سجال مفتعل بين المشرق والمغرب
خالد غزال
في العقد الأخير من القرن الماضي، أجرت مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس سلسلة حوارات تناولت موضوعات تمس المجتمعات العربية والقضايا الساخنة فيها. اتخذ الحوار شكل رسائل متبادلة بين حسن حنفي المصري الجنسية، بوصفه ممثلاً للمشرق العربي، ومحمد عابد الجابري ممثلاً للمغرب العربي. تصرف الكاتبان في كونهما يختزلان تمثيل نخب المشرق والمغرب، ويعبران عن خصوصيات كل من المنطقتين. شمل النقاش قضايا من نوع الليبرالية، الأصولية، الوحدة العربية، العلمانية، العروبة والإسلام، العروبة والأيديولوجيات القومية، العلمانية والإسلام، الحداثة والعالم العربي، الناصرية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، القضية الفلسطينية، والعرب والثورة الفرنسية… وغيرها من قضايا إشكالية تخص المجتمعات العربية. وإضافة الى السجال بين الرجلين، استقطبت المجلة ردوداً على الموضوعات المثارة وما قيل فيها، على لسان مجموعة من النخب العربية ذات الاهتمام بهذا النوع من السجالات. نشرت الأبحاث والردود في كتاب بعنوان «حوار المشرق والمغرب»، وذيّل بتوقيع المتحاورين الجابري وحنفي، ومجري الحوارات والمشرف على إدارتها ونشرها الكاتب اللبناني فيصل جلول. وصدر الكتاب عن «الدار العربية للعلوم – ناشرون» في بيروت، وعن «منشورات الاختلاف» في الجزائر.
مما لا شك فيه ان حجم الموضوعات والأبحاث التي شملتها الحوارات تتسم بأهمية معرفية تفيد الباحث العربي، وتسلط الأضواء على حجم المشكلات والمعوقات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تضرب العالم العربي وتعيق تقدمه. لكن القارئ والمتابع يصطدم بداية ببعض المفاهيم السائدة التي حكمت قسماً واسعاً من النقاش وبدت واضحة في أكثر من مجالات خلافية، وهي النظرة التي تميز بنيوياً وثقافياً وفكرياً بين ما يعرف بالمشرق العربي، خصوصاً بلاد الشام ومصر والجزيرة العربية، وما يعرف بالمغرب العربي خصوصاً الجزائر والمغرب وتونس. ينسب الى المشرق غرقه في الصوفية والابتعاد عن العقلانية وتغليبه التعصب والفقر في الإفادة من التطور الفكري الذي عرفه الغرب، خصوصاً فكر التنوير، ويعزى ذلك الى عوامل بنيوية تتصل بطبيعة البنى الاجتماعية وانغلاقها وعدم احتكاكها بالحضارة نظراً الى وقوعها أسيرة السلطات القبائلية والعشائرية والطائفية من جهة، والدور الذي لعبه الاستعمار في الحفاظ وتثبيت مقومات وبنى ما قبل الدولة. في المقابل، يتم النظر الى المغرب العربي بوصفه «عالماً» يتسم بالعقلانية واكتساب فكر التنوير مما جعله أقرب الى الحضارة الغربية ومكتسباتها، وتسبب في تفوقه على المشرق الذي لا يزال غارقاً في عالم الغيبيات والخرافة والأساطير.
تجلت هذه الخلفية في القضايا الحساسة وفي بعض ردود الفعل التي استتبعت المناقشات. تطرح هذه المسألة نقاشاً حول الخصوصية لمجتمعات المغرب او المشرق، بحيث يمكن القول ان محاولة التمييز وإعطاءها بعداً فكرياً او فلسفياً تقع خارج المنطق، وتتسم بنظرة ابتذالية الى تكون المجتمعات العربية. لا مكان لهذا الانفصال مشرقاً ومغرباً، فالمجتمعات العربية تكاد تواجه جميعها المعضلات البنيوية المتصلة بالتطور والتقدم والحياة السياسية والاجتماعية، وصولاً الى التفسخ الذي تمر به معظم الأقطار العربية، في مشرقها ومغربها، ناهيك عن طبيعة السلطات القائمة وانعدام الديموقراطية والحق في التعبير السياسي والفكري الحر. أي أننا أمام قضايا رئيسة متشابهة بل ومتشابكة، بحيث يبدو التأكيد على التمايز من قبيل التخلف العنصري من هنا او هناك.
لا يعني هذا الرفض للفصل بين مشرق ومغرب في العالم العربي انعداماً لخصوصيات، لكنها خصوصيات تتميز بها المجتمعات العربية وفقاً لدرجة تطورها وعلاقتها بالحداثة والتحديث، بحيث يمكن ان نراها في بلد دون آخر، او في البلد نفسه. أين الخصوصة التي تميز دول المغرب عن دول المشرق في شأن حقوق الأقليات، وحقوق المرأة، والحريات السياسية، وتحقيق الديموقراطية؟ أليست تقع كلها في الميدان ذاته؟ ما غاب عن المتحاورين، الجابري وحنفي، انهما يتحاوران في ما يحمل كل منهما، من موقع وموقف سياسي تحكّماً في آرائهما، وهي ثقافة كوّنها كل واحد انطلاقاً مما أتيح له من معارف، وصقلها بتجربة سياسية. هنا يمكن الحديث عن خصوصية يصدر عنها كل واحد منهما، من دون إسقاطها على المشرق أو المغرب.
وعلى رغم أهمية القضايا المثارة، إلّا ان النقاش والردود عليه، اتسمت في كثير من المرات بغياب آداب المحاورة، بل وصلت الى حدود الابتذال في استخدام التوصيفات والتعابير غير اللائقة، وهي حالات تعبر عن رفض الاعتراف بالرأي والرأي الآخر، وتنم عن جهل وتخلف يحكمان نخباً عربية لا تستطيع ان تواجه الحجة بالحجة والكلمة بالكلمة، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الثقافة والمثقف في العالم العربي والدور المطلوب.
تفاوتت الردود بين تقويم إيجابي للحوار وتحفظات عن الآراء، يمكن في هذا المجال إدراج بعض الردود من قبل أحد المعلقين على الحوار، وكذلك بعض الانطباعات لكل من حنفي والجابري. في تعليق للكاتب عبدالله بونفور يقول فيه : «لما انتهيت من قراءة الحوار الذي دار بين حنفي والجابري غمرني خوف شديد، خوف على إجهاض الفكر أكثر مما هو عليه الآن في البلدان العربية، خوف مرير لأننا أمام مثقفين بارزين في الساحة العربية يريدان ان يصير المفكر حاجباً وخادماً، وأن يصبح الفكر وصفة يوظفها السياسيون في ممارستهم السلطوية» (ص277). أما حسن حنفي فيعلق على الحوار والردود بالقول: «قصدنا الحوار فعوقبنا بالتجريح وتصيد الأخطاء… يبدو اننا ما زلنا طائفيين، نستعمل أسلوب التخوين والتكفير، يزايد بعضنا على بعض في أمور تستحق توحيد الجهود والتبصر بالأمور، ومن اجل الوصول الى الحد الأدنى من الاتفاق الذي فقدناه والمطالبة بالحد الأقصى الذي أصبح ستاراً يخفي العجز والقصور» (ص389). أما الجابري فيسعى الى الدفاع عن الاتهامات التي رمي بها، فيقول : «على ان مسألة مشرق/ مغرب وجدت ما يتجاوزها في الردود. لقد اكتشفت ان جميع الذين اعترضوا على ما يتخيلون انه تعصب من جانبي للمغرب على المشرق، عملوا بصورة او بأخرى على الإشارة تصريحاً او تلميحاً الى خصوصية أقطارهم. أما ما قيل عن تعصبي للمغرب على المشرق، فليعلم الجميع أنني مؤمن ان المغرب مشرق، وان المشرق مغرب، ولن يفترقا» (ص408).
لا يخرج قارئ الكتاب، بنظرة سلبية تتصل بضرورة السجال والحوار حول قضايا المجتمعات العربية، بل على العكس، فإن الثقافة العربية مدعوة الى تسليط المزيد من البحث حول عوامل التخلف التي يشهدها العالم العربي بأقطاره كافة من دون استثناء، ولا فرق فيها بين مغرب او مشرق او جنوب او شمال، فالمصيبة تلف الجميع.
الحياة