القارئ افتراضي وسوق الكتب افتراضية: لا تجربة نشر شعبي إلاّ بقلب المفاهيم
عبيدو باشا
عالم النشر ليس اندلس العرب. لا اثر للنشر العربي في معظم دول العالم. لا اثر للنشر العربي في جمهوريات العرب وممالكهم واماراتهم. لذا لا اثر لصيانة جديدة للعالم هذا. لا تطوير ولا تجديد ولا تجريب، طالما ان لا مشهد. سوى مشهد الناشرين الذاهلين امام صناعة جالسة على صورتها منذ مئات السنين. كأننا جماعة تتلص على صعيد انتاج كتاب جديد، على صعيد كتاب حديث. الكتاب مهاجر الينا. الكتاب لقية غيرنا، لا لقيتنا. كلما مد العرب ايديهم لتلمس اللقية هذه، راوحوا امام رحلات ضياعم وهي تسيل فوق اكوام الخشب المتحول الى ورق جارح.
ثمة كتابان شعبيان في العالم العربي والاسلامي، ما دام النشر الشعبي واحدا من الحلول المطروحة على بساط خرائب النشر: القرآن الكريم. والف ليلة وليلة. برجان لا نستطيع ان نراقب من علويهما طريق النشر العادي ولا النشر الشعبي. غير انهما كتابان شعبيان. الأول كتاب مقدس. الثاني: كتاب يقدسه الاوروبيون. لأنهم قرأوه اكثر مما قرأه العرب. لن تعد الصورة هذه بشيء مستقبلي الا باستمرار سياسة لاستشراف لدى العرب امام الكتاب العربي. ترك الكتاب في مدينة. اغلقت ابواب المدينة عليه. ثم: هجر العرب المدينة الى غير رجعة. حتى اضحى العرب لاجئين في مدن الكتاب. لأن كتابهم خربة. وصل الكتاب الى المرحلة هذه بعد مرحلة «البيت الهرم». اصبح الكتاب بيتاً هرماً. ثم: امسى خربة. لا زقاق للكتاب. لا ساحة. اذاً: لا سوق. بغياب السوق: لا كتاب. لا كتاب تأخذه النخبة. ولا كتاب تطلبه العامة.
تردد الغالبية ان الكتاب صناعة. هذا صحيح. اشارة لازمة. اشارة ضرورية. لأن لا حياة للصناعة، حتى لصناعة الكتاب، في بلاد تراوح امام خيارين بلا حسم. لا هي بلاد بخيار زراعي. ولا هي بلاد بخيار صناعي. حسم الموقع بين الخيارين، خطوة أولى. يحتاج الحسم الى آليات معقدة تقوم على اهتمامات بنائية، لن تلبث ان تبني عوالم الصناعة. ثم: عوالم استقرار الصناعة. ثم: صناعة الاستقرار في عوالم الصناعة. احدها: عالم صناعة الكتاب. لا شيء قبل حسم الخيار بين الاتجاهين، سوى محاولات خاصة تنشغل كثيراً بالجماليات، كي تغطي على الغيابات البنيوية في عالم صناعة الكتاب. احسب انه لا بد من اعادة نظر شاملة في مفهوم العظمة الابداعية في صناعة الكتاب. تبدأ رحلة صناعة الكتاب هنا. لأن الكتاب ليس وحدة طائرة في فضاء ناشف وغير متجاوب. تبدأ رحلة صناعة الكتاب في تصحيح الافكار المغلوطة حول صناعة الكتاب حتى تصل في ما بعد الى تعميم الكتاب في أيدي الناس أو الجمهور العربي سواء بكتاب شعبي او لا شعبي. لا نقص للأفكار المفصحة عن ازمة الكتاب. اولاً: ارتفاع نسبة الأمية في الدول العربية بدلا من انخفاضها ونحن نلج من قرن الى قرن.
