صفحات أخرى

«غوغل» يمسك بقوة المعرفة وسطوتها، فمن يُمسك به؟

المكتبة الرقمية العامة تصارع «ميكي ماوس» على كُتُب الإنترنت
احمد مغربي
«ماء، ماء، ماء،
ماء في كل مكان،
وليس ثمة قطرة للشرب».
من «أنشودة البحّار العتيق»، للإنكليزي صاموئيل تايلور كولردج، وهو شاعر رومانسي من القرن الثامن عشر.
كيف نستطيع ان نتقرى ما لم يأخذ شكله بعد ونتلمسه؟ كيف نَصِف ما هو قيد التشكّل، كأنه كوكب انفصل تواً عن شمسه، يبدو كجمرة عجين، فكيف نَصِف ما سيظهر عليها من غابات وشلالات ومحيطات وثلوج وكائنات وحضارات وما لا يحصى من الأنسال؟ يبدو الحديث عن الكتاب الإلكتروني، وعلاقته مع أربعة قرون من تراكم الكتب، شبيهاً بالصورة السابقة. يمكن اللجوء طبعاً إلى السهولة. مات الكتاب الورقي. عاش الكتاب الإلكتروني. في مزاج «نهاية التاريخ» لفوكوياما (وكذلك حديثه عن حضارة ما بعد الكائن الإنساني) يمكن استخدام لغة ظافرة: تتقدم الانترنت بلا هوادة، وتكتسح العالم القديم كهواء سحر ينفخ الأوراق المتساقطة عن غابة الكتب في خريف موته. وتحمل الشبكة الإلكترونية المعرفة إلى كل مكان وكل شخص. يكفي أن تتصل بالشبكة، لتنْصَبّ المعرفة سيولاً على شاشة الكومبيوتر أو الخلوي أو التلفزيون الرقمي أو الكتاب الإلكتروني. لا فرق. إنها يوتوبيا عالِم الإجتماع الكندي مارشال ماكلهون مرفوعاً إلى ما يفوق حدّه الأقصى: الوسيط الاعلامي هو الرسالة، بل هو المعرفة أيضاً. كيف يمكن النظر إلى هذه الصورة؟ ثمة خبرة مديدة مع يوتوبيات كثيرة مماثلة، خصوصاً منذ بداية الثورة الصناعية، في الطرق والمواصلات والاتصالات والتقدم الصناعي والإنتاج السلعي الموسّع والترفيه الموحد والشاشات المترابطة بالأقمار الاصطناعية وغيرها.
«ميكي ماوس» وتخلّف الكتاب الإلكتروني
نَظَرَ المفكر الفرنسي بيار بورديو الأدب بوصفه حقلاً للقوة يكوّنه أصحاب المواقع المختلفة فيه، الذين يخضعون لقوانين لعبة تتحكم فيها القوى التي تهيمن على المجتمع بعمومه. وفي عصر الكتاب، الذي كرّس نفسه وسيلة نشر المعرفة أقله منذ القرن الثامن عشر عصر التنوير العظيم ومبادئه الضخمة، وبمؤازره انتشار التعليم ونُظُمه؛ لم يكن عالمه ويوتوبيا إلا غلقاً مقفلاً، يبقي الأقل قوة خارج سوره. ضجّت تلك الحقب المتوالية بالتفاوتات من كل نوع، داخل كل مجتمع، كما بين المجمتعات والدول. هل يتمكن عصر الانترنت من تغيير الصورة وتحقيق الوعد الهائل بمعرفة متاحة فعلياً للجميع، وبشفافية تسود أرجاء المجتمع الرقمي الواسع المتصل بالألياف الضوئية للشبكة العنكبوتية؟ ثمة فكرة أساسية في المكتبات العامة للكتب: إتاحتها للجميع. وبحسب قول أنطونيو بانزيني، أول مدير لـ«مكتبة المتحف البريطاني» (1836) «أريد أن يملك الطالب الفقير الإمكانات عينها التي يملكها الرجل الأغنى في المملكة، من حيث القدرة على إشباع فضوله في التعلّم، وتطوير ملكات تفكيره، والرجوع إلى المراجع الموثوقة». لا شيء يحوّل بحر الكتب المتلاطم على الانترنت إلى ظمأ هائل، أكثر من حقوق الملكية الفكرية التي تمنع اغتراف ولو قطرة منه، من دون المرور في حقل قوّتها الطاغية. وفي بلد مثل الولايات المتحدة، التي تمتدّ هيمنتها على الانترنت بأبعد مما تصفه الكلمات، يرسم الدستور صورة متوازنة بين حق المؤلفين في الحصول