“أوضاع العالم 2010” في العربية
الكتاب – الموسوعة يفتح السكّة أمام العقل
ضمن مشروع “حضارة واحدة” للترجمة الذي ترعاه مؤسّسة الفكر العربي، صدرت الترجمة العربيّة لكتاب “أوضاع العالم 2010″، وهو الثالث بعد “أوضاع العالم 2008″ و”أوضاع العالم 2009” من سلسلة كتب “أوضاع العالم” التي تصدر سنوياً منذ عام 1981 عن مؤسّسة La Découverte الفرنسية. سلسلة تتميّز بطابعها الموسوعي، وباستنادها إلى أبرز الأحداث والوقائع القائمة كلّ عام في العالم بأسره، لكن من دون تتبّع آلي لهذه الأحداث بل من خلال محاولة التقاط إيقاعها الجامع، بما يسمح باكتناه جوهر التغيّرات الأساسيّة القائمة في العالم وبنيتها، الأمر الذي يميّز سلسلة “أوضاع العالم”.
كان كتاب “أوضاع العالم 2008” قد غطّى بالأرقام والجداول والمعطيات، المعدلات التنمويّة في مختلف دول العالم، لا سيما في المجالات البشرية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والتجارية. مجموعة دراسات وأبحاث متعمّقة بأقلام عدد من المتخصّصين حول أهم قضايا 2007 والظواهر، الى عدد من الموضوعات المهمة شملت النظام الدولي، البنك الدولي، الطموح الروسي، المناخ، التصحّر، المخدرات، الأورو، العصر الرقمي، البيئة، القوى الناشئة، القوة الاقتصادية الصينية، الصحة والبيئة …إلخ، فضلاً عن المعطيات والجداول التي واكبت المعدلات التنموية في دول العالم كافة لعام 2007. في حين غطّى “أوضاع العالم 2009” بمعطياته وجداوله المعدلات التنموية لعام 2008 وأحياناً لسنين عشر خلت، بضمّه خمسة عناوين شخّصت أوضاع العالم عبر 52 مقالة نقدية هي على التوالي: علاقات دولية جديدة، مسائل اقتصادية واجتماعية، مجتمعات وتنمية بشرية، بيئة وتكنولوجيا حديثة، رهانات إقليمية، بمشاركة أكثر من ثلاثين باحثاً وباحثة في مختلف المجالات المعرفية.
أما “أوضاع العالم 2010” فيأتي ليشخّص هذه الأوضاع في عام 2009 عبر 50 مقالة تحليليّة نقديّة تبحث في أبرز المتغيّرات السياسية والاقتصادية والديبلوماسية والتكنولوجية والبيئية الدالة. خمسة محاور عن العلاقات الدولية الجديدة، والمسائل الاقتصادية والاجتماعية، والمجتمعات والتنمية البشرية، والبيئة والتكنولوجيات الحديثة، والرهانات الإقليمية، خاض فيها أفضل الباحثين المتخصّصين في العالم، ممّن وردت سيرهم الذاتية في الكتاب.
هذه المحاور، بكلّ ما يساندها من تحليلات وبيانات عن كلّ دولة من دول العالم (خرائط، مواقع إلكترونية، لوائح معلومات حول مختلف المؤسّسات، بما في ذلك الحكّام وأبرز الأحزاب، وطبيعة النظام…إلخ، إحصاءات عام 2008 …إلخ)، تستثير، على الرغم من تعدّد اتجاهاتها وتشعّب موضوعاتها، التأمل في أحداث تبدو مستقلّة بعضها عن البعض. لا بل أن هذه المحاور لا بدّ، وبسبب شموليتها هذه، أن تساهم في دعم القارئ لكي يستنبط السياق الشامل الذي يجمع هذه الظاهرة أو هذه الواقعة أو تلك، على اختلاف طبيعتها، فضلاً عن المحدّدات التي تتحكّم بها أو تحكمها، سواء أكانت هذه الظواهر ذات طبيعة سياسية أم اجتماعية أم ديموغرافية أم اقتصادية أم بيئية. بحيث تشير المعطيات الفريدة للكتاب إلى ارتباط الظواهر بعضها بالبعض من جهة، وإلى عدم تجانس المحدّدات من حيث طبيعتها مع طبيعة الظاهرة أو الحدث الذي قامت بتحديده من جهة ثانية. فمحدّدات الأزمة الاقتصادية العالمية مثلاً، قد لا تكون اقتصادية في الضرورة، ومحدّدات المشهد السياسي والاجتماعي الإقليمي قد لا تكون سياسية اجتماعية في الضرورة أيضاً.
