لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير
كامل عباس
مقدمة :
توقفت عن نشر مقالات من هذا النوع تجنبا للمشاكل معهم ومع أسرتي , ولكن الزوبعة التي تثار حاليا حول مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد وما يرفع فيها من شعارات عن مؤامرة تحاك على سوريا دفعني لنشر معاناتي حول موضوع لا يقل خطورة عن موضوع الأحوال الشخصية مع هذه المقدمة المتواضعة :
ان مشروع القانون سيئ الذكر هو في الحقيقة تعبير عن قوة التيار الرجعي في البلاد , والذي عمل بصمت حتى أصبح يسيطر على كثير من المؤسسات والمواقع داخل سوريا في حين اكتفى التقدميون داخل الجبهة الوطنية بالشعارات , ومع كل أسف مازال تقدميونا يعملون بنفس الطريقة والتي ستسهل عليهم تمرير القانون او بعضا منه على الأقل : وها انذا اذّكر لعل الذكرى تنفع الشيوعيين والبعثيين والديمقراطيين والحداثيين فتجعلهم يواجهون الرجعيين والسلفيين بطريقة أخرى غير طريقة المؤامرة :
1- اذكر أنني درّست منهاج العلوم الطبيعية في الحلقة الثانوية منتصف سبعينات القرن الماضي وكان فيه عرض علمي بحت لمادة التطور من البسيط الى المعقد ضمن شجرة التطور التي تبدأ بالفيروسات وتنتهي بالإنسان, وقد تمّكن الإسلاميون بذكاء من السيطرة على المناهج التربوية فأزالوا شجرة الحياة منها كونها تتعارض مع الفهم الديني لمشكلة الخلق :
2- كتب الصحفي شعبان عبود مقالا في صحيفة الرأي الكويتية في 20/ 8/2005 بعنوان – عشرة آلاف مسجد ……. وغرفة أغلقت ) جاء فيه :
: لقد أشارت بعض التقارير الصحفية منذ مدة الى وجود عشرة آلاف جامع في سوريا , بالوقت نفسه الذي كانت فيه تقارير أخرى تتحدث عن قيام السلطات الأمنية بإغلاق آخر المنتديات الحوارية التي كانت تجري في المنازل في ظل مناخات هادئة ورصينة وديمقراطية , مناخات تبدو ضرورية اليوم فيما لو اراد السوريون تعلم فن الإصغاء للآخر . حقا ما المانع فيما لو بقيت في سوريا غرفة واحدة مختلفة عن ثقافة ومناخات ينشرها عشرة آلاف جامع وآلاف من الخطباء والأئمة ويخضع لها ملايين من الجمهور , لا بل ما المانع لو انتشرت المئات من تلك الغرف :
0 بكل مرارة أقول ان هذه الكلمات تلقي الضوء على “المؤامرة ” التي تحاك على سوريا بطريقة أفضل بكثير ممن يكتبون حول القانون الآن .
3- معاناتي أيضا مع الرقابة تشير إلى أن “المؤامرة” مستمرة بأكثر من شكل ولذلك ارتأيت عرضها هنا تحت هذا العنوان من أجل إلقاء الأضواء على “المؤامرة” من زاوية أخرى .
لارقابة على الفكر سوى رقابة الضمير
في نهاية عام 2003 صدر عدد من مجلة تابعة للتجمع الوطني الديمقراطي في سوريا كانت تسمى أوراق ثقافية أطلقت على التجربة الناصرية في مصر لقب النهضة العربية الثانية وأشادت بالتجربة كثيرا ’ قمت بالرد عليها في مقال تحت عنوان – الناصرية نهضة ام سقوط ؟ – يعتبر الرفاق لم يروا من التجربة سوى النصف المملوء من الكأس, ولكن هيئة تحرير المجلة امتنعت عن نشر المقال ’ مما اضطرني الى تطويره والتفكير بنشره على حسابي الخاص مهما تكن التكاليف , وفعلا تقدمت بمخطوطته الى وزارة الإعلام في كانون الثاني عام 2004 وجاءني الرد بالموافقة بتاريخ 12/4/2004 وبرقم 7655 شريطة حذف الفقرات التالية ص 50 – 51- 65 , كان ذلك أول احتكاك لي مع الرقابة في سوريا , وقد رأيت بالفقرات المحذوفة استمرارا لنهج صارم يجعل إعلامنا ذو بعد أحادي كما كان الحال عليه في المعسكر الاشتراكي سابقا ولا يأخذ العبر والدروس مما جرى هناك , ولكن الزمن كفيل بإرخاء قبضة الرقابة المتشددة عندنا , حزنت جدا على الفقرات المحذوفة لأهميتها الفائقة من وجهة نظري وهاأنذا أثبتها هنا
ص50 – (( إن شعبية عبد الناصر لاتزال كما كانت وربما بشكل أقوى في مخيلة كل أبناء الطائفة السنية داخل العالم العربي الاسلامي, فقد ارتبط الصراع بين الغرب والشرق في ذهن أبناء تلك الطائفة بشكل واضح وما يفعله الغرب الآن يستدعي تذكر ذلك الصراع. وتلك الطائفة تشكل أكثر من 90 % من النسيج العربي .
يقف على الحياد وربما السلبي أبناء الآقليات الطائفية والعرقية والقومية والإثنية فهي غير معنية لا بالصراع ولا بعبد الناصر الى حد ما .
ويقف على الحياد الايجابي في العالم العربي اليسار القومي ومناصروه وأحزابه وخاصة الشيوعيين والبعثيين, هؤلاء مع معاداة عبد الناصر للاستعمار ولأمريكا ولكنهم يرون بأن قمع الشعب وحل أحزابهم سبب هزيمة عبد الناصر, وإذا كنا نريد أن نحُضِر لمعركة جديدة فالعامل الحاسم فيها الاعتماد على الشعب والسماح له أن ينظم نفسه بحرية داخل أحزابه وليس الإعتماد على القوة العسكرية وكّم أفواه الشعب .
ص51 – أما من يكره عبد الناصر وصورته قاتمه في ذهنه. فهم أبناء التيار الليبرالي العربي , هؤلاء يرون شارون متقدم على كل القادة العرب , شارون يلتزم بما تقرره أكثرية شعبه وهو رغم كل ما فعله بالشعب الفلسطيني ليس نقطة في بحر مما فعله صدام حسين بالشعب الكردي .
ولكن التيار بين المواطنين العرب لا يشكل نسبة تذكر على ما أعتقد .
ص65 , الفقرة المحذوفة حاشية تعليقا على رواية ميرامار الذي كتبها نجيب محفوظ وتناولت التجربة المصرية بطريقته الروائية – حتى الحواشي لم تسلم من الرقابة –
حاشية رقم67 – ((من يقرأ رواية نجيب محفوظ في سوريا هذه الأيام وله صلة أو دراية أو اضطلاع على تجربة الشيوعيين السوريين سواء وهم مطاردون أم خلف القضبان سيظن أن نجيب محفوظ يصور بعض أوجه معاناتهم مع أن تلك الرواية كتبت قبل تلك المعاناة بعشرين عاما على الأقل :
– جرى للعديد منهم ماجرى مع درية وزجها وحبيبها السابق
– البعض منهم طلق زوجته بناء على رغبتها ونشر ذلك في الجريدة الرسمية
– البعض منهم تمكن من تفادي الاعتقال بفضل وساطة أحد أقربائه الضباط وظل مخلصا لأفكاره ومبادئه السياسية مع أن تنظيمه نظر اليه نظرة جاسوس ؟؟!!!!! ))
تساءلت في سري ترى كم يلزمنا من الوقت لنتعلم احترام الكلمة ولنرد عليها بكلمة أخرى عندما لا تعجبنا بدلا من شطبها بالأحمر ومنعها من رؤية الشمس , ومع ذلك رأيت بالموافقة شيء ايجابي يوصل فكرتي للقارئ ولا يؤثر ما حذف من فقرات عليها كثيرا , ونشره العلني ينسجم مع رؤيتي الجديدة القائمة على العمل ضمن شرعية قانونية مهما كانت هزيلة ,
انشغلت بعد الكتاب بملف الإصلاح الديني وقمت بنشر خلاصة أفكاري في مقالات عدة نشرت في نشرة كلنا شركاء ونشرة الحوار المتمدن . وقد أثارت تعليقات وردود فعل عديدة , كشفت لي الكثير من أخطائي فقمت بمراجعة أفكاري وترتيبها في مخطوطة جديدة وحملتها الى وزارة الاعلام في الشهر الاول من عام 2008 وقدمتها تحت اسم – الإصلاح الديني وضرورته الحالية في البلدان ذات الحضارة العربية الاسلامة – .
يتألف الكتاب من مقدمة وثمانية فصول وخاتمة , جاء في المقدمة ما يلي :
– يحكى أن سائحة بريطانية حضرت حفلة من البكاء والعويل ولطم الصدور ومرط الشعور في عاشوراء جنوب البصرة بعد سقوط نظام صدام حسين , تساءلت في سرها قائلة : لابد ان المتوفي قد كان رجلا جليلا وكبير المقام , ولذلك أرادت الاستفسار عن الشهيد ومكان وزمان استشهاده , وقد ذهلت عندما جاءها الجواب .
– الشهيد هو الحسين بن علي عليه السلام
– المكان كربلاء
– الزمان قبل 1500 عام
تشير الحادثة بوضوح أننا أمة نعيش في الماضي ونتطلع اليه دوما بدلا من أن نتطلع الى المستقبل .
– أول مشكلة في هذا العرض , كونه يصدر من شخص علماني ’ ينظر الى الأنبياء والأولياء الصالحين , كمصلحين اجتماعيين , يخطئون ويصيبون مثل بقية البشر, ولا يقدس أحدا منهم .
– ونتيجة لذلك سيجد القارئ الدِين أحيانا في كتابتي ما يصدم مشاعره ,ومع إنني لا اقصد ذلك ,ويهمني من كتاباتي أمثاله بالذات , وسأحاول الا أسيئ لأي منهم , إلا أن الالتباس قد يحصل, ولذلك أعتذر مقدما من كل من يشعر بأنني قد آذيت مشاعره , أما الآخرون الذين لا يشاركونني وجهة نظري سواء كانوا دينين أم اسلاميين , ام علمانيين , فادعوهم للرد عليها بالحجة والمنطق , وهو ما يقيم الاعوجاج عندي ان وجد , ويساهم بشكل او بآخر, في مقاربة الحقيقة لمن يهمه الموضوع , من خلال تعرفه على الرأي والرأي الآخر .
أما فصول الكتاب فاثبت عناوينها هنا لأن المكتوب يُقرأ من عنوانه :
1- الدين في التاريخ والمجتمع وليس فوقهما .
2- الاصلاح الديني بين العقل والضمير .
3- الاصلاح الديني المسيحي تاريخيا .
4- الاسلام والثورة .
5- الاصلاح الديني الإسلامي تاريخيا .
6- الاسلام والاستبداد .
7- الاسلام وأصول الحكم .
8- الاصلاح الديني والواقع الحالي في البلدان الاسلامية .
اما الخاتمة فقد أنهيتها بالحادثة التالية لنستخلص الدروس والعبر منها في سوريا
(في 25 نيسان من عام 1967 نشرت مجلة – جيش الشعب – الأسبوعية الصادرة عن الجيش السوري مقالة كتبها ضابط شاب اسمه ابراهيم خلاص عن كيفية تشكيل شخصية الإنسان العربي الاشتراكي الجديد . وجيش الشعب لاتنتشر الا بشكل محدود في المجتمع المدني السوري وهي تصدر عن إدارة التوجيه المعنوي وتختص بتوعية أفراد الجيش , وفقا للمقالة فان السبيل الوحيد لبناء المجتمع العربي والحضارة العربية هو بخلق إنسان عربي اشتراكي جديد يعتقد ان الله والأديان والإقطاع والرأسمالية وكل القيم التي سادت في المجتمع القديم ليست أكثر من مومياءات في متاحف التاريخ, وان هناك قيمة حقيقية واحدة فقط : الإيمان برجل القدر الجديد المعتمد على ذاته والذي يعمل لأجل البشرية ويعلم أن الموت نهاية لا مفر منها وان لاشيء بعد الموت – لا جنة ولا نار …
تمكن الاسلاميون بعد نشر المقالة من إجراء مظاهرات عنيفة في الشارع السوري اضطرت الحكومة البعثية الى ان تعلن عبر الإذاعة في السابع من أيار:( ان المقالة الآثمة والمضللة التي نشرت في مجلة – جيش الشعب – جاءت حلقة في سلسلة مؤامرة رجعية أمريكية واسرائيلية .. وأثبتت التحقيقات التي أجرتها السلطات بان المقالة وكاتبها لم يكونا سوى أدوات بيد المخابرات المركزية الأمريكية التي استطاعت التسلل بدناءة وقذارة للوصول إلى أهدافها بخلق الفوضى بين صفوف المواطنين . وان الكاتب أحيل الى محاكمة عسكرية .
كنت أظن أنني أستحق الشكر على جهدي من دولة تعتبر نفسها علمانية وتحكمها جبهة وطنية تقدمية , ولكن ما جرى مع الكتاب خيب آمالي .
لدى سؤالي عنه بعد ثلاثة أشهر قيل لي انه تحول الى القيادة القطرية لتبت بأمره , وانتظرت أشهرا ولم تأتني الموافقة وآخر سؤالي عنه كان في منتصف الشهر الحادي عشر من السنة بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على تقديمه , عزمت بعدها على زيارة القيادة القطرية للاستفسار شخصيا عنه عندما تسنح لي الفرصة , وفعلا في مطلع عام 2009 ذهبت الى وزارة الاعلام ليدلوني على الطريق قانونيا ولكنني فوجئت بالرد عليه تحت رقم 99266 وبتاريخ 20/11/2008 مع عبارة ( عدم الموافقة )
عندما قرأت العبارة سافرت كالسكين في أوردتي ’ أخرجتني عن طوري ’ تكلمت رشا ودراكا
– هذه قيادة طالبانية وليست قيادة قطرية لحزب علماني وتحرري .
– أنا ابن تجربة البعث وكل ما أردته من الكتاب هو تنوير الجيل الصاعد في هذا الظرف العصيب .
– في كل مكان من العالم تسير الحركة الى الأمام الا عندنا فهي تسير الى الخلف – في المرة الماضية حذفت فقرات من كتابي , هذه المرة مُنِع الكتاب كله من النشر –
– سأنشر الكتاب ولو أدى بي الأمر الى السجن مرة أخرى , وعبارتكم عدم الموافقة ستساهم في زيادة الطلب عليه .
وسط صمت ووجوم الموظفين والزوار خرجت من الغرفة باتجاه الشارع وأنا حزينا منكسرا بائسا ’ وقبل ان أغادر الوزارة التقيت بأحد أترابي الذي تخرجت من جامعة دمشق وإياه سوية . وعندما تساءل عن سبب غصبي رويت له حكايتي فأجابني بكلمات مقتضبة .
سامحك الله , كنت أظن ان الأيام علمتك معرفة طبيعتهم , فإذا بك ما تزال تشط كعادتك يمينا ويسارا ’ يا سيدي لقد منعوا الكتاب لأنهم قدروا أن فيه فائدة مادية ومعنوية وهذا ما لا يريدونه لك ولأمثالك .
* اللاذقية
موقع اعلان دمشق