كفاكم لعبا بمصير سورية.. المخرج الوحيد هو قانون أسرة عصري على أساس المواطنة
بسام القاضي
أثبت المجتمع السوري، رجالا ونساء، أنه أرقى من تصورات ظلامية بائدة حاولت أن تجره، وتجر بلده إلى ظلمات إمارات الطوائف الذكورية البشعة المعشعشة في أذهان بعض من لم تعد تربطهم بالحياة سوى أوهامهم..
فالبارحة نجح، خاصة الشباب والصبايا اللواتي استنفروا طوعيا بعيدا عن كل تبعية أو برستيج أو مهاترات سخيفة بات يتقنها تجار/ات الكلمات والمؤتمرات من كل الألوان والأشكال، ليقفوا صفا واحدا وينجحوا في إسقاط المسودة الأولى لهذا المشروع الأسود، مبرهنين أنهم/ن ليسوا فقط أبناء وبنات هذا البلد، بل هم ماضيه وحاضره ومستقبله أيضا.
إلا أن أصحاب تلك الرؤى، خاصة في وزارتي العدل والأوقاف، والتين كانتا الجهتين المدافعتين من تحت الطاولة (بما أنهما لا تجرؤان على مواجهة الناس فوق الطاولة وعلنا)، ومتسترتين وراء رئاسة مجلس الوزراء، لم يتخلوا عن حلمهم بتحطيم الدولة السورية وتقزيم السوريين في عباءة الطائفية. وها هم اليوم يظهرون هذا الحلم بعد أن صرفوا عليها الكثير من الزينة والزخارف، في محاولة بائسة لإخفاء حقيقة النسخة الجديدة من المشروع.
النسخة الجديدة اليوم تخلت عن بعض ما كانت تحمله النسخة الأولى من انحطاط: دعوى الحسبة، والتمييز الديني الصريح عبر بعض المصطلحات مثل كتابي وذمي.. الخ. وسيطرت كلمات مثل زوج وزوجة بقوة على النسخة المعدلة.
لكن النسخة الجديدة هذه هي “جديدة” شكليا فقط. بينما هي في المضمون رجعية ومتخلفة، وما تزال، كما النسخة الأولى، تلغي مواطنية السوريين والسوريات، وتفرض عليهم أن يتقوقعوا ضمن إطار الطائفية، وتجعل منهم كائنات أدنى من الإنسان. ولكنها تفعل ذلك على طريقة “هنا لندن” أيام زمان: “تبث السم في الدسم”!
ففي النسخة الحالية تحاول اللجنة السرية التي بات من المطلوب فعلا أن تقدم إلى المحاكم بتهمة التآمر على مصير سورية، هي وجميع الجهات الرسمية التي دعمتها ضاربة عرض الحائط بالدستور السوري، تحاول أن تمرر قانونا متخلفا تمييزيا، لا يختلف إلا ببعض العبارات عن القانون المعمول به حاليا، والذي ثبت فشله في مواكبة التغيرات المجتمعية الهائلة في سورية، بعد أن كان قد وضع لمجتمع مختلف كليا هو مجتمع النصف الأول من القرن العشرين، ومستندا إلى تشريعات القرن التاسع عشر!
وفي هذا النسخة الجديدة، التي سنقدم لاحقا دراسة تفصيلية عنها، يدعي واضعوها أنهم إنما يحرصون على “الشريعة الإسلامية”! بينما هم لا يرون من الشرائع كلها إلا مصالحهم بصفتهم طاغوت ديني لا يشبع من السيطرة على حياة الناس عبر دفعها إلى المزيد من التخلف والأزمات، تماما مثلما هي الحال مع أمراء الحروب. فهنا لا يوجد وطن، ولا توجد مواطنة! بل لا توجد أسرة! ما يوجد هو فقط ذكر يسيطر على كافة مناحي الحياة، وأنثى خاضعة خانعة لا حق لها ولا دور سوى أن تلبي احتياجات الذكر
هذا المشروع مبني كليا على الاعتبار الأساسي الذي بني عليه المشروع الأسود: الطائفية والعنف ضد المرأة والطفل. وهذا في الواقع ينسجم كليا مع نزوعات من وضعه، سواء في اللجنة أو في وزارتي العدل والأوقاف، وربما بعض الوزارات الأخرى، تلك النزوعات التي تحلم أن تعيد عصر العبيد بتحويل الناس إلى قطيع يتبع رجل الدين هذا أو ذاك، الذي يبني قصوره وفيلاته على حسابهم وعلى حساب إيمانهم وتقواهم! يعيش هو وأسرته وأقاربه في حياة تشبه حياة فرعون، فيما المؤمنون يعانون من تأمين لقمة الخبز وليتر المازوت! يصرفون أموالا طائلة في بناء قصور كسرى تحت مسمى “الجوامع”، وتدر عليهم أموالا طائلة من بلدان أخرى لا غاية لها سوى تفتيت سورية، فيما المصلين بحاجة ماسة إلى مستوصف مجاني يقدم لأبنائهم العلاج والدواء!
وهذا المشروع ينفي بإطلاق التزامات سورية الدولية، التي بات المس بها هو مس وطعن بسمعة سورية كبلد وحكومة وشعب، عبر نفي أي من مقتضيات تصديقات سورية على الاتفاقيات الدولية المختلفة، وينطبق ذلك على جملة الاتفاقيات التي انضمت إليها سورية، وعلى رأسها الاتفاقية الدولية لمناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة (السيداو)، واتفاقية حقوق الطفل. والتي ثبت نهائيا أن تعارضهما المزعوم مع العقائد السامية، بضمنها الإسلام، هو تعارض وهمي خلقه طواغيت الطوائف في محاولة يائسة منهم لإبقاء الناس تحت سلطاتهم الفرعونية.
ويجب القول هنا أنه من الناحية القانونية، لم يعد من حق الحكومة السورية أن تشرع قوانين جديدة تتعارض مع هذه الاتفاقيات ما لم تعلن صراحة، وتودع ذلك لدى الأمم المتحدة، أنها قد انسحبت كليا من هذه الاتفاقيات.
والواقع أن تلك الفئة الظلامية تريد ذلك بشدة، حتى يخلو لها الجو في ممارسة سيطرتها المتخلفة على حياة الناس، وتتمكن من إحكام قبضتها على الدولة والمجتمع السوري.
ليس ذلك فحسب، بل إن اللجنة السرية نفسها، والتي ما تزال سرية بقيادة وزارة العدل وبدعم خاص من وزارة الأوقاف، كشفت في هذه النسخة واحدا من هواجسها القديمة وهي إلغاء قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالطوائف المسيحية، وتركها دون مرجعية قانونية، بهدف فرض رؤاهم الظلامية حتى على العقائد الأخرى!
في هذا الصدد، سبق لنا أن عارضنا صدور قوانين أحوال شخصية طائفية أو دينية، وقلنا ذلك في نقاشنا علنا لقانون الأحوال الشخصية للروم الكاثوليك، رغم تضمنه تطويرات هامة منسجمة مع الحقوق العالمية للمرأة والطفل. وما زلنا على موقفنا الرافض لهذه القوانين، فالقوانين الطائفية لن توصل إلا إلى التمزق الطائفي.
لكن، رفضنا لقانون طائفي لا يعني قبولنا بقانون طائفي آخر ليسود ويمارس طائفيته على الناس بعد أن ألغى مواطنية الإنسان في سورية، تحت مسمى “توحيد قوانين الأحوال الشخصية”. فتوحيد القوانين لا يعني أبدا أن تأتي فئة ظلامية طائفية لتفرض رؤاها المتخلفة على الناس، ثم تدعي أنها بصدد “التوحيد”! هذا التوحيد ليس في الواقع سوى تفجير للمجتمع وتحويل إلى ما سبق أن سميناه “التأسيس لتحطيم الدولة السورية وبناء مقدمات إمارات الطوائف”! ويخدم مؤامرتهم تلك جيدا التستر خلف الإسلام، مثلما فعل إرهابيون مختلفون في العالم حين تستروا على جرائمهم القذرة بنسبتها إلى الأديان!
النسخة الجديدة من المشروع الأسود ليست بيضاء. صحيح أنها تراجعت عن بعض ظلاميتها، تحت ضغط الحملة الشديدة التي قادها “مرصد نساء سورية” وحققها آلاف الشباب والصبايا الحالمات/ون بوطن فوق كل الانتماءات العنصرية، دينية كانت أو غير دينية، لكن هذه النسخة احتفظت بالكثير من الفكر الأسود المضمن في النسخة الأصل، وأخفت بعضه تحت ستار آخر، وهي اليوم تحاول أن تمر مجددا.
المشروع مرفوض. لأنه طائفي بامتياز، ويشرع العنف والتمييز ضد المرأة والطفل في سورية بامتياز، وهو بالتالي يتعارض مع وجود الدولة السورية نفسها، ومع سلامة ووحدة وتطور المجتمع السوري، ومع الدستور السوري، ومع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها سورية وصادقت والتزمت بها، خاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية مناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، والبروتوكولات المرفقة بها. كما أنه يتعارض مع جوهر جميع العقائد السامية، بما في ذلك الإسلام، فجميع العقائد السامية هدف إلى مساعدة الإنسان على تطوير حياته، وليس إلى استعباده وجره إلى مستنقعات التخلف والعنف.
وقد أثبتت هذه النسخة من المشروع الأسود أن الدوران في حلقة الظلاميين الذين يعيشون في موات تام هو دوران خطر على البلد برمته حاضرا ومستقبلا. وبالتالي فإنه بات واضح أن ما يجب أن يبدأ العمل فيه هو الاتجاه الفوري إلى نزع يد هذه الرؤى الأصولية عن التشريع السوري، والبدء بالإعداد لقانون أسرة عصير يقوم على أساس المواطنة، وليس على أي أساس آخر.
وبينما يحلو للبعض أن يضلل بكلمات كبيرة فارغة، يهمنا أن نؤكد هنا أن المواطنة لا تتعارض مع أي دين أو عقيدة سامية، بل المواطنة في الحقيقة هي تجسيد للروح الحقيقية الخلاقة للأديان والعقائد. إلا أنها تنبذ جانبا كل ما علق بها من مخلفات قرون الجهل والظلام والتخلف. وتعيد للإنسان اعتباره، ذكرا كان أم أنثى، شيخا كان أم طفلا، كعضو فاعل متساو في الحقوق والواجبات مع الأعضاء الأخرى في المجتمع.
قانون أسرة عصري مبني على أساس المواطنة، يتضمن كل الأفكار السامية التي تساعد على النهوض بمجتمعنا، والمبنية حصرا على حقوق الإنسان، وبالتالي التي تحقق مساواة المرأة والرجل، وتحمي حقوق الطفل، هو الوحيد المقبول. وما تبقى ليس إلا محاولات ستسقط مثلما سقط المشروع الأصل: في سلة القمامة.
نساء سورية