تحرص نسخة 2010، كما جاء في تمهيد الكتاب، “على فكّ رموز أزمة النظام الاقتصادي والمالي وتحليل الدروب الجديدة التي سلكتها القوى العظمى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) على المستوى الديبلوماسي كما على مستوى النفوذ الاقتصادي والسياسي. وتعيد مقالات عدة النظر في مسائل التباينات والجوع والهجرة بعد مرور عشر سنين على أهداف الألفية التي طرحتها منظمة الأمم المتحدة للحدّ من الفقر. وتعالج مقالات “إقليميّة” آخر التطوّرات في الشرق الأوسط وبؤر التوترات الآسيوية (الهند وأفغانستان وباكستان)، والأزمات السائدة في جمهورية الكونغو الديموقراطية ودارفور وحتى كوسوفو.
أما المقدمة التي حملت عنوان “أزمة في العولمة”، فأطلّ من خلالها كاتبها الفرنسي، أستاذ العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية للعلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس، وأحد المشرفين الأساسيّين على الكتاب برتران بادي، إطلالة بانورامية على الوضع العالمي، طارحاً أسئلة تصبّ في عمق التغيّرات العالمية الراهنة، لا سيما بعدما تحوّلت الأزمة المالية العالمية أزمة اقتصادية شاملة من أبرز دلالاتها أننا خرجنا من عالم السيادة لندخل عالماً مترابطاً يخطئ فيه كلّ من يظنّ أنه قادر على الإفلات من الآثار المترتبة على مآزق الجار التي تهزّ الاستقرار وتنقل العدوى. إنه عالم تسوده حال الريبة حول دور الدولة في حلّ الأزمة ويقود إلى اكتشاف تجريبي لقوّة الترابطات. إذ إن الترابط لا يعني التشابه أو التجانس، لا سيما أنه في سياق المجموعات الإقليمية، أظهرت السياسات الوطنية فوارق في الأوضاع والأهداف بين بلد وآخر. ويستند برتران بادي إلى شواهد، مبيّناً كيف يعيش كلّ بلد في وحدة تعزله عن الآخر، مثل ألمانيا المنشغلة بحماية التنافسية الصناعية وتمديد عملية تطهير مالية الدولة، في الوقت الذي تراهن فيه بريطانيا على إعادة إطلاق الاستهلاك بفضل دين عام ضعيف …إلخ. فالأوضاع في رأيه تشير إلى عجز سياسي في البنية الإقليمية، من أبرز تجلّياته الخلط بين تكامل السيادات وتقاربها.
هذا في الوقت الذي تثير فيه كلّ خطة بحسب كاتب المقدمة، آثاراً خارجية متسلسلة، فتقود، من بين ما تقود إليه، الولايات المتحدة إلى مدارات الصين. وهكذا دواليك. ففي سياق توجهات الديبلوماسية الناشئة لباراك أوباما، يشير برتران بادي إلى أن كل خطة إنعاش أميركية تفترض وسائل مالية جديدة، وكذلك إصدار سندات خزينة جديدة تبقى بيجينغ الآن أحد أول مشتريها. فأزمة اليوم، التي وصفها بـ”الأزمة الأولى لعولمة محقّقة”، تختلف عن أزمة السبعينات حين كان العالم خاضعاً للثنائية القطبيّة. أزمة اليوم تضرب عالماً لا يفلت منه أحد، بعدما تحقّقت العولمة بحدودها الاقتصادية، لكن بعرقلتها للموقع السياسي الذي يعيد مهمة ضبط الأمور.
المقالة الطويلة لبرتران بادي التي تصدّرت مجموعة المقالات والأبحاث والدراسات التي ضمّها الكتاب، مدخل ذو إطلالة بانوراميّة، الغاية منها دعم التوجّه المألوف لكتاب “أوضاع العالم” نحو تزويد القارئ، من مختلف بلدان العالم، أدوات فكرية ومعرفية وإحصائية من شأنها مساعدته في إثارة أسئلة جديدة وإنتاج رؤى وأفكار مختلفة.
النهار