أحداث “المحلة” فاجأت السلطة والإخوان المسلمين واليسار و…
سمير غطاس
قد يكون من الصعب، أو غير المستحب، أن نقدم للقارئ قراءة موضوعية هادئة في حدث ملتهب كـ”المحلة”، وفي ظل وضع مصري عام قابل للاشتعال مجدداً، كما هو محتمل، في أكثر من محلة أخرى.
لكن هذه القراءة الهادئة تبدو مع ذلك ضرورية ربما لاستكمال القراءات الأخرى التي خاضت في عرض هذه الاحداث وتحليلها.
ليس فقط بسبب غلبة الطابع الانفعالي على بعض هذه القراءات، وانما أيضاً بسبب العقلية الماضوية التي صدر عنها العديد من هذه القراءات.
ومن جهتنا نحن نعتقد أن أحداث السادس من نيسان (الماضي) تميزت عن غيرها من الاحداث الجارية بميزتين: الاولى، أنها كانت كاشفة لأزمة الوضع السياسي العام في مصر سواء بسواء على جبهة الحكومة أو في خنادق المعارضة.
والميزة الثانية، أن أحدات 6/4 قدمت لنا عناصر جديدة كل الجدة على المشهد السياسي المصري، بما يتنافى تماماً مع العقلية الماضوية التي اعتمدها الكثير من القوى في قراءة هذه الاحداث.
ولم يكن هذا الامر مفاجئاً لنا، في ضوء متابعتنا لحالة المرواحة و الركود المستدامة التي يعاني منها العقل السياسي المصري، وفي ظل حالة متورمة من المكابرة التي تمنع كل تيارات الفكر المصري من اجراء ما يتوجب عليها من مراجعة نقدية لتجاربها السابقة رغم أنها تعيد، بانتظام لافت للنظر، انتاج فشلها السابق نفسه.
وبدلاً من أن تشير هذه الظاهرة إلى ضرورة إجراء مراجعة نقدية للمكون الذاتي في عملية اعادة انتاج هذا الفشل، فإننا في الغلب نرتاح أكثر إلى التهرب من اخطائنا والهرب منها إلى الامام.
فحكومة “الحزب الوطني”، بتوابعها وملحقاتها، لم تجد ما هو أسهل من إدارة أحداث 6/4 بالعقلية القديمة لجنرالات الماضي. ومن صفات هذه العقلية أن تبدأ عادة بالاستهانة أو الاستخفاف بردود الفعل على ما ترتكبه من أخطاء وحماقات.
كان عبد الناصر مثلاً قد استهان واستخف كثيراً برد الفعل الإسرائيلي على قرارته الخطيرة باغلاق المضائق البحرية وسحب قوات الطوارئ الدولية من الحدود، وعندما وقعت بعدها الهزيمة المدوية في 1967 قال عبد الناصر: “لم نكن نتوقع أن يكون الطيران الإسرائيلي بهذه الكثافة ولقد انتظرنا الهجوم الجوي من الشرق و الشمال فجاء من الغرب“!!
والعقلية ذاتها هي التي تحكمنا الآن في مصر: الاستخفاف والاستهانة بردة فعل الشعب على الانفلات الجنوني لاسعار المواد الغذائية الاساسية: الفول والعدس والارز والزيت ورغيف العيش، وكلها من المواد الغير قابلة للتداول في البورصة، والغير قابلة للاستبدال بسلع أخرى مثل الكاتو، والمارون غلاسيه واللحوم بانواعها البيضاء والحمراء… والمدخنة.
وعندما فوجئت عقلية الاستخفاف هذه بحجم انفجار الاحتقان الشعبي فانها لم تفكر الا في التعامل معه بنفس العقلية الماضوية: إستدعاء أدوات القمع والزج بالمزيد منها، وإذ لم ينفع الامن المركزي فليس هناك ما يمنع من التلويح باستدعاء الجيش من الثكنات، رغم أن الحكومة كانت جربت بدرجات متفاوتة من النجاح اعتماد استراتيجية التفاوض السلمي في مواجهة العديد من الاحداث والاضرابات التي شهدتها مصر بشكل يومي تقريباً طوال 2007.
لكن العقلية الامنية عادت ففرضت نفسها، وفي سياق هذه العقلية ذاتها عادت الحكومة ايضا إلى نظرية المؤامرة، واتهمت الجماعات الخارجة عن القانون بالوقوف وراء مؤامرة “انتفاضة البلطجية” وهو ما يعيد إلى الاذهان عنوان الفيلم السابق للرئيس السادات “انتفاضة الحرامية“!!
وبين استخدام القمع ومحاولة تبرير ما حصل بنظرية المؤامرة، هرول النظام نحو جيوبه وأخرج منها ورقة الرشوة، وفي مشهد مخجل يشبه المزادات أعلن رئيس الحكومة عن رشوة عمال المحلة، باعتبار ان الرشوة قيمة تربوية أصيلة في ثقافة الفساد السائدة والتي نحرص على تلقينها لابنائنا.
وهكذا، فإنه في غيبة العقل و التفكير السياسي، رغم وجود لجنة في الحزب الوطني تنتحل هذا الاسم، قامت الحكومة باعتماد الاجراءات على أنها سياسات أو بديل منها.
وكما أن المشكلة ليست في ذيل السمكة وانما في رأسها، فإن المشكلة في مصر هي الانسحاب العشوائي للدولة من حياة المصريين، وتركهم فريسة للاحتكارات الاجنبية و المحلية وللفوضى المستباحة للسوق التي يحلو للبعض أن يسميها زوراً قوانين السوق.
لا أحد بالطبع يمكن ان يطالب بعودة الدولة الشمولية، لكننا نطالب بتنظيم انسحابها من مهماتها السابقة، وكان يفترض ان يتولى النظام السياسي تنظيم هذه العملية التاريخية وتأمينها كما حدث في معظم دول العالم التي مرت بظروفنا نفسها وربما حتى بظروف أسوأ بكثير مما نشهده في مصر.
ولمن لا يعرف، فإن هناك ثلاثة شروط أساسية لضمان الامن الاجتماعي في هذه المرحلة الانتقالية:
أولاً: أن يتم السماح للمجتمع المدني والنقابات المستقلة، والاحزاب الحرة والجمعيات والمنتديات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني بأن تحدث التوازن الاجتماعي الذي أختل كثيرا إثر انفلات قوى السوق التي أجبرت الدولة على هذا الانسحاب العشوائي. ولن يتحقق هذا الشرط في مصر في ظل وجود ترسانة القوانين المعطلة للحريات السياسية، وفي ظل لجنة “قراقوش ” التي تمنح التراخيص بقيام الاحزاب والتي يرئسها الامين العام للحزب الوطني !!
ثانياً: أن يكون لمصر مشروع سياسي واضح ومعلوم للشعب، وهناك بالطبع فرق كبير بين مايسمى برنامج الرئيس، ومفهوم المشروع السياسي الذي يحدد رؤية المجتمع لما يجب أن تكون عليه مصر في المدى المنظور: هويتها، ومكانتها في مصاف الدول المتقدمة، واختياراتها الإستراتيجية الخ، وهذا الشرط ليس أختراعاً وليس إملاء خارجياً، بل هو من الأمور التي جرّبها بنجاح باهر العديد من شعوب العالم: النمور الاسيوية، تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، وايضا الهند التي يزيد سكانها على المليار، وماليزيا في تجربة مهاتيرمحمد،وتركيا الاسلامية التي اختارت الانضواء تحت لواء “الخلافة الاوروبية“.
ثالثاً: والشرط الثالث، هو ضرورة وجود حزب غالبية حقيقي، حتى لو حقق هذه الغالبية بما لايتجاوز النصف زائداً واحداً وليس 99%، لأن مشكلة مصر هي أنه منذ يوليو 1952 والأحزاب المسماة غالبية تتناسل من سبط واحد: هيئة التحرير، فالاتحاد القومي،ثم الاتحاد الاشتراكي فالحزب الوطني. وتعود ملكيتها جميعاً للدولة ولرئيسها. وبالنتيجة فإن جوهر مشكلة مصر ليست في احتكار الحديد أو الاسمنت وغيرها، وانما في احتكار السلطة وتأميم الحياة السياسية والديموقراطية.
ومن هنا كانت أحداث 6/4 كاشفة للكثير من الجوانب الاساسية لأزمة النظام السياسي في مصر، ولم تكن المشكلة، كما يذهب الدكتور عبد المنعم سعيد في مقاله الاسبوعي في “الاهرام” يوم 14/4 الماضي أن الحزب الوطني تفاجأ بالاضراب ففقد المبادرة، وتعامل معه بحلول اقتصادية خاطئة (لعله يقصد بمنهج الرشوة). لأن ما يذهب اليه الدكتور عبد المنعم، وغيره الكثير، ليس سوى اعراض تطفح على السطح عند كل مأزق أو أزمة، وإذا اردنا الحقيقة فإن المشكلة تكمن في طبيعة الحزب نفسه وليس فقط في سياساته، وما لم تفك العلاقة بين الدولة وحزبها، وترفع قبضتها عن الحياة السياسية فمن المشكوك فيه كثيراً أن تتقدم مصر إلى المكانة التي نريدها لها بين الامم.
ومن جهة اخرى فإن أحداث 6/4 لم تكن كاشفة فقط لأمور الحزب الوطني والحكومة، لكنها كانت كاشفة أيضاً لمجمل مكونات الخريطة السياسية المصرية. وفي ما تسمح المساحة المحدودة يمكننا عرض هذا الامر في النقاط التالية:
أولاً: إن أحداث 6/4 نبهتنا جميعاً إلى وجود وسائط حديثة جديدة للاتصال والتحريض والتعبئة إنّ تجاوزت الجميع، حكومة ومعارضة، وفي تعبير رمزي على ذلك يمكن القول بأن “الفيس بوك” هزم مملكة أنس الفقي وتوابعها، ولهذا تبدو هزلية إلى حد بعيد محاولة الصاق تهمة التحريض بجورج اسحق، لأنه لو ثبتت هذه التهمة عليه فهو يستحق وقتها عن جدارة واستحقاق أن يتولى مسؤولية رئاسة الحكومة أو لجنة السياسات أو على الاقل وزارة الاعلام.
ثانيا: إن أحداث 6/4 ضبطت الاخوان المسلمين في وضع حرج، وقد تأكد للمصريين أن أزمة “حماس” في غزة أكثر اهمية بالنسبة للاخوان من أزمة الفقراء في مصر في المحلة أو كفر الدوار أو حتى في شبرا النملة.
ثالثاً: إن التيار القومي الناصري يبدو متأثراً بممارسة السياسة على طريقة الظواهر الصوتية لاحمد سعيد ايام صوت العرب، ولسعيد الصحاف في اعلام صدام، وهو لا يقدم رؤية أو مشروعاً سياسياً بقدر ما يقدم خطاباً تعبوياً، ومن طبيعة هذا الخطاب تضخيم الاحداث وتهويلها، فهو يعتقد أن 6/4 وضعت النظام على حافة الانهيار الكامل، واكثر ما نخشاه ان يكون هناك من يحلم بعودة “بكباشي” جديد يصل إلى قصر عابدين على متن دبابة لوراثة هذا النظام، فيما تودع شعوب العالم كلها إلى غير رجعة زمن “البكباشجية“.
رابعاً: إن أحداث 6/4 كانت كاشفة أيضاً لتيارات اليسار في مصر، ففيما أختار حزب التجمع الالتحاق بمؤخرة الحكومة، فإن التيارات الأخرى لا تزال على ما يبدو تعيش في عالمها الافتراضي، فالطبقة العاملة التي تتحدث عنها هذه التيارات هي طبقة افتراضية ولا توجد الا في المرجعيات الماركسية النظرية، والتي لم تتوافر أي برهنة تاريخية على دورها الثوري الافتراضي، والبروليتاريا في مصر، كما في كل بلدان العالم لها نضالاتها النقابية المشروعة تماماًَ والتي ينبغي لنا مساندتها بقوة والدفاع عنها بكل حزم، لكن هذه الطبقة ليست أبداً الطبقة الثورية حتى النهاية والتي كان يقال أنه ليس لديها ما تفقده غير أغلالها او اصفادها اذا استخدمنا رطانة المثقفين.
ان مقاربة احداث 6/4 يمكن الاستدلال عليها على نحو أفضل عند “هربرت ماركوز” منظر ثورة الطلاب عام 1968، وليس عند كارل ماركس، فالطبقات المهمشة، وسكان العشوائيات وجيوش العاطلين عن العمل والفلاحين والشرائح الواسعة التي “ريفت المدينة” على حد تعبير نبيل عبد الفتاح، هي القوى التي شاركت في احتجاجات 6/4، فيما تكفل جيل الشباب، الذي لا تعرفه كل الاحزاب، بمهام الدعوة والتعبئة بطرائقهم الفائقة السرعة والانتشار، وهذه القوى هي المرشحة في الغالب للاشكال المتوقعة من الاحتجاجات التي يمكن أن تشهدها مصر، وربما العديد من البلاد الأخرى.
ومن البديهي القول بافتقاد هذه القوى لما قد يلزم من الافق السياسي (راجع شعارات المحلة)، وان هذه القوى، بدون وعي منها، قد تخدم مصالح قوى أخرى أكثر منها جاهزية وتنظيماً، لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه وليس بالضرورة ان يكون هو ما نريده أو نتمناه.
إن قراءة التداعيات وردود الفعل على احداث 6/4 لا تشي بمؤشرات مبشرة للتغيير في العقلية السياسية السائدة، ما يثبت، ويا للأسف، بأن المحلة قبل 6/4 وبعدها ستبقى هي المحلة، وأن المشكلة هي أن العقل السياسي هو الذي ليس في محله.
– القاهرة