افتقار للرؤية الاخراجية واساءة في التمثيل وحذوفات لسيناريو ممدوح عدوان وتجاهل لدور الصحافةمسلسل ‘الدوامة
‘: التنكيل بتاريخ سورية في الخمسينيات بأسماء وهمية!
محمد منصور
رغم أن عرض ذلك الكم الكبير من المسلسلات في وقت واحد أمر مضر بالذائقة والأعصاب والصحة وبتلك المسلسلات نفسها كما نردد منذ سنوات عديدة؛ إلا أن هذه الطريقة من العرض لا تخلو من فائدة لبعض الأعمال أحياناً… فبعض المسلسلات التي تبدو ذات مظهر براق ومحترم من الخارج، والتي لا يجد الناس وقتاً للاقتراب من تفاصيلها، ومتابعة حلقاتها الثلاثينية في هذه الزحمة، تسوّق لها سمعة لا تستحقها، وتجد من يتحدث عنها باعتبارها مشغولة بعناية وإتقان، وأنها أعمال (للذواقة) وأنها ظلمت في زحمة رمضان… لكن حين يتابع المرء حلقاتها كاملة ويقترب بدقة منها، فإنه سيكتشف أنها تستحق حديثاً من نوع آخر، كما هو الحال بالنسبة للمسلسل السوري (الدوامة) الذي كتب له السيناريو الأديب الراحل ممدوح عدوان قبل سنوات عديدة عن رواية (الضغينة والهوى) للروائي فواز حداد… وأخرجها المخرج الشاب المثنى صبح، وعرضت في موسم رمضان المنصرم.
ثمة سببان آخران حميا هذا المسلسل من الاقتراب النقدي، الأول أن الرواية المقتبس عنها العمل رواية طويلة تقع في أكثر من ثلاثمائة وستين صفحة، ولا وقت للكثير ممن يكتبون الانطباعات النقدية السريعة والمبتسرة لقراءتها، والثاني أن كاتب السيناريو الأديب ممدوح عدوان، رحل عن عالمنا قبل خمس سنوات… وبالتالي فهو لن يساعد أحداً في تكوين رؤية نقدية عن الرواية التي اقتبس عنها، وعن النص التلفزيوني وما جرى له.
الصراع على النفط!
تدور أحداث المسلسل بين سورية ولبنان في الخمسينيات وبالتحديد بين عامي (1949- 1951) حيث شهدت سورية ثلاث انقلابات عسكرية، الأول: انقلاب حسني الزعيم على الرئيس المنتخب شكري القوتلي، والذي لم يدم أكثر من خمسة أشهر، وانتهى بإعدام الزعيم مع رئيس وزرائه محسن البرازي، بعد قيام اللواء سامي الحناوي بتدبير الانقلاب الثاني لم يدم أكثر من أربعة أشهر، أما الانقلاب الثالث فهو انقلاب العقيد أديب الشيشكلي الذي أطاح بحكم الرئيس هاشم الاتاسي الديمقراطي. إلا أن المسلسل، وكذلك الرواية المقتبس عنها، يجعلان من هذه الانقلابات خلفية لموضوع آخر، هو البحث عن النفط في سورية في تلك الفترة، وتنافس القوى الغربية الكبرى كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية للفوز بامتياز التنقيب عن النفط، من خلال دبلوماسييها وعملاء مخابراتها وبعثات تنقيب الآثار وجواسيسها، ويتمحور الصراع الأساسي حول نقطتين أساسيتين: الأولى التأكد من إمكانية وجود النفط في سورية، بعد أن قام شارل غوبلان رئيس البعثة الفرنسية للتنقيب عن الآثار بالانشغال والبحث في هذا الموضوع، وترك أوراقاً هامة مع مدرس جغرافيا سوري رافقه، اسمه (حسين طرواح) حيث يجري التنازع على الحصول عليها بعد العثور عليه منتحراً في إحدى فنادق بيروت في ظروف غامضة… أما النقطة الثانية: فهي محاولة الحصول على امتياز تنقيب النفط من حكومة تعيش توازنات هشة بين معارضة شرسة تتهمها بالتقصير والعجز عن شراء السلاح وتملك صحافة حرة وتأثير قوي في مجلس النواب، وجيش منقسم على شكل مراكز قوى طامحة للعب دور سياسي والتدخل في شؤون الحكم عبر الانقلابات، ورئيس جمهورية منعزل عن هذه الأجواء، ويمارس السياسة بمثالية مطلقة وتعفف سياسي ليس غريباً عن تاريخه الوطني.
حل كلمات متقاطعة!
في الرواية الأصل، والتي كانت ممنوعة في سورية قبل أن يسمح بنشرها لاحقاَ، لا يحدد الكاتب فواز حداد جميع الشخصيات بأسمائها الحقيقية، إذ يستعيض عن معظمها بذكر المنصب الرسمي الذي تشغله.. إلا أن من يقرأ فصول الرواية وهو عادة أكثر ثقافة من مشاهد التلفزيون، يستطيع أن يحدد الأسماء بدقة… فالسرد الروائي المشبع بالتفاصيل، واللغة الأخاذة التي يكتب بها فواز حداد ستساعد على ذلك بالتأكيد، بل وستضع القارئ في قلب الزمان والمكان، وعلى تخوم الدور التاريخي الشخصيات نفسها حتى وإن لم يحددها بدقة… لكن المشكلة في العمل التلفزيوني الذي يتطلب بعداً تصويرياً مضبوطاً، أن تغييب الأسماء الحقيقية لشخصيات لها دور حقيقي، خلق غربة مع العمل، وجعل من التاريخ الذي يحاول أن يقاربه درساً جافاً مملاً، ومن المؤسف أن صناع العمل لم يعوا هذه الحقيقة، ولم يجدوا حلاً لها… فما المانع من القول أن رئيس الوزراء المقصود هو خالد العظم، وأن رئيس الجمهورية هو هاشم الأتاسي، وأن العقيد وهيب هو العقيد أديب الشيشكلي، الذي لعب دوراً محورياً في الانقلابين الأول والثاني من وراء ستار، وقاد الانقلاب الثالث على سامي الحناوي بنفسه وسلم الحكم لهاشم الاتاسي في انتخابات ديمقراطية، ثم انقلب على انقلابه، وتسلم رئاسة الجمهورية من هاشم الأتاسي الذي قدم استقالته احتجاجاً على تدخل العسكر في السياسة؟!
لقد بدا الأمر مثيراً للغيظ والنفور، وكأن المشاهد يحل كلمات متقاطعة، وزاد في الطين بلة هامش التخيل في الرواية، ومن ثم تعديلات السيناريو التي أدخلت شخصيات جديدة على الرواية، فلم يعد المشاهد يميز المتخيل من الحقيقي، لأن الحقيقي في الأساس غير مسمى بمسمياته!
غياب الرؤية الإخراجية!
لكن هذه ليست مشكلة المسلسل الوحيدة، فالمسلسل في الأساس يفتقر إلى الرؤية الإخراجية في تقديم نص بمثل هذا العمق والتشابك والتقاطعات والكثافة، ويبدو المخرج المثنى صبح منذ البداية وهو ينوء تحت ثقل النص، عاجزاً عن صياغة حتى حكاية تلفزيونية مشوقة لهذا التاريخ الذي يمتزج فيه الحقيقي بالافتراضي وتغيب أسماء شخصياته الحقيقية… وقد قيض لي أن أقرأ الرواية الأصلية التي اقتبس عنها العمل، فوجدت أنها تتمتع بحبكة قوية ومشوقة تتناقض كلياً مع جفاف وجمود ما رأيناه على الشاشة، فهي قادرة على أن تشد قارئها نحو متابعة قراءة صفحاتها، رغم تداخل مستويات السرد، وتقاطع وجهات النظر الذاتية في رواية الحدث عبر اعتماد تقنية أدب الرسائل التي تتداخل مع الرؤية الموضوعية للراوي الذي يتقصى الحقائق، ورغم كثافة لغتها البالغة الثراء على صعيد آخر… ولا يجب أن نلقي اللوم هنا على سيناريو الراحل ممدوح عدوان بشكل كامل، فقد تعرض السيناريو لحذوفات عشوائية جعلت الكثير من الأحداث الجزئية غير مفهومة وغير مترابطة في السياق العام، وقد أكدت لي السيدة إلهام زوجة الكاتب ممدوح عدوان أمر هذه الحذوفات من دون أن تبدي رأياً في المسلسل، ناهيك عن أن هناك معالجة درامية للسيناريو قام بها موفق مسعود وزيد الظريف، واستشارة درامية للمخرجة نائلة الأطرش… جعلت مسؤولية عدوان عن نصه بالصورة التي ظهر بها بعد وفاته مشكوك بها في كثير من الجوانب!
وعلى صعيد آخر لم يستطع المثنى صبح، أن يقدم صورة نابضة بالحياة لدمشق في مطلع الخمسينيات، ومن الواضح أنه لم يقرأ كتاباً عن أجواء هذه المدينة العريقة ذات الخصوصية البالغة في تلك الفترة، على كثرة الكتب المتوفرة عن دمشق بكل مراحلها وتفاصيلها وجزيئاتها، ومن المؤسف أنه اختصرها بالترامواي الكرتوني الذي بناه، وببضعة فواصل مرسومة بالغرافيك لقلبها النابض في تلك الحقبة (ساحة المرجة)، وهذا أمر مفهوم قياساً لغربته عن بيئة المدينة… إلا أن كان بالإمكان تلافيه بمزيد من البحث والاستقصاء… فضباط الجيش الكبار أمثال (العقيد وهيب) لم يكونوا يسهرون في الملاهي الليلية وهم يرتدون بزاتهم العسكرية بل ويضعون البيريه على رؤوسهم، فالبدلة العسكرية هي جزء من الشرف العسكري الذي يجب الحفاظ عليه بغض النظر عن حرية التصرف الشخصي… والبيت الدمشقي الذي صور فيه طلاب الجامعة لا يمكن أن يكون بهذا الشكل، وخصوصاً في العلاقة مع أصحاب البيت الذين بدوا هم بدورهم غرباء عن المكان… وبسطة (رؤوس الغنم) لم تكن تتواجد بهذا الشكل الأنيق والمصطنع في حارة سكنية محضرة خصيصاً للتصوير… وثمة الكثير من التفاصيل التي لا يمكن الوقوف عندها مطولاً هنا، أبرزها دور الصحافة شبه الغائب، والتي كانت في تلك الفترة ساحة صراع وحراك، يكاد يضاهي ما صوره المسلسل من حراك في الجامعة، أو ما يشهده البرلمان الحر والحي من سجالات، وكان للصحافيين أدوار ومطامح وتوجهات سياسية مختلفة وحضور قوي ومعارض لا يمكن إغفاله بالتأكيد!
أما كارثة الكوارث بحق فهي سوء توزيع الأدوار بما يتنافى مع طبيعة الشخصيات، فشخصية التاجر المغترب السوري (رأفت الحسياني) التي أصبح في النص التلفزيوني (حسيب نوفل) هي في الأساس ترتبط بعلاقة صداقة مع رئيس الوزراء… وتذكر الرواية أن نوفل أو حسياني درس مع رئيس الوزراء في مكتب عنبر، فهو مجايل له تماماً… وهكذا فمن غير المعقول أن يكون الممثل الشاب جلال شموط الذي قام بالدور هو مجايل للممثل حسن عويتي الذي أدى شخصية رئيس الوزراء… ومن غير المعقول أن يبقى المخرج على الإشارة إلى الصداقة التي تربطهما في المسلسل، ما دام قد أراد التصرف بتوزيع الدور على هذا النحو!
أما شخصية (حسين طرواح) التي أداها الفنان أيمن زيدان، فتبدو شخصية طريفة وبوهيمية ذات ألق وسحر، إذ تصفه الرواية بأنه شخص واسع المعلومات لكنه كثيرا ما يبالغ في استنتاجاته وبلا دليل علمي، ومن الطبيعي أن شخصاً يترك بيته ويختفي عن أسرته في غرفة مستأجرة، ثم يعيش حالة هروب وتقلب، فمرة ينضم إلى صفوف المعارضة وأخرى يفكر في إعطاء أوراق غوبلان التي بحوزته إلى سكرتير رئيس الوزراء، ألا يكون بالصورة الجافة التي ظهر عليها في أداء زيدان، كمثقف ثوري يحمل هموم واستقلالية البلد وصون ثرواته على كتفيه!
وهكذا لم يكن الاختيار ولا تفسير الشخصية مطابقاً لروح النص الروائي ولا نص ممدوح عدوان… ومن الواضح أن غياب الرؤية الإخراجية قد أثر كثيراً ليس على توزيع الأدوار بل على إدارة الممثلين ولعل الكارثة الكبرى في هذا السياق كان أداء الفنان سلوم حداد لشخصية العقيد، وهو أداء يقوم على (المسخرة الحقيقية) أي الاستهانة بالشخصية وتسفيهها، وهو أمر يتنافى مع جوهر الفن بالتأكيد الذي يقول باحترام الممثل للشخصية التي يؤديها حتى لو كانت للص… والحق أن سلوم حداد في هذا الدور يستحق جائزة أسوأ ممثل، ومن المعيب جداً أن يصور المسلسل مشهداً إيحائياً له وهو يهم باغتصاب جثة (سعاد) بعد قتلها، في مشهد مقزز ومسيء للتاريخ والذوق!
أما الممثلة (نادين حمزة) فبدت وجها من الشمع لا أكثر، وبدت قاصرة عن اختصار ثراء الشخصية التي أدتها خارج المكياج والملابس، بخلاف الأداء المتفوق والحار لنضال نجم والحضور المميز ليوسف الخال، وأناقة وشاعرية باسل خياط!
ثمة الكثير مما يقال عن مسلسل (الدوامة) الذي يمثل بحق إهانة لتاريخ سورية، فسورية الخمسينيات رغم كل تقلباتها وانقلاباتها، ورغم تدخلات العسكر في السياسة، ورغم أطماع القوى الغربية ونشاطاتها، تستحق أن تقدم بصورة أفضل وأكثر احتراماً، ليس من قبيل تجميل الماضي أو تمجيد فوضى الانقلابات، بل من قبيل احترام صورة وطن كان يعيش مخاضاً حقيقياً هو جزء من المخاض الذي عاشته المنطقة العربية!
القدس العربي