الباحث اللبناني جيلبير أشقر يكشف موقف العرب من محرقة اليهود والنازية
باريس أنطوان جوكي
لا يمكن إهمال البحث الضخم الذي وضعه المؤرّخ اللبناني جيلبي.ر أشقر بعنوان “العرب ومحرقة اليهود” وصدر حديثاً لدى دار أكت سود (سلسلة “سندباد”) الباريسية. إذ يُشكّل المحاولة العلمية الأولى لكشف موقف العرب الحقيقي من الاضطهاد المنهجي الذي تعرّض له يهود أوروبا من قبَل النظام النازي، بعيداً عن الصورة الكاريكاتورية التي رسمتها لنا الصهيونية مباشرةً بعد المحرقة واعتمدها عددٌ كبير من المؤرّخين ووسائل الإعلام في الغرب بدون التدقيق بها. مهمّةٌ شاقة وحسّاسة اضطلع بها أشقر بموضوعيةٍ كبيرة وحسٍّ أخلاقي مسؤول، وتشبه في طبيعتها وأهميتها المهمة التي اضطلع بها أمين معلوف منذ سنوات، حين منحنا، للمرة الأولى أيضاً، فرصة قراءة الحروب الصليبية من المنظور العربي.
وفعلاً، نتعلّم الكثير لدى قراءتنا هذا البحث الذي يعجّ بالمراجع والاستشهادات المختلفة، وخصوصاً العربية. فعلى سبيل المثال، أقدم أشقر على قراءة الصحف العربية خلال صعود النازية، وأظهر بواسطتها أن العرب نظروا إلى الصهيونية التي كانت تعمل آنذاك بقوة لتحقيق مطامعها في فلسطين، كشكلٍ جديد من الاستعمار، وأن مقاومتها لا علاقة لها بمعاداة السامية، إذ نشأت هذه المقاومة أولاً داخل الطائفة اليهودية نفسها في أوروبا، كما بدأت في فلسطين والشرق العربي قبل عام 1933 ووصول هتلر إلى الحكم. ومن تفحّصه لهذه الصحف أيضاً، يبيّن أشقر عدم خلط العرب آنذاك بين الصهيونية واليهودية، بل تعاطفهم مع معاناة اليهود الأوروبيين، كما يشهد على ذلك السخط الذي عبّرت عنه شخصيات عربية مهمة تجاه رفض الدول الغربية، بما فيه الولايات المتّحدة، استقبال اللاجئين اليهود الألمان والنمساويين، وإعلان هذه الشخصيات استعدادها لاستقبال أعدادٍ كبيرة منهم شرط مشاورتها في ذلك. أما الالتباس بين كلمتَي صهيوني ويهودي فلم يبدأ إلا مع تصاعُد الاضطرابات في فلسطين، لكن الباحث يبيّن أنه نادراً ما بلغت معاداة العرب لليهود الطابع العنصري الذي عرفته أوروبا.
العرب والنازية
النقطة الثانية المهمة التي يتطرّق إليها أشقر في بحثه هي مسألة تورّط العرب المزعوم مع النازية نفسها، فيُبيّن عدم جدّية هذا الاتّهام الجائر نظراً إلى الوثائق والشهادات الكثيرة التي تدل على أن معظم المفكّرين والمثقفين والوجهاء العرب، مسلمين ومسيحيين، انتقدوا بعنفٍ نظريات النازية وممارساتها لأسبابٍ أخلاقية وسياسية وفهموا بسرعة أن قيام الكيان اليهودي في فلسطين مدينٌ بالدرجة الأولى للمحرقة التي سبّبها هتلر. وفي البداية، يشير أشقر إلى أن التحدّث عن خطابٍ عربي واحد حول هذا الموضوع هو شذوذٌ بحد ذاته نظراً إلى تعدُّد التيارات الفكرية والعقائدية التي كانت تعبر العالم العربي آنذاك، والتي يلخّصها بأربعة تيارات رئيسية هي التيار الليبرالي المتغرّب والتيار القومي والتيار الماركسي والتيار الإسلامي الأصولي، قبل أن يُظهر رفض التيارين الليبرالي والماركسي بوضوح النازية بسبب تعلّقهما بقيَم “الأنوار” التي تنبذ مفهوم العنصرية، ولكن أيضاً بسبب ارتباطاتهما السياسية، وضآلة المجموعات التي تأثّرت بالدعاية النازية داخل التيار القومي العربي.
