صفحات سورية

قراءة في الموقف السوري من جريمة الاحتلال الأميركي

طلال سلمان
مؤكد أن الإدارة الأميركية لم تكن تتوقع مثل الموقف القوي الذي صدر عن القيادة السورية رداً على الجريمة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي للعراق، في قرية السكرية ـ إحدى ضواحي البوكمال الحدودية.
لعلها كانت تقدّر أن دمشق قد تصمت، فإن هي أعلنت عن المذبحة فلسوف تكتفي ببيان استنكار باهت الكلمات حتى لا تغضب واشنطن، ولا »تستفز« أصدقاء واشنطن من المسؤولين العرب، داخل العراق وخارجه، العاملين لإطالة أمد الاحتلال الأميركي لأرض الرافدين، بوصفه قوة حماية وإسناد ترد عنهم.. الأطماع الأجنبية!
فليس وارداً أن تغيّر الإدارة الأميركية في أيامها الأخيرة سياسة »اليد الحديدية« التي اعتمدتها مع »أصدقائها« والحلفاء قبل الخصوم، والتي تسبّبت في نزعة العتو الإمبراطورية عند الدولة الأقوى (والأغنى) في العالم التي زين لها جبروتها أنها تملك أن تفعل ما تشاء وحيثما تشاء دون أن تلقى اعتراضاً أو مواجهة جدية، في ظل سيادتها كقطب أوحد في الكون.
وعلى الأرجح فإن هذه الإدارة التي تمضي أيامها الأخيرة في البيت الأبيض، قد فوجئت بالموقف الشجاع الذي اتخذته القيادة السورية بدافع الكرامة الوطنية، فلم تكتف بالإعلان عن »الغزوة« التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي في العراق داخل الأراضي السورية، بل هي وصفتها كجريمة قتل جماعي ضد مواطنين أبرياء كانوا يرتاحون بعد يوم عمل مضنٍ، متجمعين على بعضهم البعض، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، مثل كل فقراء الدنيا، في الخيمة على ضفة الفرات الذي طالما اصطبغت مياهه بالأحمر القاني على امتداد مجراه داخل الأرض العراقية المحتلة، أي بدماء العراقيين نساءً وأطفالاً شيوخاً وصبايا في عمر الورد، أساتذة جامعة وأطباء ومهندسين وصيادلة، نحاتين ورسامين ومبدعين نثراً وشعراً، مسرحاً وغناءً يغرف من قلب الحزن وينشر الشجن معتقاً في فضاء الأمة جميعاً.
وطبيعي أن يباغت الموقف السوري الإدارة الأميركية… فالاحتلال لا يعترف بالحدود: مَن أوفد قواته العسكرية المزودة بأقوى أسلحة الفتك والتدمير من أقصى الأرض لكي يحتل دولة عربية كبرى، ذات سيادة، تبعد عنه آلاف الأميال، وبذريعة ثبُت كذبها للعالم أجمع، وفي قلب مجلس الأمن الدولي، لن يحترم »حدود« دول الجوار… العربي على وجه الخصوص. فمن تواطأ أو صمت، كان شريكاً، تُسبغ عليه الحماية، أما من اعترض فجهر باعتراضه وقال بدعم المقاومة فلا بد من عقابه بتنسيبه إلى »معسكر الشر«، وفرض الحصار القاسي عليه حتى يثوب إلى رشده فيتوب مستغفراً عما تقدم من ذنبه وتأخر!
