ليلة لم يأكل فيها السويسريون الكباب التركي
هاني درويش
عندما احرز اللاعب حاكين ياكين رأس حربة المنتخب السويسري هدف بلاده الأول لم يجر سعيداً على عادة الإنفعال الدارج الذي تلوّح فيه القبضات وتجز الأسنان، بدا خجلاً كمنفذ حكم الإعدام بالكرسي الكهربي، الذي يرفع مقبص الفولت العالي بإلية من يقول صباح الخير، لم يجر سعيدا بل وحاول، أو تجنب، فعلياً إحتضان زملائه المهنئين المنفعلين، ذاك انه احرز هدف التقدم في تركيا بلده الأم، وكأنه يكفّر ضمنياً عن هذا الذنب. كان ذلك أحد المشاهد الفارقة في ملحمة لقاء تركيا بسويسرا يوم الاربعاء الماضي في إطار بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم. فقد قُدّر للمشاهدين أن يشاهدوا تلك المعركة المجازية الكبرى لمدة 120 دقيقة من صعود وهبوط المواجهة بين شرق وغرب كلاهما يتبادل الشوفينية مجازاً على هيئة كرة قدم مطاطية، كرة قدم ركلت بعنف بدائي، عنف تناص بالمباراة من ذلك الطقس الوثني التطهري المنتمي للعصور الوسطى والذي به دشن الإنكليز لعبة كرة القدم من قلب محاكم التفتيش. كان القرويون الإنكليز في العصور الوسطي يقطعون رأس المهرطقين ويركلونها بالأقدام من قرية إلى أخرى، فعرفت كرة القدم من قلب تلك المعمعة الإنتقامية البدائية.
وفي ليلة إستاد بازل إستدعى الجميع واستحضروا القيمة المخبوءة في هذا الطقس حتى لو خففت من حدة المشهد الإعلانات التجارية البراقة وجمال أرجاء الملعب ذي الحشائش الخضراء والتنظيم الدقيق والأضواء المبهرة. فصباح المعركة الكروية خرجت الصحف الشعبية السويسرية تحمل عنوانا دالا “الليلة سنأكل الكباب التركي” في إستعارة هي أقرب لتاريخ قريب وقف فيه الفييناويون ـ وكانت سويسرا جزءا من أمبراطورية النمسا الشهيرة ـ يغيظون جيش الحصار العثماني لمدينتهم بعجينة مخبوزة تشبه الهلال الإسلامي وهم يمضغونها بتلذذ، عجينة ستتحول مع الأيام إلى “الكرواسون” الشهير رمز مهانة السلطان سليمان القانوني الذي انتهت مغامرته عند أسوار العاصمة النمسوية وبدأ منذ تلك اللحظة، مسيرة “للخلف در” التي أكسبت بلده لاحقاً لقب “رجل أوروبا المريض“.
السلطان سليمان كان حاضراً في نحو ما يزيد على نصف مليون تركي يعيشون في سويسرا، اشترى منهم نحو 40 ألفا تذاكر للمباراة ذات الحس الثأري. كان حاضراً في علم الدولة الأحمر ذي الهلال والنجمة، بينما أوروبا تواجهه بعلم أحمر آخر يحمل صليباً ابيض، أوروبا في نسخة هشة أسمها سويسرا المنقسمة على خاصرة اربع لغات، بلد الخدمات والرفاه الراقية والمهاجرين والثلوج والفيفا والحياد، تواجه أبناء الأناضول المتحفزين في كرة القدم كما في السياسة لإثبات هويتهم الأوروبية المنقوصة. ذهنيتان تتصادمان في ليلة حملت لها الأقدار أمطاراً حولت حلبة الملعب إلى بركة من الركل والماء المتطاير والأنوف التي تمخر بخار الماء وكثير الكثير من الدماء التي إنفجرت من رؤوس اللاعبين. نزف لاعبو تركيا من جباههم الدماء فصرخ المذيع المصري “هاهي الدماء الساخنة تستفز من أجل رفعة الوطن التركي المسلم” وكأن موقعة بازل إنتقام للشرف الممرغ في تراب الدنمارك. وفيما بدأ هطول الأمطار إلتجأ المشجعون السويسريون ـ المحتسبون للأمر بدقة ساعاتهم الشهيرة ـ في إخراج معاطف المطر الشفافة، كان المشجعون الأتراك يلثمون وجوههم كعصابات قطاع الطرق. أما في ساحة المعركة، حيث قعقعة الركل والضرب والدماء، فكان المنتخب السويسري الذي لم يعرف عنه الحمية أو العنف متفاخرا بعنفوان الشباب في فريقه. متوسط اعمار الفريق السويسري لم تزد عن الـ23 عاما، ضم لاعبين تركيين وآخر إيطالي وفرنسيين وواحداً من جزيرة الرأس الخضراء، محفل كوزموبوليتاني من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين يواجهون رؤوساً مربعة اناضولية أقرب للميلشيا بمتوسط أعمار يصل إلى الثلاثين، كان المذيع المهووس بإذكاء تلك الجلجلة بنيران مواجهة الشرق للغرب يذكر كل دقيقيتين مشاهديه بأعداد الأتراك والمسلمين في أوروبا، ومحتفياً بالدماء الأناضولية النازفة قال: هاهم أبناء الأناضول يستعيدون أمجاد الأزمان الغابرة، قبل ان يستدعي ـ كل دقيقتين أيضا ـ ذكرى معركة كروية قريبة أخرجت فيها سويسرا تركيا من تصفيات كأس العالم ملمحا بمؤامرة تحكيمية رجحت كفة الفريق السويسري في تلك الليلة.
لم يبك المشجعون السويسريون عندما أطلق الحكم صافرة النهاية. أنصرفوا بوجوهههم الملونة فيما الأتراك الفائزون انهاروا بكاء بعد أن سجلوا هدف الفوز في الدقيقة الثالثة من الوقت الضائع. لم يبك من اللاعبين السويسريين غير اللاعبين الأتراك. سقطوا على نجيلة الملعب الموحلة وقد إنهار إحساسهم بمنحة الهوية الأوروبية التي لم تحمهم من عصبية الجذور. يبقى أن نشير إلى أن المذيع المصري، وإمعانا في تسخين أجواء المعركة منذ ركلة البداية، أشار إلى أن مدينة بازل السويسرية تحمل جرحاً عربياً مفتوحاً بإستضافتها منذ ما يزيد عن القرن المؤتمر الصهيوني الأول. قال تلك الإشارة ثم تحدث عن تسامح السويسريين وأدبهم وإحترامهم ـ الذي لم ينجّهم من الهزيمة ـ، وكأن قانون المجنونة المستديرة ينتصر لروحه البدائية القديمة فتفوز تركيا وينهزم السويسريون، لكن هل يعني ذلك ما هو أكثر من مجرد مباراة؟ لم يجب المذيع عن السؤال.
المستقبل