صفحات أخرى

نصف قرن من تراجيديا الحزن والتناقص

رستم محمود
الحيرة المنبعثة من التناقض والممزوجة بحزن التشرد، طيف حسي يكاد يغطي كل قارئ لكتاب “الثوريون لا يموتون أبدا” (حوار في كتاب، أجراه الصحافي الفرنسي جورج مالبرينو مع الزعيم التاريخي لحركة القوميين العرب، ومن ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش). فمن عبارة الكتاب الأولى إلى آخر صفحة فيه، ثمة ما يوحي بهذا. ففي المقدمة يخلق حبش صورة إنساني وجودية خاصة بشخصه، كتمثيل افتراضي لكل الشخصية الفلسطينية في النصف الأخير من القرن المنصرم، صورة مليئة بالغضب والحزن والتشرد كحالة وجودية وتكوينية عابرة للشعور الحسي الآني في الذات الفلسطينية. حيث يروي حبش عن منبع تفجر وعيه السياسي: “أذهبوا إلى الملك عبد الله، انه مسؤول عنكم !” هذا ما كان يصرخ به في وجوهنا الجنود الإسرائيليون وهم يفتشون الفلسطينيين ويطلبون منا أن لا نقاوم. أمين حنحن أبن جارنا، كان قد حمل معه مبلغا من ألفي دينار، حاول الجنود سلبه إياه. لكنه قاومهم، فقتلوه أمام أعيننا. كنا نعيش كابوس شعب حكم عليه بالنزوح. وكل ذلك، جزء مما جرى في بلدتنا اللد في صبيحة 11 تموز\يوليو 1948 (…) كنا نظن بأنهم يريدون تجميعنا في أحد الحقول، لكي يفتشوا البيوت دون شهود عيان، ثم يتركوننا لنعود إليها بعد ذلك. لم نتصور مطلقا أنهم كانوا يقتلعوننا، وأننا لن نرجع أبدا إلى بيوتنا. وبالفعل كان كل شيء معدا لكي نُقاد سريعاً إلى خارج المدينة.
بصور متشابهة ومنبعثة من الصورة تلك، يستمر حبش في سرد سيرته الشخصية. منذ تأسيسه لحركة القوميين العرب، بعد مخاضه الفكري والسياسي الأول في الجامعة الأمريكية في بيروت، إلى تأسيس الجبهة الشعبية وعلاقته بالمرحلة الناصرية، وأيلول الأسود واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية… إلى زمن توقيع اتفاقية أوسلو حتى أستيلاء حركة حماس على غزة، تراجيديا حبش تكمن في تلازم ضرورتين معا: ضرورة الكفاح النبيل من أجل تحرير الوطن الفلسطيني، وضرورة ما يمليه الواقع والمصالح السياسية والجغرافية والثقافية والاقتصادية لكل المحيط والمحيطين بهذه القضية. فمن قضية عادلة ومناضلين مثاليين، يخبرنا عنهم حبش ما يلي: “كنا نشتري الأسلحة الخفيفة من السوق السوداء، وكانت رخيصة الثمن. وكنا نستخدم مالنا الخاص. الدكتور أحمد الخطيب مثلا، كان يعمل في الكويت، وكان يتقاضى 100 دينار كويتي شهريا، يدفع منها 90 دينارا لحركة القوميين العرب”ً. إلى حركة وتنظيم وحزب سياسي براغماتي، مشدود اليدين إلى تلازم الضرورتين السابقتين الذكر. حيث يمكن رصد تناقض ما هو نبيل في سيرته، مع ما هو سياسي في نفس المكان. وبسهولة أكثر يمكن رصد تناقض ما هو أخلاقي\إنساني في الغاية من نظيره من ما هو لازم في الوسيلة، حيث يروي حبش مثلا: ً كنت معارضا للغزو العراقي للكويت، ولكن منذ اللحظة التي استعانت فيها الكويت بتحالف أجنبي ليحررها، أصبحت معادياً لهذا التحالف، وبالتالي مناصراً للعراق، في وجه التدخل والهيمنة الأميركية على المنطقة. ولقد أكدت لصدام حسين بأنني سوف أسانده بشكل كامل في وجه التهديد الأجنبي. فمثلا بتحريف صغير كان حبش يستطيع القول (كنت معادياً لاحتلال صدام للكويت… وبذا مناصراً للتحالف الأجنبي ضده). فالعبارتان تحويان تراجيديا التلازم والتشتت في أي حال كان. فأما أن تكون مع الاحتلال الصدامي للكويت ومع المصالح السياسية لشعبك الفلسطيني، وبذا ضد الوجود الأجنبي وضد نفسك أخلاقيا، أو أن تكون ضد الاحتلال الصدامي وضد مصالح شعبك الفلسطيني، وبذا مع الوجود الأجنبي والاتساق الأخلاقي لنفسك.
لكن سرعان ما تنقلب تراجيدياً التناقض الأخلاقي السياسي في السيرة، إلى تراجيديا تناقض الفكري\ السياسي. فجورج حبش ثوري (حتى انه عنون كتاب سيرة حياته بتلك التسمية) وفي نفس الوقت يريد أن يكون مناصرا للديمقراطية المباشرة. فهو يهجو من بين شتى عوامل غياب الديمقراطية، ما يسميه بظاهرة البوليس السري، يقول: “هنالك العديد من العوامل التي تعيق المسار الديمقراطي في العالم العربي، تأتي قبل كل شيء قوى الأمن (المخابرات والبوليس السري) القوية جدا في هذه البلدان. وهي موجودة لحماية الأنظمة ومصالحها ولمواجهة المعارضين، وليس من أجل الدفع باتجاه بالديمقراطية”.
لكن حبش نفسه كان قد ترعرع بالتفاعل مع تلك الأنظمة وأجهزتها المخابراتية، في كل مشواره السياسي، أو مع أنظمة كانت قائمة بالأساس على تلك الأجهزة. وهو أمر ينسحب تماما على موقفه من الحركات السياسية الإسلامية، حيث لا يجد غير التهرب من الخوض في النقاش من الدين والتدين مهربا، وهو الذي لا بد أن يكون له موقف واضح وعلني، كماركسي فكري ويساري سياسي، وهو شيء يرفض حبش تماما الإفصاح عنه: “هذا الموضوع حساس جدا. لذا لن أدخل في التفاصيل لكي لا يساء فهمي. فنحن بحاجة إلى مناصرين..” . وبذات النفس يكون موقفه من الحركات السياسية التي تمثل ذلك التيار:” هناك تناقضات داخل التيار الإسلامي نفسه. فالأخوان المسلمون في مصر يعتمدون خطابا ديمقراطيا إلى هذا الحد أو ذاك (…) أما بالنسبة إلى حماس فأنا لا أريد أن أنظر، في الوقت الحاضر، إلا إلى نضالها العسكري والسياسي ضد إسرائيل، دون نقاش في قناعاتها الدينية ورؤيتها للمجتمع. فالجانب الاجتماعي في مشروعها ليس من أولوياتنا وإن كنا على وعي كامل بمحدوديته، كما أن احترامها للديمقراطية يظل أمرا لابد لها من أن تثبته على المدى الطويل”.
لكن قمة التناقض الذهني السياسي تكون حينما يتحدث حبش عن موقفه من تنظيم القاعدة وممارساته:”ًإن قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكوادرها، يتحدثون دائما، في ما بينهم، عن التهديد الذي تمثله القاعدة. لكننا نتجنب إثارة هذا الموضوع على المستوى الجماهيري في الوقت الراهن (تصور أن ذلك الموقف يصدر من شخص يساري وعلماني ؟؟!!). ثم إنه لا ينبغي أن ننسى أن هذه الحركة ولدت بفضل الأمريكيين قبل أن تنقلب عليهم ” !!. وهو موقف ينطبق مباشرة على موقف حبش من حركة حماس وأبعادها الأيدلوجية والسياسية. حيث يقول كموقف من ما فعلته حماس في غزة أخيرا: “أنا أدين هذا العمل القريب من الانقلاب، ولكنني أحمل المسؤولية الأولى لما حصل في غزة لمنظمة فتح. لأنها هي من دفعت الفلسطينيين نحو هذا الخط الجذري” !.
تلك التراجيديا لا تنبع بالضرورة من ذات حبش وذهنه، بقدر ما هي تراجيديا القضية الفلسطينية بذاتها. فهي قضية الأغلبية الجماهيرية التي تتحكم وتتاجر بها الأنظمة القمعية، وهي قضية عادلة وسامية لكنها تنجرف يوما بعد آخر لتتحول إلى حكاية صراع ديني عدمي. وهي قضية شعب، لا تلبث أن تتحول إلى قضية صراع بين أشخاص، يجيب حبش على أحد الأسئلة وبأسلوب وكأن القضية الفلسطينية هي قضية رجلين فحسب بما يلي: “طباعنا كانت بالفعل مختلفة جذريا. من جهة كان عرفات شخصا لا يمكن فهمه، كان ظاهرة فريدة من نوعها. أما أنا فقد حافظت على مبادئي (؟؟!!). لكننا كنا نتبادل الاحترام ، بغض النظر عن خلافاتنا السياسية العميقة. كان عرفات يعلم بأن لرأيي وزنا داخل منظمة التحرير، وداخل تنظيم فتح. ومن جهتي حرصت عند وفاته على توجيه التحية إليه، من خلال رسالة طويلة إلى اللجنة المركزية في فتح. أما على الصعيد الإنساني فقد كان عرفات شخصا جيدا جدا، كان يسعى دائما للاطمئنان على صحتي ” ؟!. هذه كانت إجابته الكاملة عن سؤال الصحفي له عن رأيه بشخص ياسر عرفات.
خلف كل جبال الحزن والتشرد والتراجيديا السياسي، كان حبش يخفي بداخله كائناً شفافاً وبالغ المحبة لمحيطه. حيث في ملحق الكتاب ثمة عدد من الوثائق عن بعض الرسائل التي تبادلها حبش مع الآخرين. في إحداها، والتي أرسلها إلى إبنته ميساء في شتاء 1970 حيث كانت العائلة في بيروت وهو كان في عمان تحت القصف، يقول حبش: “حبيبتي ميساء، أريد أن تكتبي لي عن كل نكات لمى وحركاتها. كما أريد يا حبيبتي أن تحبي ماما أكثر مني بكثير. لأنها أحسن مني بمليون مرة، وأجمل مني بألف مليون مرة طبعا… القبلات من جديد…بابا “.
كانت العبارات تلك من رجل تحت القصف، هي صورة عن التراجيديا الفلسطينية بمطلقها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى