النكاح والوطء ومفردات مشروع قانون الأحوال الشخصية
منى أسعد
من البديهيّ القول إنّ النكاح فعل يتضمّن فاعلا ومفعولا به، ومن البديهيّ أيضاً القول إنّ لجنة واضعي مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد في سوريا كانوا يدركون هذه الحقيقة حيث أكّدوا عليها في أكثر من مادّة منها : ” يجوز التوكيل في عقد النكاح” المادّة 34 منه. ” ولد كلّ زوجة في النكاح الصحيح…” المادّة 260. “متى ثبت النسب ولو بنكاح فاسد…”المادّة 266. “الموطوءة بشبهة إذا جاءت بولد…” المادّة 266 . “يجب للزوجة المهر بمجرّد العقد الصحيح…” المادّة 100. ومعروف أنّ المهر في معناه الشرعي هو بدل الوطء، وهو في الوقت ذاته شرط صحّة في عقد الزواج، وبالتالي فإنّ عدم دفع المهر يؤدي إلى فسخ العقد (المادّة 238).
جميع هذه العبارات وإن كانت تفيد معنى واحداً، إلا أنّ الأهم أنها كانت الأساس والمنطلق لواضعي المشروع في إعداد مواد مشروعهم وصياغتها، والبالغ عددها 665 مادّة، ويُُجمع أكثرها على تفوّق الرجل وسيادته على المرأة، فله عليها حقّ اللعان ونفي النسب عن الأطفال، وله حقّ العضل، وحقّ الإيلاء، وحقّ الظّهار. وهذه الحقوق عدا عن كونها تُعيدنا إلى عصر الجاهلية وبداية عهد الإسلام، فهي أيضاً تُلغي أيّ معنى لإنسانية المرأة أو الطفل، وتجعل منهما متلقّيَين فقط لأفعال الرجل وقراراته، وما على المرأة سوى الاستسلام لدونيتها واستلابها للرجل، والقبول بدور الزوجة الطفلة، الضرّة، الموطوءة، المطيعة، الصامتة، الصابرة على أفعال الرجل وجبروته…
ربّما كان من الطبيعيّ وجود مثل هذه الأحكام في صدر الإسلام، ولكن اليوم وقد تبوّأت المرأة في سوريا أرفع المناصب السياسية والإدارية، فغدت نائبة رئيس الجمهورية ومستشارة في القصر الرئاسي، وسفيرة لبلدها في عواصم عالمية عدة، بالإضافة إلى وجودها في البرلمان وفي القضاء وفي مواقع صنع القرار، فقد غدا من غير الجائز أو المنطقيّ العودة إلى مثل هذه الأحكام أو الصياغات تُضفي الشرعية على بدل الوطء مثلاً، وإلزام المرأة قانوناً عبر وليها الشرعي بضرورة قبض بدل وطئها ليصحّ عقد زواجها، لما في ذلك من امتهان لكرامة المرأة وعقلها، واحتقار لوجودها وإنسانيتها. ولما في ذلك أيضاً، من تعارض مع المنظومة القانونية الدولية التي تعد سوريا جزءاً منها.
وإن كانت عدة نصوص تمييزية قد وجدت في عهد الفتوحات الإسلامية، تؤكّد تفوّق المسلم أو المسلمة على ما عداهم من أصحاب الديانات الأخرى (الذميّة أو الكتابية)، لكنّنا في القرن الواحد والعشرين وفي بلد يحكمه الدستور، وتؤكّد موادّه أنّ حرية الاعتقاد مصونة بالدستور، وتكفل الدولة احترام جميع الأديان، فمن غير الجائز ومن غير الطبيعيّ إصرار واضعي مسودة المشروع على إيراد نصوص تميّز بين المسلمين وبين أتباع الديانات الأخرى، لدرجة يمكن معها للمحكمة الشرعية من تلقاء ذاتها أو بناءً على طلب أيّ كان، فسخ عقد الزواج وتدمير الأسر وتشتيت الأطفال، في حال اختلاف الدين بين الزوجين اللاحق على عقد الزواج..(الفصل الثالث المعنون بـ”التفريق لاختلاف الدين” وتحكمه المواد 230 وحتى234 منه).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لماذا تقوم رئاسة مجلس الوزراء الآن، وفي بلد يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة وطنية تقدمية، تدّعي جميعها العلمانية، بتشكيل لجنة لصياغة قانون جديد للأحوال الشخصية في سوريا، لا تستطيع أن تنتج إلا قانونا فئويا وتمييزيا ومتخلّفا، ويعبّر عن نزعة أصولية ترفض احترام الآخر والإقرار بحقوقه وحقوق المرأة وتطوير الأسرة؟
ولماذا تغضّ رئاسة مجلس الوزراء الطرف عن عمل هيئة منبثقة عنها، وهي الهيئة السورية لشؤون الأسرة، التي كانت قد عكفت منذ سنتين على إعداد مشروع قانون أسرة عصريّ تتّفق أحكامه ونصوص الدستور، وتتلاءم مواده مع ما ارتضته سوريا لنفسها من التزامات دولية، كاتفاقية إلغاء كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة، واتفاقية حقوق الطفل العالمية. بحيث يكون قانوناً وطنياً، وفي الوقت ذاته يكون بديلاً عن قانون الأحوال الشخصية المعمول به حالياً. فلماذا أُغفل هذا المشروع وأودع في الأدراج، ليُطرح للنقاش بديلاً عنه مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، منسوخ عن القانون السائد ومضاف إليه، كل ما هو رجعيّ وظلاميّ وطائفيّ، رغم تعارضه البيّن مع مواد الدستور ومع الالتزامات الدولية لسوريا ومع التطور المجتمعيّ فيها؟!
إذاً هو قانون غير وطنيّ وتمييزيّ بامتياز، لا يميّز فقط بين الرجل والمرأة، ليبقي على تفوّق الرجل وتشيّؤ المرأة واستلابها، بل يميّز أيضاً، بين أبناء المجتمع الواحد من مسلمين وغير مسلمين ليبقي على غير المسلمين غرباء في وطنهم، الأمر الذي يتناقض تناقضاً تماماً مع مفهوم المساواة والعدالة الاجتماعية وحقّ المواطنة. وعليه فإنّ إقرار هذا المشروع كقانون سيؤدّي بلا شكّ، إلى إثارة النزاعات والتمييز الطائفيّ والمذهبيّ، وبالتالي إلى زعزعة استقرار المجتمع وتمزيق وحدة نسيجه الوطنيّ.
فما حاجتنا إلى قانون يميّز بين أبناء المجتمع الواحد، وتكون فيه المرأة ناقصة عقل وإرادة، وملعونة، معضلة، موطوءة، وعليها قانوناً قبض بدل الوطء ليصح عقد زواجها (نكاحها)، في حين يفرض تطوّر الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية تطوّراً موازيا في الحياة القانونية، تطوّراً يُلغي التناقض القائم حالياً بين النص القانوني والمبادئ الدستورية من ناحية، وبين النص القانوني ومبادئ المواثيق والمعاهدات الدولية، ويكون في الوقت ذاته أداة لتسريع عملية النهوض بواقع الأسرة السورية وتمكينها بشكل أفضل من الإسهام في عملية التنمية.
موقع الآوان