اتحدث عن لبنان لأنني لبناني. ولأن لبنان محسوب على الدول المتقدمة في المنطقة. يعتبر لبنان بلدا ذا نزعة ثقافية عالية. يمتلك لبنان غرفه الثقافية الخاصة برسائلها الموجزة والمطولة. آخر الرسائل رسالة الاونيسكو الخاصة بلبنان الدولة اللااقليمية. أو الدولة غير الشبيهة بالاقاليم المجاورة. بالاحصاء الاخير للاونيسكو حول نسب الامية في لبنان، وصلت النسبة الى ما يقارب الستين في المئة. اذاً: نحن امام نسبة اربعين بالمئة اصحاب امتياز انهم غير اميين. ستون بالمئة اميون في بلد ذي نظام تعليمي متقدم بحضور الجامعة الوطنية – الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة: الجامعة الاميركية وجامعة القديس يوسف وجامعة البلمند والجامعة الاميركية للعلوم والثقافة والجامعة الحديثة للاعمال والعلوم وجامعة بيروت العربية ومئات المدارس الرسمية والخاصة ومدارس الارساليات. التأمل في ذلك شاق. تأمل ذلك مضن في عالم الطباعة والنشر. لأن منظومة الطباعة والنشر امام نصف جمهور أو أقل، لن تمارس اطروحات نقدية أو انظمة فكرية، ما دام هذا الجمهور يتألف من شرائح كثيرة. شرائح صغار السن والفتيان والشباب والراشدين. شرائح تقرأ وشرائح لا تقرأ. شرائح يهمها الكتاب وشرائح لا يهمها الكتاب البتة. بالاخص: لأن القراءة تواجه مفهومين متناقضين – تناقض المجتمعات الزراعية والمجتمعات الصناعية – مفهوم القراءة التربوية ومفهوم القراءة التعليمية. ذلك ان المدارس تخرج اعداداً كبيرة من القراء الكارهين للقراءة باستعمال لغة القراءة القسرية. المعادلة واضحة وبسيطة: كل من يقسر على القراءة لا يقرأ في المستقبل. لا يعود الطالب يقرأ حين يستعيد حريته من سلطة المدرسة الابتدائية أو التكميلية أو الثانوية. اننا بحاجة الى قرارين جوهريين حتى نستعيد المبادرة في الطريق الى الطباعة والنشر واستلام المنشور بأيد راغبة. ممارسة افعال ثورية على صعيد بناء أرضية تحتية تقلل أو تساهم في تقليل عدد الاميين في لبنان وفي بلدان الجوار. ثانياً: ممارسة افعال ثورية على صعيد بناء الرغبة في القراءة، باخراج القارئ «المدرسي» من حال الاحباط على صعيد علاقته بالكتاب بمنح الطالب الزمن وحرية الخيار وحرية التجريب في علاقته بالكتاب. بذا: لا نخدم منهاج المدرسة المتخلف. بل نخدم الاطفال والفتيان والشباب في تنمية علاقتهم بالكتاب، خارج المفاهيم السائدة المتفاهم عليها. الحاجة ماسة الى سياسة تنموية في المجال هذا. تبنى السياسة هذه على الحقيقة والخواص لا على السياسات القسرية. نقلة هامة سوف توسع زاوية الرؤية والممارسة بحيث لا يعود عالم الكتاب مغلقاً بالعلاقة القهرية القائمة بينه وبين القارئ. لم ينل اللبنانيون والعرب ذلك منذ عصور. ذلك ان العربي وجد نفسه في سن اليأس على صعيد القراءة بضربة واحدة. أخذه اليأس منذ اللحظة الأولى الى بناء علاقة مشوهة بالقراءة. لذا: يقل عدد قراء الكتاب بدلا من ان يزيد.