لقد كان مطلب الإدارة الأميركية من »أصدقائها« العرب وما زال، ليس فقط الصمت عن الجريمة ضد الإنسانية التي أودت بحياة مئات الألوف من العراقيين، وتشريد الملايين منهم في أربع رياح الأرض، وإلى تمزيق وحدة العراق وكيانه السياسي، وتسبّبت في إشعال نار الفتنة بين أبنائه، وأهاجت الأكثريات على الأكثريات والأقليات على الأقليات… بل كان المطلب وما زال أن يشارك العرب في الجريمة، عبر التسليم بإدامة الاحتلال الأميركي باعتباره ضمانة ضد »الخطر الفارسي«… فإذا ما تعذر ذلك، فعبر اللجوء إلى إثارة السنة ضد الشيعة والعكس بالعكس، وإغواء الأكراد بدولتهم المستقلة، حتى لو اشتطت بعض قياداتهم فاندفعت إلى حد التطهير العرقي والديني في مناطق لم تكن في أي يوم ذات غالبية كردية. حتى لا ننسى جريمة تهجير الأشوريين ـ الكلدان والصابئة واليزيديين من مناطقهم التي يريد بعض قادة الكرد ضمها إلى دولتهم… من دون أهلها الذين هم بعض تاريخ العراق.
إن »عملية البوكمال« أخطر من أن يقرّرها ضابط أرعن، فضلاً عن أن تقرّرها »السلطة« المحصنة داخل »المنطقة الخضراء« في بغداد وتحت الحماية المباشرة لقوات الاحتلال.
إنه قرار صادر عن الإدارة التي تحزم حقائبها للرحيل عن البيت الأبيض، متسبّبة بخسارة حزبها الكونغرس بمجلسيه فضلاً عن الرئاسة، وبكارثة اقتصادية مدمرة سيعاني العالم برمته من آثارها لعقد أو عقدين من الزمان..
إن هذه الإدارة الرعناء قد كلفت العالم أكثر مما يطيق..
وقد ينظر كثيرون إلى الموقف القوي الذي اتخذته دمشق على أن سوريا قد وجدت الفرصة لكي تدلي بصوتها في الانتخابات الأميركية… ولو صحّ هذا فهو عين الصواب، من قال إن الضحايا عليهم التسليم بصمت بقدرهم الذي يقرره المتجبر، وحده بلا شريك؟
المؤسف أن يكون الصوت السوري وحيداً، وأن يصمت المسؤولون العرب من »أصدقاء أميركا« الذين يتوهمون أنهم »حلفاؤها«، وألا تصدر عن أكثريتهم الساحقة كلمة تضامن مع الضحية، إذا كان خوفهم يمنعهم من استنكار الجريمة.
وقد علمتنا التجارب أن من رأى في الاحتلال ضمانة له، أو حاول الاستقواء به (ضد أشقائه وجيرانه؟!) سوف يدفع الثمن ليس من كرامة »نظامه« واستقراره فسحب بل من سلامة شعبه وأرضه أساساً.
وبالتأكيد فإن الموقف السوري القوي سيحظى باحترام العالم، الذي ضاقت شعوبه ذرعاً بهذه الإدارة التي لن يذكرها أي شعب بالخير، بما في ذلك الشعب الأميركي.
أما العرب فيمكن اعتبار التصريح الذي أطلقه الأمين العام لجامعة الدول العربية إعلاناً باليأس من التضامن ومحاولة للتعويض عنه!
مع التذكير بأن لبنان قد سبق الجميع فعبّر بلسان مسؤوليه الرسميين والعديد من قياداته السياسية والشعبية، عن التضامن، مؤكداً ـ مرة أخرى ـ أن »العلاقات الأخوية الطبيعية« تظل هي القانون الذي يحكم الروابط بين هذين البلدين الشقيقين، مهما وقع بينهما من إشكالات ولاّدة للتشوهات.
.. خصوصاً أن لبنان قد اكتوى ودفع ثمناً غالياً للوهم الذي ساد بعض أطرافه السياسيين من أن إدارة جورج بوش هي »الحليف الصادق« وهي السند الجبار للديموقراطية والاستقلال ولبنان أولاً، وسائر الشعارات التي استخدمت لتزوير هوية الناس ودولتهم.. قيد التأسيس، والتي تهاوت حتى من قبل أن ترحل »دولة المحافظين الجدد«.
وبديهي أن نكون مع سوريا في مواجهة هذا الاعتداء الصارخ، لأنه ـ بطبيعته ـ اعتداء على كل العرب، ولبنان ما زال منهم وفيهم، لم يخرج منهم ولا عليهم، ولن يخرج.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى