السينمائي الفرنسي جاك تاتي
“السيد أولو” ليس إلا وجهاً واحداً لعبقريته وكان يستعد لقتله
ريما المسمار
يحتل جاك تاتي مكانة خاصة في السينما، شأن سينمائيين آخرين في العالم. وغالباً ما تطرح الكتابات النقدية عن أولئك إشكالية في معنى “الخصوصية” التي ننسبها إليهم. هل الخصوصية هي مجرد تفرّد في منحى سينمائي؟ هل هي ثمرة التزاوج بين السينمائي ومكانته التاريخية وربما الجغرافية؟ هل الخصوصية صفة ذات أعماق مختلفة؟ بمعنى آخر، هل ثمة خصوصية أعمق من غيرها؟ يكفي ان نستعيد التظاهرة التي بدأت سينما متروبوليس بإحيائها منذ نيف وعام تحت مسمّى “محطات السينما” لنقف على بعض جوانب هذا التعقيد. ثلاثة من كبار السينمائيين في العالم مروا عليها ببرامج استعادية كاملة او شبه كاملة: مايكل أنجلو انتونيوني، روبير بريسون وفيديريكو فيلليني. وبدءاً من مساء أمس، انضم الى قافلة “محطات السينما” السينمائي الفرنسي جاك تاتي الذي ستشكل استعادته الكاملة (بين 27 أيار الجاري و2 حزيران المقبل في سينما متروبوليس) ختام التظاهرة. كيف نقارن بين هؤلاء؟ او ربما يجدر بنا أن نسأل: هل يجب ان نقارن بين عظمة سينمائي وآخر؟ بشيء من التبسيط، يمكن الجزم بأن الكم الانتاجي والجوائز عنصران خارج معادلة اية مقارنة عميقة. فيلليني أنجز اربعة وعشرين فيلماً بينما يقتصر سجل أفلام تاتي على ستة أعمال روائية طويلة. هل من دلالة لهذا التفاوت الكمي بين المخرجين الى درجة ابداع كل منهما؟ قطعاً لا. تميل معظم الدراسات النقدية السينمائية الى رصد مفهوم “التجديد” للوقوف على مكانة هذا السينمائي او ذاك. ولكن حتى هذا المفهوم يتفرّع او يتقلص بحسب كل سينمائي. فمنهم من يقوم التجديد عنده على الاضافة الى ملامح مرحلة او نوع قائم في الأصل. ومنهم، وهم قلة قليلة، من يحقق “التجديد” على مساحة أوسع، تطال الفن السينمائي بشكل عام وعلاقة المتفرج به. الى تلك الفئة الأخيرة ينتمي جاك تاتي، وسط، او على الرغم من، الحواجب التي قد ترتفع دهشة لدى سماع ذلك. فالرجل، كما أسلفنا، حقق ستة أفلام طويلة فقط بين 1949 و1974 ولكن تأثيره وإسهامه في السينما الفرنسية لا يقلان عن اسهامات عمالقة سينمائيين من أمثال جان رينوار وروبير بريسون وفرونسوا تروفو. وثمة من يعتبر فيلمه “وقت اللهو” Playtime (1967) كل ما يلزم لصنع مجد سينمائي بضربة واحدة قاضية. تخطى تاتي موقعه كواحد من أعظم الكوميديين في السينما، مكتسباً مكانة بارزة بين مجدديها الراديكاليين. وذلك لأنه جعل من أفلامه مختبراً مفتوحاً للتجريب في الصوت واللون والصورة والتصميم واللغة. تجاربه تلك هي الجسر الذي يربط بين ابتكارات اسلافه في السينما الصامتة لاسيما باستر كيتن وماكس ليندر (كان فيلمه القصير “مدرسة لسعاة البريد” A School for Postmen عام 1947 بمثابة التحية لهما) وبين مجايليه (جان-لوك غودار ومارغريت دورا وروبير بريسون) وبين مخرجين معاصرين، يدينون بالكثير الى أسلوبه وحسه الفكاهي من روي اندرسن الى ويس اندرسن ومن اوتار يوسيلياني الى ايليا سليمان ومن تاكيشي كيتانو الى سيلفان شومي. أحد النقاد وصفه بأنه “الإبن المنعزل والبغيض” للموجة الفرنسية الجديدة، واصفاً الكوميديا “التهريجية” التي قدمها بأنها نقد اجتماعي ثقافي لا يقل دلالة وقوة عن منحى غودار النقدي ضارب الجذور في الماركسية. ولكن على الرغم من عبقريته، لم ينل جاك تاتي حقه في فرنسا الا بعد مماته وترافقت مسيرته مع مصاعب انتاجية كادت أن تجهض مسيرته.
