صفحات أخرى

إكراميات جديدة للساسة!

أمبيرتو إيكو
تعوّد الناخبون في الديمقراطيات الغربية على أن تكون حياة السياسيين ونجوم العمل العام الرسمي، مسيرة وفق مبدأين اثنين: الأول يلخّصه مثل صقليّ لاذع وشديد الدلالة يمكن ترجمته بالصيغة التالية منعاً لخدش الحياء: “إن ممارسة السلطة أفضل من النوم في الفراش”. أمّا المبدأ الثاني فخلاصته هو أيضاً إن الرجال الأقوياء غالباً ما يوجّهون أنظارهم إلى مثيلات “ماتا هاري” و”سارة برنار” و”مارلين مونرو”.
ولعل ما يدعو للعجب في هذا الخصوص، هو أن عدداً لا يستهان به من رجال الأعمال والسياسة في عصرنا الحالي، قلما أصبحوا يخضعون لإغراء اختلاس الأموال من خلال مشاريع الأعمال العامّة وإدارة الميزانيات الحكومية، بيد أنّهم يرضخون للنساء رفيعات المستوى اللواتي يفرضن مبالغ تفوق بأشواط تلك التي كانت “مدام بومبادور” تطلبها في أيام زمانها المفعمة بالرومانسية. وإذا لم تناسب الرفيقات المحترفات أذواق هؤلاء الساسة والأثرياء، فإنهم يلتمسون أولئك اللواتي ينجحن في تقديم خدمات أكثر لطفاً وجاذبية.
وعلاوةً على ذلك، يبدو اليوم أن العديد من الرجال يسعون إلى السلطة والثراء، على أمل استخدام نفوذهم المترتب على الموقع السياسي والمالي في غرف مغلقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيراً من الرجال العظماء الذين عرفهم التاريخ، لم يكونوا زاهدين بالملذات الجسديّة. فهنا في إيطاليا على سبيل المثال، بينما كان زعماء الأمس، وخاصة في مجال العمل السياسي، يلتزمون بنوعٍ من العفة في سلوكهم الاجتماعي يصل إلى حد التزمّت، كان يوليوس قيصر يخالط بمرح النبيلات الرومانيات والملكات المصريات. والأمر مثله تقريباً في أماكن أخرى كثيرة. فقد اتخذ “ملك الشمس” عشيقات كثيرات، أما الملك فكتور إمانويل الثاني، ملك إيطاليا، فكان هو أيضاً يطارد روزينته، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس الأمريكي جون كنيدي… والأفضل أن نكتفي بهذا القدر من الكلام حول هذه الأمثلة فقط. غير أن هؤلاء كانوا يرون في النساء الشابات على وجه الخصوص، جزءاً ضرورياً من أجواء الاستراحة العسكريّة. بكلام آخر، كان الترتيب الأوّل للأعمال هو احتلال باكتيريا وإذلال القائد الغالي (من الغال) فيرسنجتركس، والسيطرة على كل المعترضين انطلاقا من جبال الألب حتى الأهرامات، أو بالأحرى في إيطاليا الموحدة. كانت المتعة الجسدية تعدّ علاوةً إضافيّةً تفيد كما يفيد شرب المارتيني بعد يومٍ شاقٍ.
وبالمقابل، وفي هذه الأيّام، يتوق كثير من رجال السلطة في المقام الأول إلى قضاء ليلة مريحة في جو رومانسي منعش، بعيداً عن مشاغل الصراعات السياسية والانتخابية، والتفكير بخطط الشركات الكبرى ومنافساتها التي لا تتوقف.
كان الأبطال القدماء يقرأون بلوتارتش كي يستمدوا حركاتهم منه، أمّا نظرؤهم الحديثون فيتنقلون من محطةٍ تلفزيونيّة الى أخرى أو يتصفحون المواقع الإلكترونيّة بعد منتصف اللّيل! وقد حصل بحث حديث على الإنترنت حول الكاهن والمتصوّف الإيطالي “بادري بيو”، من مدينة بيترلشينا، على 1.4 مليون نتيجة، وهذا ليس بسيئ على الإطلاق. في حين حصل البحث المتعلّق بالمسيح على 4.8 مليون نتيجة، أي أنه لا زال الناصري يتغلّب على كاهن بيترلشينا، لكن أيضاً مع تقدم واضح للأخير. هذا في وقتٍ أدّى البحث عن الإباحيّة إلى 130 مليونا (نعم 130 مليون) موقعٍ إلكتروني. بما أن كلمة “المسيح” أكثر تحديداً من كلمة “إباحيّة” تحريت عن كلمة “الدين”. ولكن وللمفارقة، فقد توصّلت إلى ما يزيد عن التسعة ملايين نتيجة بقليلٍ فقط. مما يشكّل غيضاً من فيض مقارنةً مع الإباحيّة.
ترى على ماذا يمكن الوقوع في الـ130 مليون موقع إباحي؟ تجيب الخيارات الأساسيّة الأكثر وروداً بقوة عن هذا السؤال: من وماذا وأين ومتى ولماذا… متع الجسد؟ أما المتبقي فمكرّسٌ لكل ما يتعلّق بشتى أنواع السفاح (التي من شأنها أن تجعل وجنتي أوديب وجوكاستا تحمران من الخجل) إضافةً إلى مختلف الانحرافات الغريبة.
ومن الممكن أن تؤدي الإباحيّة مهمّةً “إيجابيّة”، كتقديم متنفّسٍ للذين يعجزون لأي سبب من الأسباب عن إقامة علاقة زوجية ناجحة، كما باستطاعتها أن تنشّط حياة الثنائي غير المتزوج من خلال عرض علاقات. إلا أنها في الوقت عينه قد تفضي إلى التفكير بأن الرفيقة المكلفة تستطيع القيام بما تعجز “فرنين”، المومس الأشهر عالمياً، عن تخيّله حتى.
أنا لا أقصد بكلامي الـ42 بالمئة من الإيطاليين فقط الذين يستخدمون الإنترنت بحسب الاتحاد الدولي للاتصالات، إذ إنّ الـ58 بالمئة الآخرين يستطيعون أيضاً مشاهدة ما هو أكثر إثارةً بعشرة أضعاف مما كان متوافراً لرجال الأعمال الأغنياء في ميلانو خلال أربعينيات القرن المنصرم. وفي الوقت الراهن باتت الجنس متاحاً للناس أكثر بكثير مما كان عليه بالنسبة لأجدادهم. فمثلا بالنسبة إلى كاهن الرعية المسكين: منذ زمن طويل كانت خادمته، المرأة الوحيدة التي رآها في حياته، كما كانت جريدة “لوبسيرفاتور رومانو” الرومانيّة الكاثوليكيّة تشكّل كلّ ما يقرؤه. أمّا في الوقت الراهن فالفتيات شبه العاريات يتبخترن على شاشات التلفزة في كلّ مساء، كما تعج مواقع الإنترنت بصورهن وعروضهن واستعراضاتهن المختلفة.
وعليه فالسؤال هو: هل من سبب واحدٍ يدعو إلى عدم التفكير في أن إثارة الرغبات المتواصلة هذه لا تؤثّر أيضاً على المسؤولين الحكوميين وتتسبب في تحوّل الجنس البشري، وفي تعديل الغاية الأساسية من دوره في الكون؟
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى