محرر شؤون الشرق الاوسط في الـ’بي بي سي’: واجهنا تحديا حقيقيا من ‘الجزيرة’ وغيرها من القنوات العربية لنشر الصور الدامية التي وردت من غزة خلال الحرب
هيام حسان
من قال جيريمي بوين مراسل هيئة الاذاعة البريطانية السابق في الأراضي المحتلة والمحرر المسؤول عن شؤون الشرق الاوسط في الهيئة حاليا ان القنوات الفضائية العربية قد تكون شطت بعيداً في عرض الصور والمشاهد الدامية التي برزت خلال الحرب الاخيرة التي شنتها اسرائيل على غزة، ولكنه أقر بأن الـ’بي بي سي’ ربما لم تقدم القدر اللازم من هذه المشاهد تجنبا لانعكاساتها السلبية على المشاهدين. وكشف بوين أنه استمع الى شكاوى من الفلسطينيين أنفسهم في هذا الصدد خلال عمله في المناطق المحتلة، مشيرا الى أن تلك الشكاوى تضمنت اتهامات بالتحيز وعدم الحياد.
وفي حين أقر بوين بأن عدم عرض كل الصور التي ترصدها كاميرات المصورين الصحافيين يمس بالمصداقية والشفافية من حيث المبدأ، تمسك بالرأي المدافع عن ضرورة عدم نشر الصور الدموية بكثافة وخلال ساعات النهار وأوقات الذروة في مشاهدة التلفاز وذلك حرصاً على تجنب تأثيراتها السلبية على المشاهدين سيما فئة الاطفال، مؤكداً أن تحقيق التوازن بين حق عرض الحقيقة كاملةً وتجنب أي احتمال بآثار سلبية قد يكون أمراً غير سهل ويؤدي الى قرارات غير سليمة مثلما حدث خلال الحرب على غزة.
جاء ذلك بينما كان بوين يتحدث مؤخراً لجمهور من الصحافيين في ناد خاصٍ بهم وسط العاصمة البريطانية لندن عن تجربته الشخصية في العمل كصحافي دولي، طيلة أكثر من عشرين عاماً حيث شملت مناطق عمله نحو 70 بلداً في مختلف أرجاء العالم سيما مناطق الحروب والنزاعات.
وتعرض بوين للانتقاد مؤخراً على خلفية تناوله الصحافي لمسائل الصراع في الشرق الاوسط. ونظرت الـ’بي بي سي’ في ثلاث شكاوى على الاقل ضده تتعلق بتقارير له عن الصراع العربي – الاسرائيلي وشكاوى أخرى في خصوص تغطيته للحرب الاخيرة على غزة. وفيما برأت الهيئة بوين من اتهامات التحيز ضد اسرائيل فقد أقرت بشكاوى عدم الدقة أحياناً. وما تزال الهيئة تنظر في شكاوى أخرى يعتقد أن اللوبي الصهيوني الناشط في بريطانيا يقف وراءها.
وفي هذا الخصوص، اكتفى بوين بالتعليق على الامر عند سؤاله عنه أنه كمراسل لهيئة اعلامية تشمل تغطياتها مختلف أرجاء العالم لا يتوقع غير ذلك الحال من الشكوى والتبرم، مؤكداً أنه لا يلقي بالاً للشكاوى ضده وأنه قرر المضي قدماً في عمله كأنها لم تكن بالمرة على أن يترك الامر للجنة المختصة بالشكاوى لتنظر فيه وتبلغه بقرارها النهائي. واعترف بوين مع ذلك بأن العمل في منطقة الشرق الاوسط يتطلب مهارة عالية وحذرا شديدا نظراً لحساسية الصراع بين أطرافه المختلفة.
وأقر بوين بأنه واجه صعوبات في تقديم تغطية مثالية للحرب على غزة بسبب الحظر الذي فرضته قوات الاحتلال الاسرائيلي على الحرب على غزة، ما اضطره للعمل من مكتبه في القدس المحتلة أو مناطق أخرى من داخل اسرائيل. وأوضح أن العمل الصحافي الذي كان من الممكن أن ينتجه فيما لو أتيحت له الفرصة بدخول غزة خلال الحرب كان سيكون أفضل بكثير من العمل الذي قدمه اعتماداً على المواد والصور التي كانت ترد عبر وكالات الانباء، محذراً من خطورة أن يصبح قرار الحظر الاسرائيلي شائع الاستخدام، مشيراً الى التأثير السلبي المماثل الذي أحدثه قرار نظير اتخذته السلطات السريلانكية لاحقاً في هذا الخصوص، حيث قلل من فرص ابراز الحدث السريلانكي كما يجب.
وعن تجربته في العمل من مدينة القدس المحتلة، قال بوين انه مثل كثيرين غيره من الصحافيين الذين أتيحت لهم فرصة العمل في هذه المدينة لم يشعر بالارتياح ولا الالفة مع المدينة التي تملأها أجواء التوتر ومشاعر الكراهية، رغم الاهمية التي تمثلها فرصة العمل فيها بالنسبة لمسيرة العمل لأي صحافي. وقال انه ظل يشعر بعدم الألفة مع المدينة طيلة السنوات الثلاث الاولى من عمله فيها الذي امتد لخمس سنوات ونصف السنة، الا أنه تدارك الامر لاحقاً مع توسع آفاق المعرفة الذي أتيح له فيها والذي مكنه من الاطلاع على وجهتي النظر المتصارعتين وعلى تاريخ الشعبين اليهودي والفلسطيني وغير ذلك من حقول المعرفة التي لا تتسنى سوى في القدس المحتلة.
كما اعتبر الصحافي المخضرم الذي تعود جذوره الى ويلز وقد ولد لأبوين عملا في حقل الاعلام أيضاً أن تغطيته لحدث اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحق رابين كان من المحطات المهمة في عمله الصحافي، معرباً عن اعتقاده بأن رابين كان على تفاهم مع ياسر عرفات في شأن الصراع القائم وأن التاريخ كان سيكون مختلفاً عما هوعليه فيما لو كتبت له الحياة والمضي قدماً في تطبيق تفاهماته مع الفلسطينيين.
وفي شأن احتمال قيام اسرائيل بشن هجوم على ايران على خلفية الهواجس النووية التي ترى اسرائيل فيها تهديداً لأمنها، قال بوين انه واستناداً الى خبرته في تغطية الشؤون الاسرائيلية وقضايا الصراع الشرق الاوسطي لا يستبعد أن تقدم اسرائيل على خطوة من هذا النوع في مراحل لاحقة في المستقبل.
وكان بوين استعرض خلال اللقاء مقاطع مرئية من أعماله وأعمال آخرين في مناطق مختلفة من الصراع في العالم، معلقاً على تأثيراتها عليه وعلى مسيرته المهنية وبينها مقاطع من تقرير مرئي لواقعة اغتيال رابين التي نال على تغطيته المتميزة لها جائزة دولية، كما نال جائزة أخرى عن تغطيته لحادثة القاء القبض على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
واعترف بوين أن مسيرته الحافلة بتجارب العمل القاسية في مناطق الصراع المختلفة لم تمر بسلام في نهاية الامر، فقد اضطر لطلب استشارات نفسية علاجية لمساعدته في التخلص من وقعها الشديد على نفسه وبينها معاناة أهالي قطاع غزة التي قال فيها ان أحداً لا يملك سوى الشعور بالتعاطف والاحساس بمعاناتهم. وخص بالذكر حادثة مقتل سائقه ومساعده اللبناني عبد طقوش في العام 2000، وهي الحادثة التي كاد هو نفسه أن يفقد حياته فيها أيضاً.
وقال ان عجزه عن تقديم يد المساعدة لطقوش الذي فقد روحه على مرأى ومسمع منه أثر فيه بقوة وخلف فيه شعوراً قوياً بالذنب، كما أنه جعله يتردد في قبول تكليفات الـ’بي بي سي’ للعمل في مناطق صراع جديدة، خاصةً وأن زملاء آخرين تربطه بهم علاقة صداقة ومعرفة قويه فقدوا أرواحهم أيضاً أو تعرضوا للخطر والاصابة.
واعتبر بوين نفسه محظوظاً لعدم تعرضه لأذى من أي نوع حتى اللحظة بخلاف الأذى النفسي، رغم كثرة المخاطر التي واجهها في مناطق الحروب التي نفذ فيها مهام صحافية، مشدداً على أهمية ما يسمى بـ ‘ثقافة الامن’ التي تراكمت عبر السنوات في الـ ‘بي بي سي’ وأصبحت على قدر من الفائدة والاهمية القصوى للعاملين في المجال، نافياً مع ذلك أن يكون لهذه الثقافة تأثير يذكر من حيث القضاء على المخاطر وأسبابها في ساحات الحروب بالنسبة الى الصحافيين.