الاسم الحقيقي لجاك تاتي هو جاك تاتيسشيف. ولد في التاسع من تشرين الأول/اوكتوبر عام 1907 في فرنسا، لأم هولندية وأب روسي متحدر من عائلة ارستقراطية. بعض المصادر يشير الى ولادته في العام 1908 وبعضها الآخر يحدد 1909 عام إبصاره النور. ولكن دايفيد بيللوس الكاتب والمترجم البريطاني الذي وضع كتاب “جاك تاتي: حياته وفنه” (1999) يصر على انه ولد في العام 1907. جده لوالده، الكونت ديميتري تاتيسشيف، كان جنرالاً وملحقاً عسكرياً في السفارة الروسية في باريس. بهذا المعنى، حاز “جاك” الطفل امتيازات كثيرة في التربية والتعليم. أراده والده ان يرث أعماله في مجال صناعة إطارات الصور وبالفعل عمل معه لبعض الوقت قبل ان يتجه الى الرياضة التي عشقها في مرحلة المراهقة. هكذا انتسب الى نوادٍ رياضية عدة وتفوق في الروكبي وكرة المضرب والملاكمة. ولكن بمحاذاة ذلك، كان الشاب يقوم بأداءات ايمائية امام اصدقائه من وحي الرياضات التي يلعبها. فكان ان أقنعوه بتقديم ابتكاراته على المسرح وهكذا كان، مشاركاً في عروض مسرحية وغنائية في باريس خلال الثلاثينات. ولكن قبل ذلك بوقت طويل، كان الطفل “جاك” ميالاً الى الأداء الارتجالي. في كتاب بيللوس آنف الذكر، يستعيد تاتي ذكرى قديمة من طفولته لعطلة قضاها برفقة عائلته على البحر (سنجد آثارها لاحقاً في فيلمه الثاني “عطلة السيد أولو” عام 1952) حيث كانت شقيقته “ناتالي” تجده امام المرآة يلعب شخصيات مختلفة بحسب القبعة التي يرتديها بما هي فكرة سيعود اليها في فيلمه الأخير “موكب” Parade عام 1974. في أواخر الثلاثينات، شارك تاتي في مجموعة من الافلام القصيرة، تمثيلاً وكتابة وإخراجاً. كان اولها Oscar Champion de Tennis عام 1932 الذي تتباين المعلومات في شأن ضلوعه فيه. فالأكيد انه شارك فيه تمثيلاً، ولكن مسألة إخراجه الشريط تبقى محل شك، إذ ينسبه بعض المصادر الى المخرج جاك فوريستر والبعض الآخر الى تاتي إخراجاً. في كل الأحوال، يعد الشريط في عرف المفقود اليوم. تبعه في تلك المرحلة On Demande Une Brute (1934) وSoigne Ton Gauche (1936) اللذين كتبهما ومثّل فيهما، Gai Dimanche (1935) الذي كتبه وأخرجه مع جاك بير وRetour a la Terre (1938) الذي كتبه ايضاً وربما أخرجه.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر تاتي ممثلاً بدورين صغيرين في فيلمي كلود أوتون-لارا Sylvie et le Fantome (1945) وLe Diable au Corps (1946). في العام التالي، أنجز فيلمه القصير LEcole des Facteurs الذي كتبه ايضاً ومثّل فيه وكان بمثابة التحية الى سينما العشرينات الصامتة ولاسيما الى تشارلي تشابلن وباستر كيتن. لاقى الفيلم نجاحاً مما حدا بمخرجه الى العودة اليه مجدداً من أجل تحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول Jour de Fete (The Big Day).
تدور أحداث الفيلم حول ساعي بريد في قرية ريفية نائية، يتوقف عن أداء مهامه اليومية لمواكبة معرض حول السفر يصل القرية. بين تأثير النبيذ والوثائقي الذي يشاهده حول سرعة الخدمة البريدية الاميركية، يحاول ساعي البريد بشتى الوسائل توصيل البريد بسرعة على الرغم من انه يقود دراجة. صور تاتي هذا الفيلم في العام 1947 عندما لجأ الى القرية هرباً من الجنود النازيين ابان الاحتلال الالماني. وكاد ان يكون اول فيلم فرنسي بالالوان ذلك ان المخرج صور منه نسختين واحدة بالابيض والاسود والثانية بالالوان. ولكن نظام الالوان “تومسن” الحديث وقتذاك لم يكن عملياً ولم يتمكن من استخراج النسخة بالالوان فخرج الفيلم عام 1949 بالابيض والاسود. وليس ذلك سوى دليل واحد على قدرات تاتي المتجاوزة زمنها بما هي ميزة ستكون في الغالب ضده. حاز Jour de Fete جائزة أفضل إخراج في مهرجان البندقية. اما النسخة الملونة فلم تبصر النور حتى العام 1995 بجهود ابنته صوفي تاتيستشف، المونتيرة والمخرجة.
ظهر الفيلم الثاني لتاتي في العام 1953، Les Vacances de Monsieur Hulot. نال الفيلم شهرة كبرى لاسيما في أميركا وشهد الظهور الأول لشخصية “السيد أولو”، صنو تاتي، الذي سيظهر في أربعة من أفلامه الستة. مثل متشرد تشابلن، كان “اولو” ابتكاراً خلاقاً، يكتنز عالماً بأكمله ويذوب فيه في آن معاً. انه الرجل العادي، متوسط السن والوحيد غالباً، الذي يتسبب من دون قصد بسلسلة من المشكلات أينما حل. مهما يكن من أمر التماهي بين شخصيتي تاتي وأولو، ثمة فارق اساسي بينهما هو هوس تاتي كسينمائي بالاتقان الذي يبدو مناقضاً للوهلة الأولى لعالم أفلامه الفوضوي ظاهرياً. ولكن لا شيء في عالم تاتي السينمائي يدين للصدفة بوجوده، بل ان اصغر تفصيل يصب في رؤية المخرج وينتمي الى عالمه ويتحد مع العناصر الأخرى وفق كوريغرافيا شكلية وموضوعية وايقاعية عصية على التصنيف والتوصيف خلا انها بصمة جاك تاتي المتفرّدة. الكوميديا في عرف تاتي كما يعرفها في فيلمه القصير Cour de Soir (1967) ثمرة الملاحظة الدقيقة والاسلوب الفني بقدر ما هي ثمرة الموهبة.
مع شخصية “السيد أولو” ايضاً، أنجز تاتي فيلمه التالي Mon Oncle (1958)، أكثر أفلامه شهرة وأولها بالألوان. وصفه النقاد ومن بينهم نقاد “دفاتر السينما” (فرونسوا تروفو وأصدقاؤه) بـ”التحفة” وحاز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي فضلاً عن اوسكار أفضل فيلم أجنبي وجائزة نقاد نيويورك. وفيه يصارع “اولو” على طريقته الحداثة الهابطة على فرنسا بعد الحرب وانبهار المجتمع بالنمط الاستهلاكي.
استلزم جاك تاتي وهو في ذروة النجاح تلك نحو عقد من الزمن ليقدم فيلمه التالي Playtime (1967). وإذ يتفق معظم النقاد والكثير من المخرجين على ان أفلام جاك تاتي تحتاج الى أكثر من مشاهدة واحدة للوصول الى أعماقها، يشيرون الى “ضرورة” العودة الى Playtime تحديداً للوقوف على ثرائه وعبقريته. في هذا الفيلم، يعثر كثيرون على التطبيق العملي لنظرية اندريه بازان حول “ديمقراطية” الصورة التي اكتشف تاتي انها تقوم بالضرورة على إشراك المشاهد بدرجة عالية. هكذا كتب احد نقاد “دفاتر السينما” عن الفيلم: “لم يسبق لأي فيلم (قبل Playtime) ان وضع هذه الثقة في ذكاء المشاهد ونشاطه: التحدي كان أكبر من ان يعثر على تجاوب مناسب.” وفي مكان آخر، كتب نويل بورتش في كتابه Praxis Du Cinema: “فيلم تاتي هو الاول في تاريخ السينما الذي يجب مشاهدته ليس فقط أكثر من مرة وانما ايضاً من مسافات مختلفة. انه ربما الفيلم الأول المفتوح”.
من أجل هذا الفيلم، قام تاتي ببناء مدينة مصغرة- أصبحت تُعرف بـ”تاتيفيل” (Tativille)- في ضواحي باريس على شكل مدينة عصرية. وفي هذا الفيلم ايضاً، وصل السينمائي الى الحدود القصوى في استخدام أدواته وبلورة رؤيته في الصورة والصوت والحركة والتركيب. ولكن ابعد من ذلك، قام يتهميش شخصية “أولو” التي ستضيع كما غيرها من الشخصيات في المدينة الحديثة والآلية ووسط زحمة الاصوات والافعال المتداخلة، تاركاً لعين المشاهد ان تختار الزاوية والحدث اللذين ستلاحقهما في مدة زمنية معينة. ومن هنا ربما وصفه لفيلمه في حوار مع الناقد جوناثان روزنبوم في عنوان “ديموقراطية تاتي” بأنه “نكرة”. ولكن ايضاً تنطبق على Playtime نظرية الناقدة السينمائية بولين كايل القائلة بارتكاب معظم السينمائيين “حماقة” والوصف لا يطال قيمة العمل السينمائية. وانما هو العمل، بكلمات كايل، الذي “…يقفز المخرج فيه فوق اعماله السابقة وفي اتجاه أبعد من السرد البارع… يصنع ملحمة رؤيوية ضخمة تبدل إدراك الناس حول العالم.” وبقدر ما استطاع تاتي تحقيق ذلك على المستوى السينمائي، بقدر ما طالت “الحماقة”، بوجهها السلبي، مسيرته السينمائية. فبعد الانتهاء من تشييد المدينة المصغرة، ضربت عاصفة الديكور في العام 1964 متسببة بخسائر مادية كبرى. الا ان تاتي تابع العمل وامتد التصوير لأشهر بعد الوقت المحدد، دافعاً بالمخرج الى اللجوء الى أمواله الخاصة وأموال اصدقائه لانهاء الفيلم. لاقى الفيلم ضجة كبرى بين النقاد ولكنه واجه فشلاً جماهيرياً كبيراً، أجبر مخرجه بسببه، فضلاً عن ديونه المتراكمة، على المساومة للمرة الاولى خلال مسيرته على قناعاته لما تبقى له من أفلام.
مثقلاً بأزمات Playtime، استطاع جاك تاتي إنجاز فيلمين أخيرين قبل وفاته في الرابع من تشرين الثاني 1982 هما Trafic (1971) وParade (1974). لضمان الحصول على تمويل للأول، كان على تاتي أن يرضخ لرغبة المنتجين ليس فقط بتجسيد شخصية “السيد أولو” مرة أخرى وانما ايضاً بجعلها محور الأحداث. وربما تجدر الغشارة هنا الى ان ابتكار تاتي لشخصية “السيد أولو” كان بهدف فيلم واحد، كما يكشف روزنبوم الذي رافق السينمائي لبعض الوقت قبل رحيله بهدف كتابة سيناريو فيلم Confusion لم يقدر له ابصار النور. اذاً كانت عودة “أولو” في Trafic لغاية انتاجية فقط الامر الذي دجّن الفيلم برمته. فلو ان تاتي امتلك الحرية الكاملة لذهب أبعد من Playtime لأن هذا ما يفترضه المتابع لمسيرته ولما عاد الى “اولو” لأنه “أذابه”، إذا صح التعبير، في المشهد الأخير في Playtime بين الحشود في اشارة الى انه يرمز الى الجميع. بل ان بعض الكتابات حول جاك تاتي يشير الى ان النسخة الاولى من سيناريو Confusion تضمنت مشهد قتل “السيد أولو” في بداية الفيلم.
إلى تلك الراديكالية التي وصلت الى ذروتها في Playtime سيعود تاتي في آخر أفلامه Parade بحسب العديد من النقاد ومن بينهم روزنبوم. ولكن لأن الفيلم أنجز للتلفزيون السويدي وصور بالفيديو لم ينل ما يستحقه من المشاهدة أولاً والتقدير ثانياً وهو ما ستتيحه تظاهرة “أهلاً بكم في تاتيفيل” التي انطلقت أمس في سينما متروبوليس أمبير-صوفيل.
المستقبل