على عائد مجز من إبداعهم فكرياً، وبين المصلحة العامة، من خلال دعوته إلى وضع حدّ زماني لحق الملكية الفكرية. تبدو تلك وكأنها التماعة لوعد آخر من القرن الثامن عشر أيضاً. في الممارسة فعلياً وحقوقياً، يصل زمن الملكية الفكرية أميركياً إلى قرابة مئة سنة، بحسب ما انتهت إليه الدعوى القضائية بصدد «ميكي ماوس» الذي كاد أن يتحوّل ملكية عامة عام 1998، أيام الرئيس بيل كلينتون، لكن الشركة التي آلت إليها ملكية تلك الشخصية البصرية، رفعت دعوى لإطالة احتكارها له. وكسبتها قضائياً. وبات «قانون حماية ميكي ماوس» يطيل أمد الملكية الفكرية سبعين سنة بعد وفاة صانع المنتج الفكري، ما يجعل مدتها فعلياً تفوق المئة سنة. في بلد مثل الولايات المتحدة، لا تستطيع المكتبة الرقمية العامة (كتعبير آخر عن شبكة الانترنت) ان تضم إلا ما يعود إلى ما قبل عام 1923. أي تخلّف هائل تكونه هذه المكتبة؟ ما مستوى المعرفة الذي كانت عليه المعارف والعلوم بين ذلك الوقت والحاضر؟ بهذا المعنى، يكون الكتاب الرقمي متخلّفاً عن سالفه الورقي بمقدار الفارق في المعرفة الإنسانية بين 1923 و2009. وإذا، صدقّنا ان مسار العلم يتسارع باستمرار، بأثر تراكم المعرفة وتقدّم التكنولوجيا، تصبح الثمانين عاماً السابقة أشبه بالسنوات الضوئية، ويضحي الكتاب الرقمي غارقاً في لجة ظلام التاريخ القديم قياساً بالكتاب الورقي. ثمة كثير من الالتماعات التي تضيء هذه الصورة المقلقة، أهمها التحدي المستمر الذي يلاقيه هذا التفاوت من جهات متعددة، تبدأ من الأشخاص الذين لا ينكسرون عن تنكب السير في الطليعة والمؤسسات (خصوصاً الأميركية) ذات الحس الهائل بانتمائها (وكذلك انتماء ثقافة بلادها) إلى الإنسانية، بالمعنى العميق للكلمة. أمثلة؟ عن المؤسسات، يمكن النظر إلى «معهد ماساشوستس للتقنية»، الذي سجّل سبقاً تاريخياً بأن وضع مقرراته الجامعية بطريقة الوصول المفتوح على الانترنت. ويقود المعهد عينه أيضاً مبادرات متألقة (لا يُرَوج لها في العالم العربي الذي تسيطر الشركات على الخطاب المتصل بالمعلوماتية والاتصالات فيه)، مثل «كرياتف كومونز» Creative Commons («المبدعون العامون») و«أوبن نولدج فور كومنز» Open Knowledge for Commons («المعرفة المفتوحة للعامة») و«إنترنت أركايف» Internet Archive («أرشيف الانترنت») وغيرها. وعن الأشخاص الذين يسعون لتحقيق حلم جعل الانترنت مكتبة رقمية عامية، يمكن التطلّع إلى البروفسور الأميركي هارولد فارمُس، الحائز على جائزة نوبل للطب 1989. وأثناء ترؤسه «المعاهد الوطنية للصحة» (وهي المؤسسة الأضخم عالمياً للبحوث الطبية) في تسعينيات القرن الماضي، حاول جعل الدوريات العلمية الأميركية مفتوحة أمام جمهور الإنترنت، بداية من مرور أقل من سنة على ظهورها. لكنه جوبه بمقاومة شرسة، لم تفد إزائها المساندة التي قدمها الرئيس كلينتون. كان منطق فارمُس بسيطاً: معظم ما تنشره تلك الدوريات تأتي من بحوث تدعمها الأموال الفيدرالية العامة (أي أموال المواطنين) وتموّل علماءها أيضاً، وبالتالي يحقّ للحكومة أن تجعل من تلك البحوث ملكية عامة، من خلال تجميعها في مكتبة رقمية عامة ومفتوحة الوصول للجميع. عبثاً حاول. عبثاً سانده كلينتون. إنها قوة المال وقوة شركات الطباعة والنشر، التي تمثّل مؤسسات ضخمة.
ومن الشخصيات التي تحاول نشر فكرة المكتبة الرقمية المفتوحة، يصعب التجاوز اسم البروفسور الأميركي لورانس ليسيغ، الذي عمل مستشاراً للمعلوماتية في البيت الأبيض أيام رئاسة كلينتون. يعتبر كتابه «الثقافة الحرّة» Free Culture نوعاً من مانيفستو لحركة تحرير الوصول الى المعرفة على الإنترنت. وغني عن القول أن ذلك لا يلقى صدى في الدول العربية، إلا بأصوات واهنة. ثمة دول تخوض في مفهوم المكتبة الرقمية العامة المفتوحة. لكن هذه المساحة فيها تجاذبات هائلة، يصعب اختصارها. ويعطي نموذجاً صغيراً ومعبّراً عن تناقضاتها أن بيل غيتس، المؤسس الأسطوري لشركة «مايكروسوفت» العملاقة، كُرّم في رومانيا بوسام وضعه على صدره رئيسها من دون ان يتردد في القول ان تقدم بلاده في المعلوماتية لم يعتمد على غيتس ونُظُم «ويندوز» وبرامجها وتطبيقاتها، وإنما يرجع الفضل فيها الى الـ«هاكرز»: أي «قراصنة الكومبيوتر» الذين يتحدون يومياً وبصورة متواصلة هيمنة الشركات الكبرى والطريقة المقيتة التي تُمارس فيها مفهومها لحقوق الملكية الفكرية. في العالم العربي، يجري أغلب الحديث عن «قراصنة الكومبيوتر» وكأنهم قراصنة الصومال أو أشباح القراصنة القدماء، أي باعتبارهم لصوصاً وليس باعتبارهم من أنسال «بروميثوس» الذي تقول الاسطورة الإغريقية إنه سرق سرّ النار من الألهة ليُمكّن البشر من العيش على الارض والتسيّد على حيواناتها وبناء حضاراتها. واستطراداً، لم يتنبه الإعلام العربي كلياً لظاهرة أحزاب «سَرَقَة النار» المُعاصرون، التي شرعت في الصعود وئيداً، بما يذكر بظاهرة أحزاب البيئة في الغرب الرائع أيضاً. وهذا غيض من فيض. في العالم العربي، يخوض الجمهور (من دون مؤازرة تُذكر من النُخُب المثقفة) في محاولات خجولة لتحرير المعرفة، عبر توفير نسخ ضوئية (أي مصنوعة بالسكانر) للكتب، وبالتجاوز عن مسألة الحقوق الفكرية. يلفت في هذا المجال، أن الخط الإسلامَوي يشارك بفاعلية في هذا المجال، على رغم أن خطابه الفكري لا يخوض في التنظير له. فمثلاً، يمكن النظر الى «مكتبة المصطفى» باعتبارها من المواقع التي تتيح الوصول بشكل مفتوح للكثير من الكتب العربية، على رغم تدخل ميلها الإسلامَوي في انتخاب بعض الكتب، أحياناً. وفي المقابل، شارك عمرو خالد، الداعية الاسلامي البارز، بقوة في الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية للشركات العملاقة. صحيح أن ما خاض به خالد انصب على الثقافة البصرية، لكن المفهوم الذي تمارس به الشركات الملكية الفكرية ينطبق على غير مجال. ويزيد في خطورة ما خاض به خالد، أن الكومبيوتر يوسّع مفهوم الكتاب، من خلال تقنيات الوسائط المتعددة «ميلتي ميديا»، ما يُدمجه في الثقافة البصرية بقوة. ما الذي يشير اليه هذا التناقض بين الممارسة الإسلامَوية وخطابها؟ واستطراداً، كيف يمكن النظر إليه في ظل ممارسات أخرى على الإنترنت، مثل كثافة استخدام تنظيم «القاعدة» للإنترنت والكومبيوتر، بأكثر مما فعلت الأحزاب العربية العلمانية مجتمعة، بل لعله سجل سابقة في أنه «وُلِد» على الإنترنت تقريباً؟ كيف تُقرأ تلك الأشياء؟ وأي خيط يسري بينها؟ أسئلة بحاجة الى نقاش آخر.
يد «غوغل» العملاقة ومصير المعرفة
ثمة صراع ضارٍ في مجال رقمنة الكتب، خصوصاً تلك التي تنهض بها شركة «غوغل». لم تتحقق نبوءة ماكلوهن عن زوال مجرة غوتنبرغ الورقية. الوسيط هو الرسالة. ابتُكرت المخطوطة في القرن الثالث او الرابع للميلاد. وظهر أول كتاب إلكتروني اسمه «ميمكس» Memex عام 1945. وتزايدت مبيعات الكتب بفضل مواقع الكترونية مثل «أمازون» و«بارنز أند نوبلز» و«إي باي». في 1999، اعترف بيل غيتس انه يفضل الورق المطبوع عند القراءة المُكثّفة «أي شيء يزيد عن خمس صفحات». ووصف القراءة على الشاشة بأنها أدنى.
حدثت أربعة تغيّرات أساسية في طريقة نقل المعرفة (تقنية المعلومات) خلال تاريخ ما بعد الكلام.
فقبل الميلاد بأربعة آلاف سنة، اكتُشِفت الكتابة. ظهرت الهيروغليفية قبل الميلاد بقرابة 3200 سنة، والألفبائية الجبيلية قبل الميلاد بألف سنة، التي يمكن اعتبارها بداية الكتابة فعلياً. غيّرت الكتابة علاقة الإنسان بالماضي، ومهّدت لظهور الكتاب كقوة في التاريخ.
ومع حلول القرن الثالث، راجت المخطوطة، وحلّت محل اللفافة والبردى، كما لعبت دوراً حاسماً في انتشار المسيحية. ومنذها، أمكن تقليب الصفحات، بدل حمل اللفافة كلها باليد. وتغيّرت تجربة القراءة. ظهرت الصفحة كوحدة للإدراك البصري. قرأ الناس مقطوعات واضحة ومترابطة تضمنت فقرات وفصولاً مستقلة.
وفي منتصف القرن الخامس عشر، ابتُكرت الطباعة المتحركة. انتشر اختراع غوتنبرغ، على رغم سبق الصينيين له (1045) والكوريين الجنوبيين الذين استعملوا الاحرف المعدنية (1230). جلبت كُتب غوتنبرغ دائرة لم تكف عن التوسّع. وإضافة إلى تكرّس الكتاب كوحدة للمعرفة (على نحو القول إن المتر وحدة قياس الطول)، خصوصاً مع ثبات ممارسات مثل إضافة جدول المحتويات والفهارس وغيرها من أدوات مساعدة القارئ. كثيراً ما قيل إن الكتاب، الذي يقرأه الفرد وحده ويتطلب مساحة معنوية حوله، ساعد على صعود الفردية ومفهومها في مشروع العقلانية الأوروبية الهائل. ومع الكتاب، ظهر نظام التعليم تدريجاً. وإذا سلمّنا أن الدولة الحديثة شرعت في الظهور بعد معاهدة وستفاليا (1516)، تبدو الدولة المعاصرة وكأنها مزيج من العقلانية وقوانين نيوتن (الجسم – الفرد وقوانينه) والكتاب.
لم تتغيّر تقنية الطباعة في القرون الأربعة التالية، لكن القراءة أصبحت مشاعاً، بفضل محو الأمية والتعليم والقدرة على الوصول إلى الكلمة المطبوعة. وسّعت المنشورات والجرائد والمطابع البخارية من عملية دمقرطة المعرفة، وبرزت القراءة كممارسة عامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وفي هذا السياق، يبدو الوسيط الإلكتروني (كوميونيكشن) حديثة تماماً، كأنها بالأمس أو قبله. ظهرت الـ«أربانت» في 1969، وتلاها الـ«ويب» عام 1981. شاعت المواقع ومحركات البحث منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين. عام 1998، ظهر «غوغل» ليسيطر على علاقة الكتب مع الانترنت، عبر مشاريع متلاحقة.
من المستطاع صوغ تلك القصة بطريقة أخرى. استغرق البشر 4300 سنة لينتقلوا من الكتابة على اللفائف والبرديات إلى المخطوطة؛ ثم لزمهم 1150 سنة لينتقلوا إلى الطباعة المتحركة؛ ثم احتاجوا 524 سنة ليسيروا من الكتاب إلى الإنترنت؛ وركضوا صوب محركات البحث في 19 سنة؛ ووصلوا إلى «غوغل» (علاقة) في سبع سنوات. من المستطاع المحاججة بأن هذا ليس سرداً بل مخادعة؛ إذ يمكن وصف الأمور بطريقة أخرى لتوليد انطباع وإدراك آخر حولها. كلما تطاول الزمان، انفسح المجال للمزيد من الألعاب. إلى أين يصل ذلك؟ غالباً ما يوصف العصر الإلكتروني بأنه عصر المعلومات، لكن تأملاً لتاريخ الوسائط لنقل المعارف يوحي بأن كل حقبة يمكن وصفها بـ«عصر معلومات» من نوع جديد. ودوماً كانت المعلومات غير مستقرة. ثمة ملايين من المدوّنات الإلكترونية، التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية. إذا نظرنا الى المُدوّنة الإلكترونية باعتبارها كتاباً للعصر الحديث، يحدد مواصفاته أيضاً، فما الذي نقرأ فيه؟ لقد انفلتت الكتابة في العصر الجديد للمعلومات من التنظيم التقليدي، ما ضاعف احتمال سوء المعلومات والتجهيل أضعافاً. ويوازي ذلك القول بحدوث نوع من كسر العقل عبر النسبية في المرجعية التي باتت متعددة إلى ما لا نهاية، وكذلك فإن فقدان الثقة في كل مرجع يضاعف النسبية، ويزيد من عدم القدرة على الحسم.
ربما نعيش في عصر الانتشار الهائل للمعلومات، لكنه أيضاً عصر غيّر المعلومات التي لم يعد ممكناً الركون إليها. ويترافق ذلك مع ميل الانترنت إلى التآلف مع الاشكال اللاعقلانية وانبعاثاتها، من الجينولوجيا (علم الأنساب) المستعادة إلى استعمال القاعدة للإنترنت ولعبة «فلايت سميولاتور» لتدريب إرهابيي 11/9، ووصولاً إلى السوريالية المبتذلة الشائعة لصور «الفوتوشوب» بحيث بات المُلم بها يقدر على الإزراء بسوريالية لوحات دالي.
ربما تمثّل الموسوعة الورقية ما يجمع بين الشكل والموثوقية في المرجعية. وفي المقابل، تثبت الموسوعات الإلكترونية ضعفها المتزايد أمام تحدي الموثوقية، بداية من انهيار تجربة موسوعة «إنكارتا» (صنعتها مايكروسوفت)، ووصولاً الى الحديث الرائج عن ضعف موثوقية «ويكيبيديا»: أشهر موسوعات الانترنت.
ربما يوازي ذلك الميل لعدم الركون إلى العقلانية، وذلك أبعد من نقد المرجعية، ما بعد الحداثة. ثمة فوضى هائلة تصل حد التشوّش لتجعل من تعدد الخيارات مدخلاً إلى عدم القدرة على الخيار، ولا النقاش فيه ولا نقله إلى الآخرين للمناقشة فيه. واستطراداً، يصعب التغاضي عن أن ما يركن إليه جمهور الانترنت، بل والوسائط الاعلامية العامة عموماً، هو ما يأتي من عالم الاساطير والميتافيزيقا، وضمنها الميتافيزيقيا الدينية. وكذلك يلاحظ ميل الجمهور للركون بالإنتماءات الأكثر بديهية (القبيلة، الجماعة العامة، الطائفة، المذهب، العائلة و…الجسد؟) أمثلة؟ مباراة كرة قدم مصر الجزائر، جماعات الانتحار الجماعي، وظواهر القتل في المدارس والجامعات المرتبطة بالالعاب الالكترونية والانترنت وحتى رواج الشبكات الاجتماعية أكثر من غيرها (مثل المواقع الثقافية والمعرفية) على الانترنت. هل ترتبط تلك الأشياء باضطراب الكتاب ومكانته؟
الاتحاد الأوروبي «يستعيد» كلكامش
تحكي وعود ما بعد الحداثة عن سرعة الكتابة والنشر الرقميين، عن خاصية لم تظهر في الكتابة على مر التاريخ ومفادها أن نصاً واحداً يوضع على الانترنت، يكفي كي يصل الى عدد لامتناه من القرّاء. وفي مقابل الوعد الزاهي، ثمة واقع ترسف فيه عملية نقل المعرفة وسريان النصوص في القيود الثقيلة لحقوق الملكية الفكرية للشركات. وبهذا المعنى، فإن جزءاً كبيراً من المستقبل الغائم للكتاب الرقمي، يتحدّد راهناً من خلال مبادرات كبرى، خصوصاً مبادرة «غوغل» لرقمنة الكتب. سوف لن يناقش هذا المقال السطوة الهائلة التي تأتي، احتمالاً، من وضع كتب الانسانية في قبضة وحيدة. ذلك أمر يبدو مدركاً، ويزيد في حدته القول إن عصر ما بعد الحداثة يرتكز على المعلومات والمعرفة. إن صح ذلك (والأرجح أنه صحيح)، فأي قوة هائلة تنشأ من تركّز المعلومات ونصوصها في يد مفردة ومطلقة؟ هل ما نشهده مسار لديموقراطية المعلومات أم بداية لديكتاتورية غير مسبوقة، أو ربما كلاهما معاً. في النص الذي صاغه المفكر الفرنسي الراحل جان بودريار لفيلم «ماتريكس» (الجزء الأول).
يشرح الممسك بزمام الـ«ماتريكس» أن ذلك البرنامج الافتراضي وضع أصلاً لتسهيل حياة البشر، بمعنى أنه قلّد تلك الحياة ونسخها، ثم انتهى الى السيطرة عليها. ثمة خشية مماثلة بالنسبة لما يفعله «غوغل»، على رغم إيجابياته التي لا تحصى. من المستطاع النظر الى ذلك بأنه مسعى فعلياً لـ«نسخ» حياة الكتاب كلياً، من خلال النُسخ الافتراضية للتراث الإنساني. ما يلي ذلك يصعب التنبوء به. من السهل الاستمرار في الوضع الراهن الذي يتضمن إعطاء «غوغل» موضعاً أخلاقياً عالياً (بل غير قابل للنقاش)، والاستمرار في تخيّل أنه يسير مدفوعاً بإرادة طيّبة تخدم المسار الإنساني. إنصافاً، لم يفعل «غوغل» (تحديداً في مجال مبادرته لرقمنة التراث البشري من الكتب) أي خطوة ضخمة تثير الريبة. ولكن، من يستطيع الركون الى شيء كهذا، من دون تحوّط كاف؟ لماذا التحوّط؟ لأن الأمر يعني تركيز كميات هائلة من المعلومات والكتب والتراث في قبضة مُفردة، لا تصلها بالسلطات القائمة، خصوصاً منذ عهد الكتاب، علاقات تُعطي الجمهور سلطة كافية. إنها ليست كالعلاقة مع الحكومات، التي يمكن التفاعل معها من خلال الرأي العام والتصويت، بل حتى التنديد والمظاهرات والإضرابات والتمرّد. لا يتصل الأمر بنوع من البارانويا (أي عقدة الاضطهاد والخوف التي لا أساس لها)، بل بالوقائع. لقد حذر السياسي الفرنسي المخضرم جاك أتالي أوروبا من السلطة الهائلة التي تؤول الى قبضة «غوغل» إن تفرّد بالتراث الإنساني من الكتب مُرقمناً. وأفرد لذلك الأمر كتاباً حمل عنواناً تحريضياً «أوروبا تتحدى غوغل». وفي سياق مماثل، ظهر كتاب «غوغل وخرافة المعرفة العالمية» (يظهر التشديد في عنوان الكتاب الأصلي) Google & AND THE MYTH OF UNIVERSAL KNOWLEDGE للكاتب جان- نويل جانيي الذي ترأّس «المكتبة الوطنية» في فرنسا بين عامي 2005 و2007. وشرح في كتابه ما رأى انه الملمح الأسوأ في مبادرة «مكتبة غوغل»: إساءة تقديم التراث الثقافي للإنسانية، بل تدميره! ولم يترجم هذا الكتاب الى العربية، على رغم ترجمته إلى لغات عدّة، يبرز بينها ترجمة جامعة شيكاغو له عام 2008. لا شيء من تلك النقاشات وجد صدى فعلياً في العالم العربي، بل تردّدت عنه أصداء شديدة الخفوت، بسبب السيطرة الهائلة التي تمارسها شركات المعلوماتية عبر صلاتها القوية مع وسائط الاعلام، وخصوصاً الجهات التي تملكها وتموّلها. ويبدو ان تلك الأصوات الجريئة لم تذهب هدراً في الغرب. فإضافة الى نقاشات وصراعات مذهلة، برزت مبادرات رمت قفاز التحدي مباشرة في وجه «غوغل». والأرجح أن الاتحاد الأوروبي، لأسباب متنوّعة، كان الأشد تحدّياً. وأخيراً، أطلق مبادرة ترمي مباشرة الى منافسة «غوغل» في رقمنة الكتب. وعلى رغم كثرة الأصوات المؤيّدة لـ«المنافسة» (خصوصاً باعتبارها جزءاً من الليبرالية)، لم تسمع أصوات المثقفين العرب عن مبادرة إحدى القوى العظمى في العالم المعاصر الى منافسة شركة عملاقة في المعلوماتية، في مجال رقمنة الكُتُب ووضعها في الفضاء الافتراضي للإنترنت، وبالتالي ترسم أفقاً آخر لمصيره.
من يدري الى أين تقود تلك المنافسة؟ لا شيء واضحاً في ذلك. وربما رجع البعض الى الكتب القديمة، عملياً الى تراث الإنسانية في زمن ما قبل الكتاب، ليقرأ في منحوتات «ملحمة كلكامش» أن أهالي مدينة «أور» لما أقحلت حياتهم من السطوة الضارية لكلكامش (نصف إله ونصف بشر، شيء يشبه وصف الفيلسوف الفرنسي بودريار للشركات العملاقة في عالم العولمة والانترنت)، تضرعوا الى الآلهة أن تجعل له غريماً يضارعه في الحول، كي يعيشا في صراع، وكي تعيش «أور» وأهلها في أمان. هل يكون الأمر كذلك، أم يسير الاتحاد الاوروبي في مصير كلكامش، فيدرك عدم جدوى الحصول على سطوات تفوق قدرة البشر، وأن الخلود فعلياً والحضارة الحقّة، تكون بتكاتف البشر وتآزرهم في كنف علاقات عادلة، لبناء حضارة تليق بالكائن الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى