مجاهٍدات أوروبا الالكترونيات
إعداد فادي طفيلي
في شوارع بروكسيل لا يتعرف أحد على مليكة العروض. هي شخصيّة غفلة لا يظهر منها في الشوارع والأمكنة العامّة سوى عينين لامعتين تطلاّن من فتحة الرأس بعباءتها السوداء.
ألين وسُعاد، مندوبتا الصحيفة الأميركيّة في بروكسيل، زارتاها في منزلها. وهناك في غرفة الجلوس استقبلتهما مليكة كما يفترض أن تظهر به سيّدة بلجيكية في أواسط العمر. ذوق أوروبي اعتيادي: بنطلون و”تيشرت” سوداء بسيطة وشعر أجعد بني اللون. الشيء البارز الوحيد في ما ترتدي كان خفّيها الأزرقين، المزدانين بعبارة “سكسي” نسجت على كلّ فردة بخيوط لامعة ذهبية اللون.
على شبكة الإنترنت اختارت مليكة العروض منحى آخر لحياتها ولتجربتها الأوروبيّة. فعلى الشبكة تلك هي “أم عبيدة”، على ما تذيّل رسائلها وبياناتها ودعاويها المكتوبة باللغة الفرنسية. وهي، إلى ذلك، واحدة من الدعاة “الجهاديين” الأبرز في أوروبا.
ومليكة، على ما تعتبر نفسها، هي “السيدة المجاهدة” في تنظيم القاعدة. “جهادها” لا يرتبط بتركيب العبوات وتجهيزها، ولا بحمل السلاح واحتراف استخدامه، بل في دعوة الرجال إلى المعركة وفي تعبئة النساء للانخراط في القضيّة.
في المقابلة النادرة التي أجرتها ألين وسعاد معها ازدرت مليكة صنعة إعداد العبوات، وتمسّكت بسلاح الكلمة “الجهاديّة”. “الكلمة هي أيضاً قذيفة”، قالت.
في المنتديات الإلكترونيّة المتطرفة احتلّت العروض موقعها كواحدة من الدعاة الأكثر حدة وشراسة في العداء للغرب وقيمه وحياته. شهرتها في أوساط الدوائر الاستخباراتيّة الأوروبيّة تذيع باسمها الأوّل “مليكة”، “السيّدة التي تتصدّر الحركات النسائية الساعية لدور أكبر للنساء في المسرح الجهادي العابر للحدود“.
حالة مليكة العروض اليوم تبرز بالتزامن مع ما يرصده الخبراء والمتابعون من تزايد في عمليات الإرهاب التي تقدم عليها النساء. فبحسب التقارير الأميركيّة الأخيرة نفّذت ثماني عشرة امرأة مهام انتحاريّة في العراق لحدّ الآن من العام الحالي، وذلك في مقابل ثمان فقط قمن بالشيء عينه العام المنصرم. ويشير الخبراء أولئك أنّه وعلى الرغم من تناقص المعدّلات الإجماليّة للعنف بالعراق، فإن مظاهر مشاركة المرأة بذلك العنف تتّجه إلى التصاعد وتأخذ أشكالاً متعدّدة، من التنظيم إلى الدعوة، فجمع التبرّعات والتمويل، وصولاً إلى الالتحاق بالأزواج في ساح القتال أو إلى اقتفاء أثر هؤلاء حين يقتلون أو يُسجنون.
في تحليل الظاهرة يرى بعض الخبراء الأوروبيين أن حالة مليكة تشير إلى بلوغ النساء “مرحلة التكليف”، بحسب الإيديولوجية الجهادية. فمليكة تلك، بما تقوم به، تمثل نموذجاً “أيقونيّاً” لا يتهاون في إظهار هويّته على الملأ، ما يمنحها موقعاً استراتيجياً حساساً في بث الحوافز التعبوية. إنّها الحالة “الجهادية التي تجمع الذكاء إلى الخطورة“.
دليل مليكة إلى الجهاد كان رجلاً.
قبل يومين من هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001، قاد زوجها بتوجيه من بن لادن عملية التفجير الانتحارية التي أودت بحياة القائد الأفغاني المناوئ لنظام طالبان، أحمد شاه مسعود. قتل الزوج. وبدأت مليكة “جهادها” عبر شبكة الإنترنت كأرملة لشهيد.
تزوجت السيّدة “المجاهدة” ثانية. ولم تمض فترة قصيرة على زواجها الجديد حتى اتهمت مع زوجها في سويسرا بإدارة وإطلاق مواقع إليكترونية تروج للقاعدة. في بلجيكا راهناً، هي مشتبه بها في المشاركة بوضع خطة لتنفيذ اعتداء إرهابي.
في شهر آذار المنصرم كتبت مليكة رسالة عبر موقع إليكتروني وجّهتها إلى جمهور غربي. “فيتنام ليست شيئاً بالمقارنة مع ما ينتظركم في أرضنا”، كتبت في إشارة إلى ما يشهده العراق وأفغانستان.
بروز ظاهرة “نساء الجهاد” تأتي اليوم عقب عقود من التمييز الجنسي سادت في أوساط الحركات الراديكاليّة. فقد كان محمد عطا، قائد عمليّة الحادي عشر من أيلول، قد كتب وصيّة تدعو إلى عدم مشاركة النساء في جنازته، وأوصى في عدم زيارة النساء إلى قبره.
أيمن الظواهري من جهته، وفي حلقة سؤال وجواب نظّمت بينه وبين مريديه عبر الإنترنت الشهر الفائت، أعلن عدم جواز انخراط المرأة في تنظيم القاعدة. وفي ردّ عليه كتبت إحدى المريدات في موقع مشفّر “أن ما حصلت عليه النساء من جواب لم يتماش مع ما عقدنه من آمال”. المرأة المجاهدة المذكورة أردفت: “أقسم بالله بأنني لن أحيد عن الدرب وأنني لن أتخلّى عن القضيّة“.
التطوّر “الجهادي الأنثوي” المذكور، بحسب خبراء مظاهر الإرهاب، يظهر أكثر ما يظهر في الدول والمجتمعات الغربية حيث تنشأ النساء على ثقافة المطالبة بالمساواة بين الجنسين وبالحقوق المتعادلة. مليكة العروض تعبّر بوضوح عن هذه الظاهرة “الجهاديّة الأنثويّة”، وهي تتيح، بما تمثله مع أخريات يسلكن دربها في أوروبا، إمكانيات جديدة تتسم بالتقية والتمويه والقدرة الأسهل على الاتصال بالمتبرّعين والمتطوّعين. إنّهن “مجاهدات” أوروبيّات يدركن القوانين الأوروبيّة وما تتيحه هذه الأخيرة من فرص تتماشى مع أدوارهنّ الجهاديّة في الكلمة والترويج.
في شهر كانون الأوّل الماضي، تمّ توقيف مليكة العروض مع ثلاثة عشر شخص آخر بتهمة محاولة تهريب أحد السجناء المدانين وبتهمة التخطيط لهجمة إرهابيّة في بروكسيل. لكن القانون البلجيكي الذي يحتّم إطلاق الموقوفين الذين يتعذّر توجيه تهم لهم خلال أربعة وعشرين ساعة تلي التوقيف، استدعى إطلاقها، إذ لم يتم العثور على ما يدينها حسياً.
المجاهدة العروض تقيم اليوم في بيتها. وهي على الرغم من الرَقابة الأمنية التي تخضع لها فإن لا شيء يمنع تلقّيها مبلغ الألف ومئة دولار شهرياً من الحكومة البلجيكية كراتب تعويضي للعاطلين من العمل، فيما تتفرغ السيّدة “المجاهدة” لإدارة موقع “جهادي” على الإنترنت. إنها باختصار الخطر الإرهابي الداهم الذي تحميه القوانين وترعاه الحكومة البلجيكيّة وتنفق عليه.
مليكة العروض كانت قد ولدت في المغرب وانتقلت مع عائلتها في سن مبكّرة للإقامة في بلجيكا. تمردت في مراهقتها على أجواء تربيتها الصارمة والمتزمتة ورفضت الزواج في سنّ مبكّرة.
لم تُجد اللغة العربية، ولم تقرأ النص الديني الإسلامي الذي تبنت اتجاهاته المتطرفة، إلاّ باللغة الفرنسيّة.
تزوجت من الناشط الإسلامي التونسي المقرب من بن لادن عبد الستار دهمان ولم تتمكّن من مشاركة زوجها في القتال في الشيشان لأن الأخيرين رفضوا انخراط النساء بأعمال الجهاد.
في عام 2001، التحقت بزوجها في أفغانستان وخضعت للتدريب في معسكر للقاعدة مخصّص للنساء في جلال آباد.
يمثّل الطالبان بالنسبة لها النموذج الأمثل للإسلام. ما يحكى عن فظاظتهم تجاه النساء هي مجرد مزاعم، على ما تقول. “فالنساء تحت حكم طالبان لم تتمتّعن سوى بالحماية والصون”، بحسبها.
بعد تنفيذ زوجها لعمليّته الجهادية في اغتيال أحمد شاه مسعود احتجزت العروض في سجن لقوات تحالف الشمال الأفغانيّة. في السجن المذكور زارتها منظّمات تابعة للحكومة البلجيكية وأمّنت عودتها إلى بلجيكا، البلد الذي تحمل جنسيته.
في البداية وبعد عودتها إلى بلجيكا وجهت السلطات في البلد المذكور تهمة لها تتضمّن المشاركة في اغتيال أحمد شاه مسعود. لكن العروض تمكّنت من إقناع المحكمة أنها لم تكن تعلم شيئاً عما أقدم عليه زوجها وأن مهامها في أفغانستان لم تتعدّ أنشطة الإغاثة.
“أرملة الشهيد”، صفتها بعد عودتها من أفغانستان، فتحت أمامها طريقها الجديد في علاقتها مع “المجاهدين” وفي عالم الجهاد وشبكاته.
قبل أعوام تعرفت إلى مُعز، أحد “المجاهدين” التونسيين الذي قدم كلاجئ سياسي إلى سويسرا، فتزوّجته وأقامت معه في بلدة سويسريّة صغيرة حيث أطلقا معاً موقعاً جهاديّاً إليكترونياً يروج لتنظيم القاعدة.
بسبب تلك المواقع المتطرفة اعتقلت وزوجها في سويسرا، ثمّ أطلقا بعد انقضاء محكوميتهما التي دامت أشهراً. انخرط زوجها بعد ذلك في شبكات اتهمت بالإعداد لهجمات تفجير، فانتقل إلى مكان مجهول ولم تعثر عليه الأجهزة الأمنية الأوروبيّة بعد.
مليكة العروض تحيا اليوم في شقّة من ثلاثة غرف، في طبقة تعلو متجر للثياب في حيّ عمّالي بالعاصمة البلجيكيّة بروكسيل. من شقّتها تلك تباشر جهادها الإلكتروني وتنشئ علاقاتها الجهاديّة وترعاها. هي لا تخشى السلطات. كلّ ما يمكن لتلك السلطات أن تفعله هو اعتقالها، وستكون إذّاك “شهيدة جهاديّة حيّة“.
المستقبل