون الإيرانية يملك عقوداً من الخبرة في المناطق الريفية، إنه يفاجأ كثيراً عندما يسمع تقارير تفيد بأن قاعدة الدعم لأحمدي نجاد هي في الأرياف. يوجّه سؤالاً ثاقباً “هل يُعقَل أن إيران الريفية حيث يعيش أقل من 35 في المئة من السكان أعطت أحمدي نجاد نسبة الـ63 في المئة من الأصوات التي يزعم أنه حصل عليها؟ يتناقض هذا مع الأبحاث التي أجريتها في القرى الإيرانية في الأعوام الثلاثين الماضية، بما في ذلك الأبحاث التي أجريتها في الآونة الأخيرة”.
الواقع هو أننا لا نعرف ما الذي ستؤول إليه هذه الانتفاضة، ومع ذلك نستعجل العودة بها إلى الخلف وربطها بافتراضات موروثة ربما فقدت صحتها في وجه هذه الحقيقة الجديدة.
أنا مقتنع بأننا نشهد على أمر استثنائي جداً، وقد نكون حتى أمام ثورة اجتماعية تذهب أبعد من جذورها الاقتصادية. وعلى الرغم من وجود الكثير من نقاط التشابه، إنه حدث مختلف جداً عن الثورة الإسلامية بين 1977 و1979. لست واثقاً مما إذا كانت هذه الحركة تعتبر نفسها ثورة أو ستتحوّل في الواقع ثورة.
نظراً إلى الهمجية التي تواجهها هذه الحركة، لا خيار أمامها سوى سلوك طريق العصيان المدني غير العنيف. لقد ولّى عصر الحروب الإيديولوجية في إيران. هذا الزخم هو الحدث الأقرب في إيران إلى حركة الحقوق المدنية في الستينات في الولايات المتحدة، وعلى غرار تلك الحركة، تُصاغ أبعاده الاقتصادية في مطالب اجتماعية.
يجب أن نضبط عدساتنا ولغاتنا لنرى بوضوح أكبر. وأفضل طريقة لضبطها هي أن نراقب بحذر
وأمل ومسؤولية ما يجري أمامنا ونقرأه على هذا الأساس.
تتجاوز هذه الحركة سياستنا الموروثة وإيديولوجياتنا الهائمة ونظرياتنا غير المتناسقة. يجب أن نسترخي ونطمح للأفضل وندع هذه الحركة الملهِمة التي يقودها جيل جديد بكامله تعلّمنا الشجاعة والاتّضاع.
(مؤلف Iran: A People Interrupted، وأستاذ كرسي هاغوب كيفوركيان للدراسات الإيرانية والآداب المقارَنة في جامعة كولومبيا في نيويورك. ترجمت نسرين ناضر هذا النص عن الانكليزية.)
النهار