حكاية لقاء حول فنجان قهوة بين بات براون وهارولد فارمس
الكومبيوتر أداة للتعليم المتمركز حول الدارس.
ذات صباح من شهر كانون الأول 1998، التقى شخصان ليحتسيا كوباً ساخناً من القهوة، في مقهى عُرِف سابقاً باسم “مخبز تاساجارا”، في إحدى زوايا شارع “كول أند بارناسُس”، في مدينة سان فرنسيسكو الأميركية. كان أحدهما البروفسور بات براون، عالِم لامع متفوّق في الطب، شارك في بحوث عن علاقة الجينات بالسرطان، أما الآخر فكان البروفسور هارولد فارمس، الحائز جائزة نوبل في الطب عام 1898، عن بحوث حول دور الفيروسات والجينات في التسبّب بالسرطان، والذي ترأس حينها، “معاهد الصحة الوطنية الأميركية”، أضخم مؤسسة للبحوث في علوم البيولوجيا عالمياً.
ما نجم عن لقاء الرجلين، فاق حتى ما توقّعاه، بحيث لم يتردّد فارمس في وصف حال وعيه عند ذلك اللقاء بـ”السذاجة”، مع ما يرادف تلك الكلمة من نية حسنة لا تشفع لها في شيء. استباقاً، فقد نجم عن لقاء الرجلين تجربة تطاول مسألتين تعتبران في صلب التحوّل في اتجاه الجامعة الإفتراضية: حركة الوصول المفتوح Open Access Movement والدوريات العلمية الرفيعة. تذكيراً، يشكل الانتقال نحو التعلّم الإفتراضي و”جامعاته” (بغض النظر عن الاسم الذي قد تحمله مستقبلاً) مساراً متدحرجاً بقوة، بحيث أن كثيراً منه أصبح حاضراً (بل ماضياً)، ويمهد بجرأة للإنتقال نحو التعلّم الافتراضي، كما يعطي لمسة من إمكان التعلّم إفتراضياً، حتى في أشد العلوم تعقيداً.
أهمية تجربة ذلك اللقاء الشتوي الصباحي على الساحل الغربي لأميركا، تعطي نموذجاً عن التحوّل الذي يحدث الآن و”هناك” في الغرب، فيما تغطّ نقاشاتنا ثقافياً في حلقات لا نهائية من اللاجدوى وغياب المحايثة عن الزمن.
قبل لقاء القهوة ذلك، تعرّف براون إلى الطُرُق التي يستعملها علماء الفيزياء النووية في مختبر “لوس ألموس” الذي صنع القنبلة الذرية الأولى، ويتولى أعلى مستويات بحوث الذرة، كي يتيحوا لراغبي العلم مشاركتهم أعمالهم عبر الإنترنت. وعمد العلماء إلى وضع مقالاتهم على موقع مفتوح للعموم في شبكة الإنترنت، حمل اسم “لانكس” أو”أراكسيف”.
واستهل الرجلان حديثهما بملامسة ميزة غير عادية في العالم الرقمي، وهي أن نسخة وحيدة من النص تكفي لإيصاله إلى أي شخص وفي كل وقت وكل مكان، بصورة إلكترونية وفورية ومن دون تكاليف إضافية. ولاحظا أن ليس ثمة حدود لعدد الأشخاص الذين يستطيعون استخدام المكتبة الرقمية، ما يمثّل تهديداً للناشرين الذين يعتمدون على بيع الكتب والإشتراكات. وبسبب من هذا التهديد الاقتصادي، لا يزال العالم بعيداً نسبياً، على رغم التقدّم المستمر، عن الوصول إلى المكتبات الرقمية المفتوحة التي تحقق الوعد بأن تكون مكاناً لتراكم المعرفة. وكان براون على علم بوجود حركة شبابية منتشرة في الجامعات تؤيّد النشر الالكتروني المفتوح وإحداث تغيير أشد جذرية في طريقة نشر العلم. إذ تسعى الى إيصال المقالات، فورياً ومجانياً، إلى الجميع، من موقع إلكتروني صحافي يستطيع الجميع الوصول إلى معلوماته، وكذلك من مكتبة رقمية عامة. تهدف حركة النشر الإلكتروني المفتوح الى تعميم فوائد النشر بطريقة تفوق ما يفعله النشر ورقياً، وذلك بجعل المعلومات العلمية متوافرة بسرعة. لفت براون نظر صاحبه إلى ان الحديث ليس عن شيء مجاني، إذ تترتب على النشر إلكترونياً، كحال نظيره ورقياً، تكلفة يجب دفعها، لتمويل عمليات تحرير الدوريات وإنتاجها وتصميمها. واتفق الرجلان ان تمويل تلك الدوريات، على الأقل في مجال البيولوجيا والطب، يمكن أن يأتي من الحكومة الأميركية، لأنها هي المموّل الأساسي للبحوث. لم ير فارمس عقبة في إطلاق موقع إلكتروني تذهب إليه تقارير البحوث التي تموّلها “المعاهد الوطنية للصحة” في أميركا وخارجها، كي يطّلع عليها الباحثون عن المعرفة عالمياً. أكثر من ذلك، كان لفارمُس معرفة مباشرة بأن دول العالم الثالث شديدة الظمأ لتلك البحوث، التي لا تصل إليها إلا بعد مضي سنوات طويلة، أو أنها تطلع على بعض تفاصيلها عبر منشورات مرتفعة التكلفة. وبدت الأمور وردية للرجلين: يمكن فتح عالم من المعرفة العلمية الطازجة والمتجددة، وسكب فيوضها عبر الإنترنت، وبأبخس الأكلاف.
في النتيجة، تَعِد مكتبات النشر الإلكتروني بمنافع أكبر للعلم والمجتمع، وتتضمن المساواة التي يدعمها النشر العالمي غير التمييزي للمعرفة، كما تستطيع تقنيات المعلوماتية حاضراً بناء مكتبات نشر رقمية واسعة، بالاستناد إلى المكتوب فعلياً في العلوم؛ وكذلك تحويل ممارسات النشر نحو النموذج المفتوح. لا شيء في حقائق الأمور أبعد من هذا الحلم الوردي، كما عرف الرجلان لاحقاً، وخبرا ذلك بالتجربة.
سرعان ما لمس فارمُس وبراون قلق الناشرين التقليديين من بروز مكتبات رقمية للدوريات العلمية، ومن تصاعد ميل الشبيبة في الجامعات الأميركية لتأييد حركة الوصول المفتوح. فمن البيّن أن تلك الأمور تحمل في طيّاتها ذواء صناعتهم التقليدية المستندة إلى احتكار الدوريات العلمية الورقية للبحوث وتقاريرها ومحتوياتها.
في سياق مشابه، نُمي إلى الرجلين أيضاً أن بعض العلماء البحّاثة يقاومون المتغيّر الرقمي، بسبب ارتباطاتهم مع الدوريات الورقية، ولخشيتهم من تغيير البيئة الثقافية التي تزدهر أعمالهم فيها، إضافة إلى سوء الفهم عن الآلية التي تعمل بها حركة النشر الإلكتروني المفتوح.
أدى ذلك إلى فتح “صندوق باندورا” (المملوء بكل أنواع الشرور، بحسب الأساطير الإغريقية)، على الرجلين، خصوصاً فارمُس. بعد سنة من لقاء القهوة الشتوي، ترك فارمُس إدارة “المعاهد الوطنية للصحة”, وفي قلبه أكثر من حسرة لأن حلماً وردياً عن شيوع المعرفة بفضل الإنترنت لم يتحقق، على رغم أنه سجّل “نصراً” صغيراً. قبل ذلك اللقاء، اعتقد الرجل أن موقعاً مثل “بابميد” PubMed المتاح مجانياً على الانترنت بدعم حكومي، يعطي مثالاً عن نشر المعرفة. لكن صديق براون أوضح له أن الموقع لا يعطي سوى عناوين البحوث العلمية. فماذا عن النصوص الكاملة وما تحتويه من معرفة يظمأ لها جمهور الإنترنت أميركياً وعالمياً؟
حاول الرجلان الاستفادة من مبادرة الرئيس الأميركي، حينها، بيل كلينتون الذي عمل على وضع معلومات “الجينوم” على الانترنت، وبصورة مجانية. وحاولا إقناع الإدارة الأميركية بنقل التجربة عينها إلى مجالات علمية أخرى. النتيجة؟ ثارت ثائرة الكونغرس. وانبرى نواب من الحزبين الديموقراطي والجمهوري لحماية المصالح الهائلة التي تنجم عن احتكار المعارف والعلوم، وتنهض عليها صناعات مثل الأدوية والأدوات الطبية والخدمات والدوريات والكتب وغيرها. وصُدم الرجلان إذ رأيا أصدقاء لهما سابقين، “يخلصون” لهما النصح بأن يتركا مسألة نشر المعرفة عبر الانترنت، وأن لا يسعيا لصنع موقع إلكتروني للدوريات العلمية، يشكّل منصة قوية لدعم حركة الوصول المفتوح إلى المعلومات عبر الشبكة. عرض فارمُس تلك التجربة المرّة، بلقاءاتها واستجواباتها وضغوطها ونقاشاتها المريرة، في كتابه “فن العِلم وسياساته”، المترجم إلى العربية، وقيد النشر لدى مشروع “كلمة” في أبو ظبي.
لم يكن ذلك هزيمة كاملة، إذ استطاع السائد في المال والسياسة الاستمرار في السطوة وممارسة الهيمنة. اندحر الرجلان ولم يتحقق حلم نشر العلم سيولاً عبر الانترنت.
في المقابل، تحقّقت في سياق ذلك الصراع أمور بسيطة، لكنها تؤشر الى الإتجاه الذي تسير إليه الأمور في المستقبل. ألا يبدو ذلك سيناريواً مألوفاً؟ ألم يُهزم غاليليو، وتراجع مندحراً أمام السائد، قبل أن يحطّمه تحطيماً؟
استطاع فارمُس وبراون إطلاق المكتبة الرقمية العامة الأولى لعلوم البيولوجيا والطب، “بابميد سنترال”. تلاها بجهد مفرد من فارمُس، تأسيس “المكتبة العلمية العامة” (إختصاراً “بلوس)، التي تمثّل أحد مظاهر نشاط حركة الوصول المفتوح. وفي ربيع 2003، عقد مؤتمر تأسيسي لـ”حركة النشر المفتوح”، في ولاية ميريلاند الأميركية.
تعزّزت الثقة بمستقبل “بلوس” وبالدوريات المفتوحة الوصول. وتصاعد التأييد سياسياً وثقافياً لحركة الوصول المفتوح، فصارت حركة مؤثرة، حتى انها وجدت مؤسسات تستثمر فيها كجزء من رهاناتها للمستقبل، مثل “مؤسسة هوارد هاغز”.
في عام 2007، تجمّع أعضاء في الكونغرس وأمناء المكتبات وأصحاب النشر الإلكتروني المفتوح الوصول، ومن ضمنهم موقع “بلوس”، وبعض قادة العلم، وصاغوا بياناً تفصيلياً عن حركة الوصول المفتوح. وأعربت مؤسسات تمويل أوروبية، مثل “مجلس البحوث الأوروبية” European Research Council، عن تأييدها للنشر الإلكتروني المفتوح الوصول. ثم أعطت “كليّة الفنون والعلوم” في جامعة هارفرد تأييدها لتلك الحركة. وفي 2008، صار الوصول المفتوح جزءاً من سياسة البيت الأبيض (نسبياً)، ما اعتبر انتصاراً “صغيراً” لهذه الحركة، وخصوصاً للرجلين اللذين التقيا في مقهى، ذات صباح شتوي في سان فرنسيسكو ¶