الأصولية الإسلامية وحدها طوّرت، وفقاً لأشقر، نقاط تشابه أيديولوجي مع النازية، على أرضية المعاداة لليهود، وذلك انطلاقاً من عشرينات القرن الماضي، مع ارتفاع التوتر بين اليهود والعرب في فلسطين. إذ صاغ المنظّر الأول لهذا التيار الحديث النشأة، رشيد رضا، خطاباً معادياً لليهود بشكلٍ عنيف استقى أبرز عناصره من الخطاب الغربي الذي سبقه في ذلك، وأضاف عليها عناصر أخرى استقاها من مراجع شرقية من القرون الوسطى؛ خطابٌ تبنّاه “الأخوان المسلمون” وتيارات أصولية أخرى وسيّروا أفكاره إلى حد اليوم. أما المفتي أمين الحسيني فيُبيّن أشقر المبالغة الكبيرة التي تمّت فيها عملية تصوير علاقاته بالنازية وأثرها على العالم العربي أو مسؤوليته المباشرة في المحرقة اليهودية. فبخلاف ما نقرأ عنه في “موسوعة الهولوكست” مثلاً التي خصّصت له ثاني أكبر مقالة، بعد المقالة المخصّصة لهتلر(!)، يتّضح لنا أن هذا الرجل لم يشارك إطلاقاً في المحرقة كما أنه لم ينجح على الإطلاق في المهمة التي رصدها له النازيون، أي إدخال العرب في فلكهم. فبغض النظر عن الأعداد الغفيرة من العرب والبربر الذين اصطفوا إلى جانب الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، يذكّرنا الباحث أن عديد الفلسطينيين الذين حاربوا في صفوف الجيش البريطاني يتخطى وحده عدد جميع العرب، بمختلف هويّاتهم، الذين حاربوا في صفوف محور روما – برلين.
عبد الناصر
وبعد توقّف قصير عند “النكبة الفلسطينية” وعلاقتها المعقّدة والملتبسة بمحرقة اليهود، يتناول الأشقر مرحلة عبد الناصر (1948-1967) ليُبيّن أن العقيدة التي دافع عنها هذا الأخير ولاقت تأييداً واسعاً في العالم العربي بقيت في حالة تشييد مستمرّة منذ وصوله إلى الحكم، كما بقيت جميع خطاباته وتصريحاته مجرّدة من أي تعابير معادية لليهود كقومٍ أو ديانةٍ أو عرق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مرحلة منظمة التحرير الفلسطينية (1967-1988) التي شهدت، بفضل مفكّري هذه المنظّمة الليبراليين واليساريين، اعتراف هذه الأخيرة بالمحرقة اليهودية وبالمسألة اليهودية الأوروبية بدون تخفيف تصلّبها حول المسألة الفلسطينية. وفي هذا السياق، يشير أشقر إلى دور إدوار سعيد في بلورة هذا الموقف الفلسطيني الذي يعتبر أن اضطهاد اليهود في أوروبا، ومحرقة اليهود خصوصاً، يشكّلان أمثولةً للبشرية جمعاء ضد جميع أنواع التعصّب ومعاداة الآخر.
ولا يهُمل أشقر خطاب التيارات الإسلامية الأصولية الحالية الذي تعبره غالباً عباراتٌ عنصرية ضد اليهود وتشكيكٌ بحقيقة محرقتهم، ونتائج هذا الخطاب السلبية على صورة العالم العربي ومصالحه في الغرب، كما لا يفوته الانتشار التدريجي لمثل هذه العبارات وهذا التشكيك داخل المجتمعات العربية بشكلٍ عام. لكن بدلاً من تفسير هذا الأمر كمُتنفَّسٍ لنزعةٍ عرقية متأصّلة داخل العالم العربي، يُبيّن لنا أنه مجرّد ردّة فعل سطحية وبدائية على معاناة الشعب الفلسطيني اليومية واستعمار أرضه من جهة، وعلى توظيف الدولة العبرية محرقة اليهود لشرعنة ذاتها وأفعالها وردع أي انتقاد، من جهةٍ أخرى. وفي هذا السياق، يميّز أشقر جيداً بين المواقف المعادية لليهود في أوروبا التي تشكّل سفالة “صافية” لا تبرير لها وعبارات العداء لليهود التي يتفوّه بها بعض الفلسطينيين الخاضعين لاضطهادٍ رهيب من دولة تدّعي بأنها تنشط باسم “الشعب اليهودي”…
المستقبل