المشروع الجديد للأحوال الشخصية… تهميش للسورين عموماً وللجهات المسؤولة ولجميع الناشطين والناشطات في الحقل الاجتماعي.
إيمان أحمد ونوس
لم نكن لنتصوّر أنه وبعد كل ما جرى قبل شهرين في خضم مناقشة مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي سُرِّب بعد أن تمّ إعداده في 5/4/2009 تمهيداً لإقراره، لم نكن نتخيّل أنه وبعد أن تمّ إيقاف العمل به أن يعود إلينا بصورة مشبوهة ومشوّهة كما هو حاصل الآن. صحيح كان هناك تخوّفاً من ذلك، لكن ظلّ الأمل يراودنا بأن الحكومة لا بدّ آخذة برأي الشارع السوري وجميع من وقف في وجه ذلك المشروع، وبأنه لا بد أن يجري ما يشبه الاستفتاء ولو بشكل غير مباشر على رغبة السوريين بقانون جديد يلامس كل التغيّرات الطارئة على الساحة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاجتماعية في الفترة الممتدة ما بين القانون المعمول به حالياً/1953/ والزمن الحالي،لاسيما ما شهدته سورية منذ السبعينات وحتى اليوم وعلى كافة الصُعد.
لقد قطع المجتمع السوري أشواطاً هامة ومصيرية في العلاقات الاجتماعية التي ميّزت سورية عن غيرها من بلدان العالم بذلك التآخي والتسامح الذي يعيشه المجتمع السوري رغم تعدد القوميات والأعراق والأديان فيه، فهو كان ومازال لوحةً فسيفسائيةً رائعة التكوين والتلوّن والتقاطع والتمازج بحيث لا يمكن أن يحلّ جزءٌ مكان الآخر، فكل جزء فيه مكمّل للآخر رغم خصوصيته، وهذه الخصوصية ما جعلته نموذجاً يُحتذى في العالم أجمع.
غير أن واضعي المشروع الجديد يبدو أنه لا تروق لهم تلك اللوحة، ويعملون على تفكيك أجزائها لتصبح شظايا لا تمت لبعضها بصلة، وبذلك تفقد حميمة التواصل والتمازج المعهود، كما ستفقد البوصلة التي تشد بعضها لبعض، ليكون التشرذم سيد الموقف، تشرذماً قائماً على إلغاء الآخر، بل وسحقه عبر مشاعر البغضاء والكراهية التي ما عرفها الشعب السوري يوماً، ليحلّ محلها سلفية تستمد وجودها من الهستيريا الأصولية التي أصابت العالم فارضةً وجودها على مكونات المجتمع والحياة، وهنا ستغدو سورية بلداً آخر يأتمر بأمر زمرة تعيدها للوراء دهوراً، ناسفة مجمل التغيّرات والتطوّر الذي وصل إليه المجتمع بنضال أبنائه بكل انتماءاتهم وثقافتهم ووعيهم، فتتخلف سورية عن ركب الحضارة المعاصرة رغم كل الشعارات التي تُطلق هنا وهناك عن التحديث والتطوير لتلتحق بأصوليات تقود معظم دول العالم العربي حالياً، وبالتالي تنأى عن المكانة المعروفة فيها عالمياً عبر التآخي والتسامح والتعايش.
مشروع قانون لأحوال الناس يُفترض أنهم المعنيون الأساسيون بوضعه، فهو يمسُّ حياتهم وينظم علاقاتهم بعضهم ببعض، لكنه تم تجاهلهم وتهميش رأيهم فيما يخص حياتهم، بل وزيادة على ذلك تتم محاولة زرع بذور الفتنة والكراهية التي عجز الاستعمار القديم والحديث عن زرعها في نفوسهم على مستوى الأديان والأعراق والإثنيات، وأيضاً على مستوى الأسرة تلك الخلية الأساسية للمجتمع عبر صياغة مواد تكرّس دونية المرأة أمام الرجل بكل صلاتها به( أب، أخ، زوج، ابن…. الخ) رغم أن الأسرة السورية في الريف أو المدينة قد تجاوزت وعبر الزمن والتطور الكثير من العقبات التي كانت حجر عثرةٍ في طريق تطور المرأة وخروجها للحياة والعلم والعمل، فوصلت لأعلى المراتب والمناصب المعروفة لدى الجميع، أي لمواقع صنع القرار في بعض المفاصل الحكومية، كما تدنّت في السنوات السابقة نسبة الأميّة بين النساء خاصّة وفي المجتمع عامةً بدليل أن طرطوس والسويداء مثلاً احتفلتا بتخلصهما من الأمية. كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة ارتقت في كثير من البيئات لمستوى أصبحت فيه المرأة شريكاً حقيقياً للرجل في صياغة نمط حياة قائم على الاحترام واعترافه بحقها في الحياة بكل أبعادها وتجلياتها، ولم يعد الرجل ذلك المستبد، الشهواني الذي لا يرى في المرأة إلاّ وعاءً للرغبة والإنجاب بل هي الأم والأخت والزوجة والصديقة التي تشاركه همومه وتعبه.
ومن هنا تنبع ضرورة صياغة قانون عصري يستوعب كل تلك المتغيرات في نظم التفكير والتعايش.
غير أن هذا الوضع على ما يبدو لم يرُق لصانعي المشروع، ويريدون للمرأة أن تعود أدراجها للقمقم التقليدي( البيت، الزوج، الأولاد) فقط لا غير، وأن يظلَّ الرجل عبداً لفتاويهم وتشريعاتهم التي أكل عليها الدهر وشرب، متجاهلين وعن عمد الدستور بداية في جميع المواد التي ساوى فيها بين المرأة والرجل على أساس المواطنة فقط. كما تجاهلوا عن سابق إصرار وتصميم كل المعاهدات والاتفاقيات التي صادقت عليها سورية بدءاً من اتفاقية حقوق الإنسان وصولاً إلى اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز والعنف ضد المرأة( السيداو) مروراً باتفاقية حقوق الطفل والتي يُحتفل هذه الأيام بمرور عشرين عاماً على توقيعها من قبل سورية حفاظاً على حقوق الطفولة في الرعاية والتعليم والصحة….
ولا ننسى أنهم تجاوزوا وتجاهلوا جميع الجهات ذات الصلة بالموضوع وأولها هيئة شؤون الأسرة أولاً كونها وحسب أهداف تأسيسها- النهوض بواقع الأسرة السورية- وضع قوانين تتوافق مع ما وقعّت عليه سورية من اتفاقيات وما وضعته من خطط واستراتيجيات تستهدف الأسرة بمكوناتها الأساسية( الخطة الخمسية العاشرة). كما تمّ تجاهل الاتحاد النسائي والوزارات المعنية وأيضاً الأحزاب المتواجدة على الساحة السورية بما فيها أحزاب الجبهة الوطنية. والأهم من ذلك كله أنهم تجاوزوا كل الهيئات والناشطين والناشطات الذين رفضوا وبإصرار مشروع القانون السابق، وكأنهم بذلك يعلنون عن رفض رأي المواطن السوري بقضايا تخص صميم حياته وعلاقاته اليومية، إنهم يرفضون كل الحريات والحقوق التي تعني المواطن والتي نص عليها الدستور السوري في العديد من مواده، وهم بذلك يريدون شلّ سورية عن كل إمكانيات التقدّم والتطور والتحديث.