ما يحدث في لبنان

هل هزيمة الموالاة صفقة جديدة!

null

حسيبة عبد الرحمن

لم أكن أريد الكتابة في الموضوع اللبناني الساخن. لكن اتصال الإذاعة البريطانية بي (للسؤال عن مادة سبق أن كتبتها في «السفير» اللبنانية حول الجيش) دفعني للكتابة ثانية في اللبنانيات كما يقال. توهماً مني أن هذه المادة تضيء زوايا سياسية أظن أنها مهمة، والعديد ممن يكتبون في الشأن اللبناني لا يقترب منها لأسباب عديدة تتعلق بكل كاتب.

وسأبدأ اعتماد طريقة القص من الوسط كأحد فنون القص التي تدرس في الأدب العربي:

اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بكشف شبكة اتصالات حزب الله، وكذلك نقل الضابط المشرف على المطار والمنتمي إلى الطائفة الشيعية (قراران يمسان الطائفة الشيعية) في بلد قام كيانه على الطائفية السياسية والمذهبية!

إذاً دخلت الحكومة في المحظور الطائفي للشيعة، وهي تدرك ذلك! ما بالك إذا عطفنا عليها علاقة شبكة الاتصال بسلاح حزب الله، ومحاولة تصفية الحزب، وإنهاء وجوده العسكري عبر أشكال مختلفة (منها ملاحقة قيادته وتصفيتها..)، أضف إلى ذلك أن القرارين كانا تجاوزاً لاتفاق دولي إقليمي محلي حول مرحلة ما بعد الرئيس اميل لحود، التزم كل من طرفي الصراع به، واستمر الستاتيكو إلى حين إصدار القرارات الأخيرة.

والسؤال الذي علينا طرحه: من دفع الحكومة اللبنانية لاتخاذ قرار كهذا ؟ هل الولايات المتحدة والسعودية؟ أم السعودية بعد إعطاء الضوء الأخضر الأميركي؟! أم الولايات المتحدة الأميركية؟! فقرار كهذا يحتاج لغطاء إقليمي ودولي (بغض النظر عن أوهام القرار الحر والمستقل لجميع الأطراف اللبنانية).

سأنتقل إلى مكان آخر يظهر للعيان في الجهة الشرقية، العراق وحركة المد والجزر لجيش المهدي المرتبط بمقتدى الصدر.

فقد شهد العراق والمناطق الوسطى والجنوبية منه هجوما لجيش المهدي ضد الجيش التابع للحكومة العراقية والأميركيين، استطاع جيش المهدي السيطرة على البصرة وبعض مدن الوسط، ما دفع الجيش الأميركي إلى الدخول الفعلي في المعارك. ومع ذلك لم تستطع القوى المتحالفة هزيمة جيش المهدي، وفتحت باب مواجهة قد توصل الاحتلال إلى خسارة مواقع كثيرة في العراق. فجأة سقطت البصرة وتبعتها مدن أخرى، وفجأة استعادت القوى الحكومية العراقية المدينة، وبقيت مدينة الصدر تحت خط المواجهات، ولم يتساءل أحد ماذا حصل؟ وما هي الشروط التي دفعت بجيش المهدي إلى التراجع؟

نعود ثانية إلى بيروت (وخلفنا ذلك المشهد العراقي السابق) وإلى قراري الحكومة اللبنانية اللذين سبق أن ذكرتهما. كيف قرأت الحكومة اللبنانية ما يجري في العراق وطبيعة موازين القوى على الأرض النخيلية؟ وهل من وشوشهم بأن قراراً ما قد صدر بتصفية المسلحين في المنطقة بمساعدة إقليمية؟ دفع الحكومة للتورط بهذين القرارين المفجرين للوضع اللبناني!

علينا قبل استكمال التحليل القول إن فريق الموالاة لم يقرأ جيداً ما يجري في المنطقة، وما هي الدوافع وراء تسريبات أجهزة الاستخبارات في العالم، منها تناول النائب وليد جنبلاط من خلال كتاب رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق؟ ومن ثم ما قيل عن نائب الاستخبارات الإسرائيلي السابق، يضاف إلى ذلك ما نشر في الصحف الأميركية والبريطانية وسواها عن فريق الموالاة «وارتباطه». وعلى ما يبدو أن فريق الموالاة اللبناني كان منوماً عما يجري في الكواليس. أو نوّم! أو أن اغتيال عماد مغنية أوصل لهم رسالة خاطئة.

أما المكان الثالث فهو فلسطين (غزة)، حيث تسيطر حماس، ومع الأسف لم ينتبه فريق الموالاة إلى أهمية لقاء كارتر مشعل، وقبول الأخير بالدولة الفلسطينية على حدود .1967 أي إن التاريخ عاد إلى عام 1974 عندما قررت منظمة التحرير الفلسطينية قبول البرنامج المرحلي، الذي تلاه ذهاب المرحوم ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة لإلقاء كلمة باسم فلسطين، وما هي دلالات اللقاء (كارتر مشعل) ونتائجه التي ظهرت سريعاً في تصريحات لخالد مشعل الزعيم الإسلامي (المقاوم والشرعي) من اعتراف ضمني بوجود إسرائيل سيتظهر لاحقاً (موقف الجهاد الإسلامي هو موقف الجبهة الشعبية آنذاك)، وهو الموضوع الأكثر أهمية من مسائل التهدئة والتكتيكات الحالية بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة.

والمكان الرابع هو سوريا، الأخ أو الصديق اللدود للبنان، وما قيل عن تسوية بين سوريا وإسرائيل بواسطة إسلامية تركية معتدلة، لن تكون هذه التسوية بدون غطاء إسلامي شرعي من حماس (المقاومة). عدا مجريات الملف النووي الإيراني واحتمال أن تكوّن المظلة النووية الروسية والصينية حلاً كحل الباكستان والإشراف الأميركي على البرنامج النووي الباكستاني.

هو الفضاء الإقليمي لمجرى الأحداث اللبنانية، فضاء يمثّل أهمية كبرى في مجريات الأحداث اللبنانية.

باعتبار لبنان باروميتر القياسات الحرارية للمنطقة، ولم نعد نقول الحلقة الأضعف، فقد أصبح لدينا العراق المفتوح والضعيف والمفكك.

بقي من اللوحة أو المشهد العام الجار الجديد (الولايات المتحدة الأميركية) وعلاقته بمجريات الأحداث تصعيداً، أو محاولة إيجاد تسويات جزئية أو كبيرة، ولن أتحدث عن الدور الإسرائيلي الذي تراجع كثيراً بعد أن حطت الولايات المتحدة ملائكتها المسلحة وعتادها في العراق.

لنعد ترتيب المشاهد والأوراق بحسب الأهمية بالنسبة للاعب الأكبر في العالم والمنطقة (الولايات المتحدة)، حيث يحتل العراق الأولوية في السياسات البوشية، ودول المنطقة تدرك ذلك، وعلى رأسها إيران اللاعب الثاني بعد الولايات المتحدة في العراق، فقد تكون هي من شجع جيش المهدي على اتخاذ خطوته الأخيرة بالهجوم ضد الاحتلال الأميركي وحلفائه العراقيين (الشيعة)، الذي حقق معادلة جديدة على الأرض، استدعى من الولايات المتحدة العمل السريع لتجاوز الهزيمة بعد فشل حلفائها (ما يسمى بالجيش العراقي) في صد الهجوم المهداوي. أي إن هجوما تكتيكياً من قبل المحور الإيراني بشكل أساسي، والسوري بشكل هامشي ضد الولايات المتحدة، ومشروعها في العراق، حاولت الولايات المتحدة الرد عسكريا في الساحة ذاتها (فشلت)، استدعى منها فتح حوار سري مع إيران، وأظن صفقة ما عقدت. وأرجح أنها نصت على تراجع جيش المهدي عن سيطرته، ووقفه العمل العسكري ضد حكومة المالكي، وجيش الاحتلال الأميركي، مقابل تقدم لحزب الله وحلفائه في لبنان. أي السماح لحزب الله بتثمير نتائج حرب تموز في الداخل اللبناني. وأعتقد أن الصفقة عقدت بمعزل عن دور أو معرفة سعودية. وهنا نلحظ أن الاستشعار السعودي كان بطيئاً في فهم المجريات والتطورات في العراق. وربما سرّب الأميركان معلومات خاطئة للمسؤولين السعوديين لتغطية الصفقة. فجاءت إشارة الهجوم ضد حزب الله من خلال قرارات الحكومة اللبنانية، وهي تعلم جيداً أنها لا تستطيع تطبيق أي من القرارين، لكن الهدف منه كشف حزب الله من قبل الشرعية (الحكومة)، ونزع شرعيته ابتداء من شبكة الاتصال.

وفي إشارة ثانية جاءت (إيران، سوريا) بردة فعل تمثلت بهجوم مضاد قام به حزب الله وحلفاؤه على المؤسسات (الحريرية والجنبلاطية) التي تعتبر صاحبة القرار الفعلي في الحكومة اللبنانية. وفي جردة حساب سريعة وتدقيقية نلاحظ أن المعارضة لم تقترب من المؤسسات الحكومية بمعنى مجلس الوزراء، الجيش، الجمارك، بل عمدت إلى قطع طريق المطار لعلاقته المباشرة بضابط أمن المطار، وبعض الشوارع، ما يعني أن الحزب لا يريد الانقلاب على الصيغة اللبنانية، بل الهجوم على مكاتب تيار المستقبل ووجوده في العاصمة بيروت، وإغلاق مكاتبه الإعلامية (الجهة السياسية التي اتخذت القرار ضده) وتسليمها إلى الجيش اللبناني. وأنا لا أريد تقييم ما حدث (وموقفي الاعتراضي عليه وعلى استخدام القوة في أي نزاع داخلي، حتى وإن كان الحق معه). ما يعنينا هو حصيلة التحرك الذي أدى إلى انهيار فريق الحريري ـ جنبلاط بسرعة، لم تدفع أحداً إلى التساؤل كيف حدث ذلك، ولماذا؟ وعندما استكمل الهجوم على الحزب التقدمي الاشتراكي في الجبل، تنبه زعيم المختارة السياسي المخضرم إلى دور الولايات المتحدة في كشفهم، فأعلن الاستسلام المنظم، مما يعني أن القوى اللبنانية الموالية للسعودية في طريقها نحو التحجيم، وقد يكون الهدف في ما بعد شطبها من الحياة السياسية اللبنانية (ولا أدري إن كان لمعركة نهر البارد، وما قيل عن دور سعودي حريري في هذا التحجيم).

قد يتوقف المرء عند أسئلة عديدة منها: ما هي الأسباب الحقيقية لتقليم دور السعودية في لبنان والعراق؟

أعتقد أن سياسة الولايات المتحدة تعتمد في وجه من وجوهها على تفكيك الروابط الأيديولوجية في المنطقة، وإن كانت على علاقة مصالح مع هذه الدول، فإن الحذر المستقبلي من رابطة الإسلام، وعلى وجه الخصوص الإسلام السياسي، يدفعها إلى فك تلك الروابط (وضع الباكستان). هذا دون أن ننسى أن السعودية فشلت في لعب دور الراعية السنية والقادرة على تغيير التوجهات الإسلامية (توجهات حماس، المسلحين السنّة في العراق وباكستان وأفغانستان). ولم تستطع لعب الدور (أيام الاتحاد السوفياتي) الذي كان عليها أن تلعبه، وهنا نعود ثانية إلى كشف المؤسسات الغربية لارتباطات المؤسسة السعودية الحاكمة بالأميركان وبالإسرائيليين (علاقات الأمير بندر بن سلطان).

وما دمنا نتحدث عن لبنان، فلا بد لنا من المرور إلى الدور الإيراني ومقارنته بالدور السعودي، وهنا علينا القول: رغم أهمية الدور الإيراني، إلا أن إمكان تمدده يبقى محصوراً، ليس كالامتداد السعودي، أو الناصري من قبل، لأسباب تاريخية، دينية ومذهبية. باعتبار الصراع السياسي والاقتصادي يتمظهر الآن على شكل صراع طائفي ومذهبي.

وفي عودة أخرى إلى موضوعنا اللبناني، وتحديداً إلى نتائج الصراع الميداني، فقد جاءت ردة فعل الموالاة بعد هجوم حزب الله وحلفائه على مؤسسات الحريري ـ جنيلاط، ردة فعل المذهول، ذهول الأنظمة العربية بعد حروبها الخاسرة. فاستل سعد الحريري الفتنة المذهبية ملوحاً بها، كما فعل مموله السعودي (وزير الخارجية السعودي)، وكأن قرار الفتنة بيدهما ! كما استحضرت التيارات الأصولية.

ما أريد أن أخلص إليه: إننا أمام صفقة إيرانية أميركية تقوم على انسحاب جيش المهدي (أو حله)، ودور سياسي كبير للصدريين، مقابل دور كبير لحلفاء حزب الله المسيحيين بشكل أساسي، وربما يتعداها إلى الدروز والسنة.

وبهذا تكون مرحلة الطائف تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد انسحاب سوريا من لبنان (الحد من دورها العسكري)، يليه تقليم الدور المالي والسياسي السعودي الذي تضخم كثيراً، ولم يعد مقبولاً في لبنان بعد حرب تموز، فكان قلب الطاولة بعد خروج سوريا وحرب تموز لا بد منه، وإعادة رسم الحياة السياسية اللبنانية وفق توازنات القوى الفعلية من جهة، وإعطاء دور كبير للجيش اللبناني (حليف حزب الله) في المرحلة القادمة. أما تمديد الأزمة التي بدأت منذ القرار 1559 واغتيال الحريري إلى حرب تموز ونتائجها، فهي كانت محاولة لفرض موازين القوى الخارجية في الداخل اللبناني.

وإذا تابعت التحليل في السياق نفسه، فإن الموالاة والسعودية تركا وحيدين إلا من تصاريح، ووعود أميركية هنا وهناك دون تقديم شيء ملموس لهما. ومن هنا نرى السرعة في الرجوع عن قراري الحكومة، والقبول بطاولة الحوار في قطر.

هذا يعني أن المرحلة التي جاءت بالقوة اليانكية الضاربة إلى المنطقة عشية سقوط بغداد وفرض ملامح خارطة وشروط سياسية لا تحتملها المنطقة، بدأت تتراجع نحو تسويات لن تتم مباشرة، بل تمهد الأرض لها. فالتاريخ والذاكرة يقولان ما بين خطاب عرفات واتفاق أوسلو ما يقارب العقدين من الزمن، وما بين حماس والاتفاق مع إسرائيل يلزمه زمن كي يكون الحل ممكناً، دون أن ننسى أهمية الحفاظ على الوضع الراهن وعدم تدهور القوى في المنطقة التي تعلن موالاتها للسياسة الأميركية، ونحن على مسافة أشهر من الانتخابات الأميركية.

([) كاتبة سورية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى