عندما يتحول الصحافي الميداني الى مؤرخ
مراجعة: عفيف رزق
تتمحور الأفكار الرئيسية لكتاب روبرت فيسك حول متابعة مسار السياسة الغربية عموماً والأميركية على وجه الخصوص تجاه منطقة الشرق الأوسط في الستين سنة الأخيرة. وعلى الرغم من أن مضمون الكتاب يستند، في قسم لا بأس به، الى مقالات صحافية كان قد نشرها المؤلف في العديد من الصحف البريطانية: التايمز والاندبندنت… يتضمن أيضاً حوارات مع قادة سياسيين حكام ومعارضين، ثوار ومتمردين… والى مقابلات ميدانية مع عسكريين من مختلف الرتب ومدنيين ومصابين بحروب شهدتها ساحات بلدان المنطقة وانتفاضات شعبية غطتها رائحة الدم والنار، فإن المؤلف يؤرخ، بامتياز، لحقبة مهمة عاشتها دول المنطقة. وإذا كان الكاتب ينتقد بقساوة سياسة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، فإنه لا يجد حرجاً في انتقاد، وبالقساوة نفسها حكام المنطقة وقادتها؛ فهو عندما ينتقد جهل المسؤولين الأميركيين والبريطانيين لطبيعة الشعب الإيراني لدى قيام مخابراتهم الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق عام 1953 (عملية الجزمة) وإعادة الشاه الى السلطة ليحكم بالنيابة عن من أعاده “بالقمع والوحشية والفساد”، يستعرض ما قامت به الثورة الإيرانية عام 1979 من تصفية لرجال “السافاك”، الذراع العسكرية الداخلية للشاه، وللرجال الذين أيدوا الثورة لإختلافهم مع قادتها حول أساليب تحقيق الأهداف المشتركة. ثم يعود ليستعرض بإسهاب المشاركة الأميركية المباشرة في الحرب العراقية الإيرانية الى جانب العراق خلال ثماني سنوات متتالية، مما أرغم قائد الثورة الإيرانية “الخميني” كي ” يتجرع كأس السم” حفاظاً على الثورة ويقبل قرار مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار. والغرابة التي يبديها الكاتب إزاء موقف واشنطن التي حرّضت على الانتفاضة الشعبية في جنوب العراق ضد نظام بغداد، ثم “الخيانة” الأميركية لهذه الانتفاضة بأن سمحت بسحقها ليخلص الى القول “إن المواقف المزدوجة الفظة تبدو واشنطن وحدها قادرة على اتخاذها”.
وعندما يتحدث عن حرب الخليج الثانية، أي احتلال الكويت من قبل القوات العراقية، وعملية الطرد التي تعرض لها أكثر من 360 ألف فلسطيني، بعد تحرير هذه الإمارة فيصف هذه العملية بأنها: “كانت عملية تطهير عرقي لا مثيل لها في الشرق الأوسط منذ المجازر التي رافقت الهروب الفلسطيني من القوات الإسرائيلية عام 1967”.
لقد استبدل الجزائريون ديكتاتورية فرنسا بديكتاتورية بومدين والشاذلي بن شديد، هذا ما يراه فيسك في الأحداث الدامية التي حصلت في هذا البلد في التسعينات. لقد صدّق الإسلاميون الجزائريون مقولة الغرب بأن أفضل الوسائل لتغيير الحكم هو الاحتكام الى الديموقراطية عبر صناديق الاقتراع فارتكبوا خطأ “فوزهم في الانتخابات”، وكان من أبعاد ذلك أنه جرى خلال السنتين التاليتين مأساة واسعة وإراقة دماء على مستوى لا مثيل له مثل الاستقلال من فرنسا.
يخصص الكاتب ثلاثة فصولاً متتالية بدءاً من جهاد الحاج أمين الحسيني الذي قاوم الهجرة اليهودية الى فلسطين، لكن الحسيني، برأي فيسك، أضاع فرصة ذهبية لم يلتقطها، في إشارة الى عدم القبول بقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بتقسيم فلسطين عام 1948، ثم يفنّد اعتماد اليهود على التوراة في أن أرض الميعاد فلسطين هي ملك الإسرائيليين الذين عليهم الاستيطان في فلسطين، ويقترح أن يستبدل كلمة “استيطان” بكلمة “استعمار”، وهذه الأخيرة تعبر برأيه عن واقع الحال الذي يعيشه الفلسطيني الذي يطرد من أرضه وبيته ليحتلها آخر آتٍ من واشنطن أو نيويورك أو أي بلد أجنبي آخر، ثم ينقل رأياً للكاتب الفلسطيني المشهور ادوارد سعيد الذي يقول فيه إن “عرفات تنازل عن القدس”، وإنه بتوقيعه اتفاقات أوسلو خلف قرار مجلس الأمن الدولي 242، ويتحدث عن التيار الإسرائيلي المؤيد للسلام فيرى أن بعض أعضاء هذا التيار هم أشجع من كثير من الصحافيين الغربيين الذين يخافون انتقاد إسرائيل، وذلك في إشارة الى تقرير قدّمته إحدى الصحافيات الإسرائيليات عن مجزرة قانا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين اللبنانيين الأبرياء عام 1996؛ كما يشير فيسك الى مدى التصلب الذي يبديه المسؤولون اليهود إزاء أحداث حصلت لهم ولا يرضون مقارنتها بأحداث مشابهة حصلت لشعب آخر وهو كان يتحدث عن “المجزرة الأرمنية” على أيدي الأتراك، فشيمون بريز عندما كان وزيراً لخارجية إسرائيل أصر على أن “الهولوكوست” خاصة باليهود ولا يجب مقارنتها بما حدث للأرمن حتى أن كتابات فيسك التي تناولت هذه القضية كان يجري تعديلها بـ”H” صغيرة بدلاً من الكبيرة. ومما يذكره الكاتب أن الملكة نور النصف أميركية لعبت دوراً سلبياً ضد ولي العهد الأمير حسن الذي عُين بدلاً عنه عبد الله بن الحسين، وأن رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد حرّض البريطانيين على الرئيس المصري جمال عبد الناصر بقوله لرئيس وزراء بريطانيا انطوني آيدن: “اضربوه أي لعبد الناصر اضربوه بشدة الآن” وذلك إبان الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956.
من الأحداث المميزة التي حصلت مع روبرت فيسك، ثلاث لقاءات مع أسامة بن لادن، في الخرطوم في كانون الأول 1993، عندما كان يغطي أعمال قمة تيارات سياسية ودينية وكان بن لادن يتعاطى العمل الإنساني، ولقاء ثان جرى عام 1997 في أفغانستان والثالث بعده بعدة أشهر، وأبرز ما جاء في إحدى هذه اللقاءات أن بن لادن حدّث فيسك عن حلم راود أحد اتباعه فيه أن روبرت أصبح مسلماً ومن اتباعه، إلا أن الحوار انتهى الى نتيجة سلبية. والحادث الثاني كان عام 1988 عندما استقال من “التايمز اللندنية” احتجاجاً على تلاعب أُجري في مقال له حول حادث إسقاط طائرة مدنية إيرانية في مياه الخليج من قبل فرقاطة أميركية ابان حرب الخليج الثانية؛ والحادث الثالث متابعته لنوع الأسلحة التي قصفت بها الطائرات الإسرائيلية المدنيين اللبنانيين في حرب “عناقيد الغضب” 1996 وقد تطلب منه هذا العمل أسبوعان حتى أوصل جزءاً من صاروخ أميركي الى المصنع الذي ينتجه في إحدى الولايات الأميركية…
لا شك أن كتاب روبيرت فيسك يشتمل على أحداث ووقائع عاشها الكاتب وأرّخ لها بكثير من الموضوعية والشفافية.
[ الكتاب: الحرب الكبرى، تحت ذريعة الحضارة.
[ الكاتب: روبرت فيسك.
[ الناشر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. بيروت لبنان 2008
المستقبل