صعقني جواب أحد الناشرين عن سؤال حول الطباعة والنشر. أكد ان القارئ افتراضي. ان سوق الكتاب هي سوق افتراضية. لا قارئ اذاً. اذاً: لا سوق كتب. نشر وطباعة بلا سوق. طباعة بلا نشر. سوق افتراضية في علم ساحق لا افتراضي. بعالم متطلب لا افتراضي. لا يحتاج الكتاب الى مغادرة بيته للقاء القارئ. لأن لا بيت ولا قارئ. اذاً: لا يولد الكتاب كتاباً، بل يصبح كتاباً. هذا بابه. هذا ملاذه. هذا مفهومه الأول والاخير. الكتاب نوع. الكتاب جنس. لن يولد الكتاب الا بخلق تيار ثقافي يشتغل على قلب البنى التحتية في العالم العربي. لن يجري هذا الا بالاتفاق. بالتواطؤ، اذا تعذر الاتفاق. هكذا: نذيب المبادئ بالانفتاح. هكذا: نرسم افق صناعة الكتاب وحضوره لدى الخاصة والعامة، بحيث لا يعود بمستطاع أحد أن يتهمه بالمحدودية وبالدوران في الاشارات الأولى البالغة الاهمية بحيث نتخطى الاشارات الأولى هذه الى حتمية وجود الكتاب في وسط بسيكو ثقافي. ذلك ان حلم حضور الكتاب كما نحلم به يبقى يرتبط بالجانب النفسي قدر ارتباطه بالجانب الثقافي قدر ارتباطه بالجانب الاجتماعي قدر ارتباطه بالروح الصناعية والآليات الصناعية الخاصة به.
يقود التشخيص السليم الى واقع الكتاب بروح تحرره من فكرة التراتب النخبوية في المجتمع. وتحرره من ركام ومخلفات الثقافة المهيمنة. بداية التغيير بالدعوة الى فهم موقع الكتاب من واقعه. وواقع الكتاب من موقعه في الحياة الاهلية هنا وهناك وهنالك.
سياسات النشر
ليست هذه فلسفة وجودية. ابداً. انه الأمل بتحصيل حضور الكتاب بشخصيته الضرورية. نتاج فكري. بيد انه نتاج يقوم على الصناعة. بحيث لا يؤتى اكله في المناسبات فقط، حين يضحي تقليداً في عمليات مستمرة تنتج الكتاب متحولاً بشروط انتاج الكتاب المادية أولاً. اذ ذاك: نصبح في مسار انتاج كتاب شعبي. نمسي في مسار تجربة نشر شعبي غير ضيقة. لأن تجربة النشر الشعبي – راهناً – تجربة محدودة. بل محدودة جداً. باعتبار انها خضعت باستمرار الى حماية هيئات حكومية. لا الهيئات الحكومية. آل التعريف في غاية الاهمية هنا. تفسير ذلك يقود الى اسماء زوجات رؤساء أو حكام دول أو امارات أو ممالك.
تدعم السيدة سوزان مبارك سلسلة « كتاب الاسرة». بدعمها: يقع كتاب الاسرة في تجربة النشر الشعبي. اضحت السلسلة بدعم زوجة الرئيس المصري سلسلة شعبية. وبمتناول عدد اكبر من القراء. مثلها: سلسلة المسرح الكويتي المدعومة من وزارة الثقافة في الكويت. تنتشر السلسلة هذه بين أيدي المسرحيين وغير المسرحيين كما تنتشر النار في غابة يابسة. ثمة سلاسل اخرى في هذا التقليد. واحدة منها: سلسلة الكتب المدعومة من وزارة الثقافة في الشارقة. اشير الى ذلك على ضوء تجربة شخصية وجدت فيها كتب الشارقة في متناول الاكثرية السكانية. غير ان التجارب هذه تراوح في هامش التجارب الاوروبية. تجارب لامعة، غنية، ذات بعد وطني. وجود التجربة في بعدها الوطني ضرورة قصوى. هذا مثال: تصدر عن دار «غالميار» بفرنسا سلاسل شعبية. كتب باحجام صغيرة. تطير كتب السلاسل الى اعداد كبيرة من القراء بسبب اسعارها المنخفضة. يعود انخفاض اسعارها الى سياسة الدار المسنودة الى سلوك الجمهورية الفرنسية في هذا المدار. اذ ان الجمهورية تشتري سلفاً اعداداً كبيرة من الكتب قبل صدورها، كي توزعها على كافة المكتبات الوطنية الفرنسية. هذا دعم اشبه بدعم بعض الحكومات والانظمة العربية للكتب. الفرق بينهما: ان دعم الكتاب في أوروبا يقوم على تجربة تاريخية دفعت الكتاب الى خارج اشكال القيم البلاغية القديمة في صالح قيم جديدة، حولت الكتاب الى اداة غير مفصحة. الى اداة شعبية بايدي الشعب.
«غاليمار» واحدة من مئات دور النشر الفرنسية في الاستحقاق هذا. كسرت مفهوم الامتياز في حيازة الكتاب بصالح لغة نشر جديدة، بصالح لغة تسويق جديدة تأخذ بعين الاعتبار مزاج القارئ ويومياته وقواه الاقتصادية. كتب السلاسل الشعبية انيقة، ملونة، مسلفنة. حين طرحت سؤال تجربة النشر الشعبي على مديرة واحدة من ابرز دور النشر اللبنانية (رنا ادريس – دار الآداب) جاءت اجابتها محض اقتصادية: كتاب غير ملون وغير مسلفن ومدعوم من وزارة ثقافة أو اي جهة دعم أخرى. يربح الكتـــاب قلـــيلاً عندها. لن يربح كثيراً، وخصوصاً من ارتباط الكتاب بحركة البورصة واسعار العملات والبتـــرول والدولار الاميركي واليورو. يعطف ذلك على حقوق المـــؤلف (وهي جزئية جداً) واسعار الورق ( 980 دولاراً للطن قبلاً. الآن: 1250 دولاراً ً). وعدم القدرة على توفيــره دائماً (من الصين أو اميركا أو السويد أو البرازيـــل). يقـــارب سعر الورق ما نسبته 25الى 35 بالمئة من تكلـــفة الكتاب الى التكاليف الاخرى. الابرز: سعر الشحـــن والنقل. ونسبة الارباح الممنوحة الى الموزع أو صاحب المكتبة العارضة. باستثناء الحسومات في معارض الكتاب، باستثناء مفاعيل الرقابة على عمليات الطبع والنشر والتوزيع.
النشر الشعبي
يستعمل الكثير من الناشرين اللبنانيين ورق الصحف. اتخيل ورق الصحيفة في كتاب. لا خصوصية جمالية. لا استقلال باتصال الصحيفة بالكتاب عبر الورق. ورق محصل من شجر البلد هذا أو ذاك. تقطع الاشجار في أوروبا لاستعمال الاشجار في عمليات كثيرة. يقطع اللبنانيون اشجارهم للتدفئة في فصل الشتاء. بون شاسع بين شعوب ناضل بعضها في مسار تصحيح القراءة وحضورها. في حين يناضل بعضها الآخر كي لا يموت من البرد. بين الاثنين حيوات وتجارب ومفاهيم وتقاليد وقناعات. كل ما لدى الآخر مفقود لدينا. يحتاج الكتاب لدينا الى الشعور بالذات، الى الشعور بالهوية. واعتبار الكتاب جزءاً من الهوية بكفاءة الصانع والناشر والكاتب والقارئ.
لا يزال الكتاب ـ عندنا – بلا حقوقه الأولى. جرت تجارب ارادت أن تحمله من مرحله البدائية الى المرحلة الوسطية. صدرت كتب سمعية. بقيت الكتب هذه جزءاً من موجة. لا نزال بحاجة الى بحر من الممارسة المحمية بالطاقات الخلاقة والامكانيات، كي نبني تجربة نشر شعبي تطال عموم الناس أو أكثرية الناس بالحد الادنى. وصول الناشر العربي الى ذلك هو ملحمته. هو «البست سلر» الخاص به. ثمة من يقترح الكتاب الالكتروني. احسب ان هذا جزء من موجة جديدة لن تنجح ولو تمت تغطيــتها بدوافـــع بيئية. ما نحتاج اليه للوصول الى تجربة نشــر شعبي هو طرح الكتاب كقضية اجتماعية واخلاقيـــة بعيداً من مفهوم الاخلاقية الايديولوجية السخيفة الدارجة في مجتمعات متهافتة وغير قادرة على بناء صورتها الا بالوعظ والارشاد.