صفحات أخرى

الصور هل تستطيع أن تكون تعويضاً عن الخسارات؟

بقلم سعد القصاب
تعيش بغداد اليوم سيرة اختفاء رمزي. يومياتها السيئة الصياغة تضاهي مأساتها. مدينة تولد فيها المفارقات وتشخص كنخيلها. منذ أن أنهكت وجودها، بتمدين القرويين الذين هاجروا إليها، بالثورات والانقلابات المتعاقبة التي حدثت فيها، بالنظام الشمولي الذي رزحت تحت وطأته، بالحروب التي ذهبت إليها طواعية، بالمحتل الانكلو- أميركي الذي سحق شوارعها وأرصفتها بسرفات آلاته العسكرية، بحرقها، ونهبها، بأسباب الانتقام منها. مدينة لم يعد لها سوى حنين تشكّله الاستعارة التي باتت تتمثل على شكل تذكارات.
صور باهتة بالأسود والأبيض لبغداد القديمة، صارت ولعاً ظاهراً للبغداديين. يتبادلونها عبر رسائل البريد الالكتروني، وهي موجودة بوفرة في المواقع الالكترونية العراقية، في المدونات وصفحات الـ”فايس بوك” الخاصة. منشورة في صفحات متخصصة لعديد من الصحف اليومية بذريعة استذكار ماض قريب. بعض هذه الصور تجدها معلّقة على جدران العديد من المقاهي والمطاعم، في المناطق الشعبية العتيدة: الميدان، باب المعظم، الباب الشرقي، الاعظمية ومنطقة الفضل. ظاهرة بدأت تعلن نفسها منذ سنوات قليلة، وتحديدا بعد عام 2003.
تبين تلك الصور، تاريخا يبدأ من عشرينات القرن الماضي وصولاً إلى سبعيناته. هي ملحقة غالبا بهامش صغير مؤلف من عبارات مقتضبة: بغداد في الأربعينات أو في الخمسينات، صور من تاريخ العراق الحديث، أو تعليق مكتوب على النحو الآتي: تأكيد الهوية الوطنيه في زمن نحن في أمسّ الحاجة فيه كي نلمّ ما ضاع وتشتت منها. كأن ما جاء بعد ذاك الزمن، أشبه بخيار من دون تعليل، بل يبدو ان لا احد يرغب باستذكار العقود التي تلته على رغم جسامة ما أحدثته في كيان المدينة والإنسان معا. تحضر المفارقة في ان ما وثّقته هذه الصور لم يبق منه أثر يذكر. شواخص درست، أماكن تبدلت، شخوص غابوا. زمن اختفى ولم يصدر عنه أي صوت.
الملك فيصل الأول وحفيده فيصل الثاني، الأمير عبد الإله والعائلة المالكة. الزعيم عبد الكريم قاسم يفترش الأرض مرتديا بيجامته في مكتبه في وزارة الدفاع. الشاعر جميل صدقي الزهاوي غافيا في انتظار شاعر الهند طاغور، قادما من إيران. معروف الرصافي يقرأ إحدى قصائده لمناسبة افتتاح مدرسة أهلية. السيدة أم كلثوم تغني في احد كازينوهات منطقة الميدان عام 1933. صور لجسور قديمة. شوارع وساحات ومقاه. مراقد أئمة وكنائس. خانات وأسواق قديمة. أزقة وبيوت بغدادية. صور تؤثر ضمنا بقاء تاريخ قصي ماثل في المشاعر والأخيلة.
تعلّقٌ لا يأبه لطبيعة الوثيقة المصرّح عنها في الصورة، قدر انجذابه لتعددية موضوعها العاطفي. الماضي يقارَن بالحاضر ويتفوق عليه. اهتمام يفسّر خفية أن بغداد مدينة محتلة. لكن ما الذي يضمره هذا الاهتمام؟ ثمة افتراضات تناقض دلالاتها هنا: المدينة ملاذ تبدّد، مشاعر السكينة تحولت جزعاً، الإحساس بالهناءة بات هاجسا يذكّر بالنفي، الحضور هو ذاته دعوة الى رحيل، في حين صار الزمن سجلاً لأحزان، وكل تطلّع إلى الأبعد يرشح عن اللاجدوى، وما سوف يحصل كأنه يختبر المجهول.
استبدال النسيان بالتذكر، هو ما يفصح عنه ولعٌ كهذا. مدينة كان كل شيء فيها، طرقها، ساحاتها، طراز عماراتها، دور عبادتها، فضاؤها المديني، يشبه أرواح ساكنيها السابقين. زمن جعلته الصورة مسالماً وغير مؤذ وكثير المديح لطمأنينة تبادلها المكان مع أولئك الغائبين. من الذين لم يعرفوا الموت والغياب العنيف والفوضى الوقحة والفضفاضة والخراب، سمة لهوية المدينة كما حالها الآن. بينما التعبير الكامن يختزل وجود بغداد عبر هذه الصور بوصفها وجوداً سابقا له تاريخ غير مرويّ يراد بعثه بشكل مرئي وبضرورة التقاء المدينة مع نفسها.
الصورة الحزينة
تؤكد مقالات متفرقة، أن دخول التصوير الفوتوغرافي إلى العراق يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر على يد البعثات التبشيرية المسيحية التي قدمت الى مدينة الموصل، ومنها انتقل إلى مدن العراق الأخرى. منذ ذلك التاريخ لا وجود لمؤسسة معنية بالأرشيف الصوري، لا كتب تبحث عن تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي، لا معاهد تدرس هذا الفن. ظل التصوير حرفة يزاولها البعض في محال التصوير. لكنه أيضا كان ولعا وموهبة فردية لدى البعض الآخر من الذين سوف يعملون لاحقا في الصحافة أو في مجال العمل الطباعي. ثمة أسماء من رواد هذا الفن يحتفظ بها الخطاب البصري، منهم: أرشاك، حاج أمري سليم، مراد الداغستاني، حازم باك، ناظم رمزي. الفن الفوتوغرافي من علامتنا التعبيرية، الأشد تواضعا للاهتمام، في نظامنا الثقافي.
انطوت الذاكرة الجمعية على تفسير، اعتبر التصوير الفوتوغرافي، حرفة خاصة، وظيفية تماما، موصولة بعادات الحضور الاجتماعي والشخصي. إنتاجه شديد الألفة تماماً، وواقعي، بل يكاد يشبه الوجود اليومي. يتأتى أثره الحقيقي من طبيعته التلقائية التي تجعله الفن الوحيد الذي لا يخطئ البتة. من خلاله يجعل كل ماض رؤيةً قابلة للامتلاك بأقل جهد ممكن. دال على قراءة هانئة تستدعي النظرات الحنونة. كل صورة هي لحظة لم تغب، بل باقية تذكّر بزمن جميل سابق. إن المصور الفوتوغرافي هو الكائن الوحيد المخوّل تسجيل هذه المناسبات.
لم يشاهد البغداديون المصوّرين يجوبون الشوارع. كان وجودهم غالبا في الساحات العامة وفي أماكن التسلية واللهو. أنيسون وودودون وباعثون على البهجة، حينما يطلبون من الاخر تصويره. ذوو مهنة كثيرة الطرافة. في الثمانينات حينما بدأوا بالاختفاء بأسباب استدعائهم إلى جبهات القتال، أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، كانت هناك أيضا علامات مثبتة أمام العديد من المؤسسات الرسمية تمنع التصوير منعا باتا. لقد رحلوا ليصوروا المعارك التي كانت تبث أفلامها بشكل يومي عبر التلفزيون، لتتحول الصورة وقتئذ وثيقة عن القتال والموت. في ذلك التاريخ لم يعد الكثير مكترثا باعتبارها شاهدة على حضور هانئ. كانت تعلَّق على جدران الغرف المنزلية كي تشير الى غياب أقارب فُقدوا في ساحات الحرب. تلك المضامين الجديدة للصورة كانت باعثة على هواجس لا تخلو من الأسى. انه الزمن الذي بدأت فيه الصور الحزينة بالظهور.
ثلاثة عقود مرّت، والأرشيف الصوري شحيح في علاقته مع بغداد. افتقد الطموح بانفتاحه على المدينة وتدوينها بصريا في مشهد بانورامي. لم توثق الصورة الكثير من التحولات التي طاولتها. لا أثر توثيقيا يعتدّ به. لم تكن الصورة تطيل النظر إلى المدينة كي تحاكي مآلها أو تشاركها حياتها. كان للحساسية السياسية الشمولية هيمنتها على هذا الفن. لكن ما الذي فعله المصوّرون؟ بادلوا مهمة واقعية بخيار ذاتي، اتخذ من اللحظة الحاسمة ثيمة لصور بلقطات مختارة عن قرب. الصورة شكلت لهم مشروعا خاصا. تُظهر رجالا ونساء منهمكين في أعمالهم وحياتهم اليومية، وجوه أشخاص، أزقة قديمة، واجهات مبان، أماكن خالية. هي مشاهد حياتية تكتنفها مهارات العلاقة بين الضوء والظل وتكريس دلالات جمالية من خلالها. انه إنتاج مصوّري صحافة، تدرّبوا على مؤازرة الخبر والمعلومة بأثر مطبوع. هكذا باتوا يعينون المشهد بوصفه واقعا ذا حكايات تعبيرية خاصة تغري بتأملها.
بغداديات
كان احد اهم انشغالات الرسم العراقي بالمدينة كمعطى تعبيري وبصري دال، مجموعة لوحات زيتية وعدداً من التخطيطات نفِّذت بالحبر والألوان المائية، أنجزها الفنان الراحل جواد سليم ما بين 1953 و1958 أطلق عليها اسم “البغداديات”. أعمال تآلفت أسلوبيا بين تجارب الفن الحديث والتراث المحلي والفولكلوري، وتمثلت الفضاء البغدادي بوصفه مكانا جماليا يعاد تشكيله برؤية فنية شديدة الاختزال في نموذجها الصوري أو في استلهام موضوعه كمشاهد زاخرة بعادات اجتماعية. يذكر الناقد سهيل سامي نادر أن تلك الإعمال “حافظت على رسالة جمالية وثقافية غير شخصية، وعاونت بوسائل الفن، على استدخال فكرة وجود عصر جميل يمكن التباهي به”. كانت إنتاجا لحقبة الخمسينات الخصبة والبهيجة المفعمة بتطلعات التأسيس في الفن والفكر والأدب.
تلك اللوحات أحدثت لقاء ثقافيا عقده الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد في عام 1965، حينما كتب مقالة مهداة إلى جواد سليم في الذكرى الرابعة لرحيله. كان عنوانها، أيضا، “بغداديات”. لم تعن مقالته تلك بفن الرسم ولم تشر إلى تجربة أستاذه، إنما وظّفت خطابا تأويليا يستشرف مآثر المدينة بخبرة أدبية. بغداد المدينة التي هي بمثابة “ضرورة تاريخية وذوقية”، تتخيل طفلاً رمزياً يكون الرائي لوجودها. ارتكن إلى ظل زقاق ليملأ بالطباشير اسفلت الشارع برسومه وعلامته، ويتطلع بشغف إلى مدينته المدورة بمنائرها وقبابها، بأسوارها وأسواقها وقصورها، المتجملة بالقداح وأوراق الليمون والمعطرة بماء الورد. مدينة الحكايات الجامعة لآثار حضارات متعاقبة هي نفسها بغداد هذا العصر.
مخلوقها الثر، ذاك الممتلئ أمام نفسه بوجوده، المستقر في ضمير مدينته، القابع في وعيها، دعته كي يتجول في أزقتها، منتقلا ما بين البيت والمقهى والحانة، قاطعا شوارعها وأسواقها، ممارسا مهمات ومسرات لا تخلو من مقايضة. كان بمثابة وجدانها التي وهبته مرة واحدة والى الأبد قلبها العامر بالبراءة والفن.
يعاود آل سعيد بعد ما يقارب الثلاثة عقود استلهام خطابه ذاك في عدد آخر من المقالات، مضيفا اليها تأملات أخرى عن مدينة بات يشاهد تناقضا في وجودها، بعدما غادرت فطرتها لتبدو فاضحة جراء حالات تجميل مصطنع. مدينة ولدت من غرين نهر دجلة، وصارت تتأمل نفسها من خلال نصوص كُتبت من أجلها. لكنها لا تودّ أن تشيخ، مكتفية أبداً بشبابها الذي لا يذبل. يقول عنها آل سعيد “إنها في لحظة واحدة تحدثنا عن حاضرها وماضيها ومستقبلها معا، من دون أن تحدثنا. ذلك لأنها محمولة معنا في أرواحنا”. شكّل خطابه ذاك، المحتشد بالتورية مع لوحات سليم، اهتماماً تعهّد بتواصل اكتشافها وتذوقها عبر امتدادها التاريخي. استدعيت كرؤية قابلة على التمثيل البصري، وهي كذلك معنى في خطاب تأملي. لقد كان الفنانان يعلمان أن المدينة صنو الفن لا بد أن تعيش أبدا في الحاضر.
الحلم والعمارة والكولونيالية
على مدى تاريخها، منذ أن أنشأها الخليفة أبو جعفر المنصور (714 – 775) في العقد السادس من القرن الثامن الميلادي، عاشت بغداد زمنا مدينيا طويل الأمد. لقد سوّرها وأحاطها ببوابات أربع: خراسان، الكوفة، الشام، البصرة، عبرها خرجت إلى العالم والتاريخ. خلال دهورها تبوأت مكانة مهمة في العلم والفكر والأدب والسياسة والحضارة، كما تعدد مصيرها بين السلام والنكبات. لطالما أفل نجمها لتعود مرة أخرى تنبض بالحياة. زمنها الملتبس هذا، سوف يعتّق جوهرها ويجلو أجساد البشر وأرواحهم من ساكنيها، هؤلاء الذين سيعاودون بدورهم تأثيثها على ضوء آمالهم وقدراتهم وأحلامهم.
سمّاها المنصور “مدينة السلام” لأن دجلة كان يقال له وادي السلام. كأن اسمها جاء أشبه بالتحذير. إذ استباحها هولاكو عام 1258، فكفّت بعدها عن ان تكون عاصمة الخلافة العباسية بعدما دامت لها خمسة قرون. غزاها التتار عام 1400. سيطر عليها الصفويون عام 1509. عاد إليها الأتراك عام 1638، لتبقى تحت الحكم العثماني لمدة أربعة قرون، حتى مجيء البريطانيين ودخولهم إليها عام 1917، لتتعرض للدمار خلال حرب الخليج الثانية عام 1991. فيما حُرقت ونُهبت بعدما احتلّها الأميركيون عام 2003.
شغلت هذه المدينة حيزا في الذاكرة البشرية، عندما وُظّف مكانها كبعد مركزي متخيل للحكاية والسرد في قصص “ألف ليلة وليلة”، حيث لم يرغب راوي الحكايات العربية مغادرتها، فكانت الأحداث إما تبدأ منها وإما تنتهي إليها. قصص ساحرة، عجائبية وآسرة، جعلت من المدينة فضاء مشرعا مليئا بالمسرات والغرائب واللذائذ والسحر، بعد تحصّلها على أسباب الترف والنعيم والرفاهية. توقف القص عند قصورها وأسواقها وبساتينها وأزقتها، واصفاً الأخبار العجيبة للسلاطين، الملوك، التجار، المتصوفة، الشعراء، الجواري الجميلات، الغلمان، الصعاليك، الشطار، الندماء، الخلعاء، المغامرين، المحتالين وحتى الجن والعفاريت. حكايات عن العشق، الجنس، المغامرة، الدسائس، المكائد، الحيل، الجاه، السلطة، الثروة والانتقام. حلم بها الجميع مكانا رافلا بلذة العيش وملاذاً يبدد ثقل مأساتهم، غربتهم، حزنهم وفقرهم.
ما زالت تلك الحكايات لا تكتفي لكي تدل على بغداد المتخيلة، بل تحولت لتكون مرجعها الخالد. في شهر أيار من عام 1957، ألقى المعماري الأميركي فرانك لويد رابت (1869- 1959) محاضرة في جمعية المهندسين العراقيين، بعدما استقدمته الحكومة العراقية في ذلك الوقت لتصميم دار أوبرا في بغداد. ذكر رايت “أود أن اعترف أنني، بصفتي قارئا متحمسا لكتاب “ألف ليلة وليلة”، منذ طفولتي، أشعر بنفسي أنني من رعايا هارون الرشيد”. في كلمته هذه أوصى المعماريين العراقيين: “كونوا حذرين من أبنية طاغية ومهولة تشوه مدينتكم”. ودعاهم إلى أن يجعلوا الخصوصية الحضارية والإحساس الداخلي بالحياة أساساً لبناء العمارة، باعتبارهما الخاصيتين اللتين يجب تطويرهما والحفاظ عليهما في كل ما يشيّد في المستقبل، وإلا فالعمارة دونهما ستتحطم في سنين قليلة مقبلة.
تخلّى رايت عن طموحه في بناء أوبرا بغداد. ولم ينجح المعماري فالتر غروبيوس، الذي زار بغداد أيضا في ذلك العقد، إلا في انشاء احدى الوحدات التصميمية لمشروعه المتمثل في تصميم جامعة بغداد. فيما أكمل المعماري لوكوربوزيه تشييد القاعة الرياضية المغلقة في سبعينات القرن الماضي. لكن وحده مخطط المدن اليوناني قسطنطينوس دوكسيادس استطاع أن يكمل مشروعه العمراني فيها. تذكر المؤرخة والمعمارية ميشيل بروفيست في مقالتها “تخطيط المدن والصراع على العالم الثالث”، في مجلة “فكر وفن”، عدد 87، ان “الولايات المتحدة الاميركية كانت تنظّم باستمرار تدفق مخططي المدن والمعماريين نحو المناطق المهمة استراتيجيا، وتنظر الى ذلك بوصفه أداة فعالة في الحرب الباردة، فوضعت تصدير هندسة البناء وتخطيط المدن في خدمة الاستعمار الثقافي”. كان ثمة تحالف بين دوكسيادس ومؤسسة فورد، وقد تلقى منحا من مؤسسة روكفلر ومعهد كارنيجي. كان الامر يتم بمزاعم تحقيق الحرية والتقدم لغرض كسب ولاء العالم الثالث.
صمم مكتب دوكاسيادس مشروع “مدينة الثورة” بعد ثورة 1958، التي سميت بعد ذلك “مدينة صدام” وتسمى الآن “مدينة الصدر”، مع مشاريع أخرى صوب الكرخ. كان نموذجه العمراني يتمثل في تصاميم جاهزة لمساكن وأحياء لاستيعاب النمو المتزايد من النازحين من الفقراء والفلاحين إلى بغداد، والذين كانوا قد شكلوا حولها طوقا أشبه بحزام فقر. لم يكن التحديث الذي مارسه وفق الذخيرة التاريخية للمدينة والهوية الثقافية لها، بل جاء عبر تطويق مركزها التاريخي بوحدات سكنية نمطية، مكررة، مؤلفة من طبقة واحدة أو طبقتين، خالية من الذوق المعماري إلا بوجود لمسات محلية متواضعة، وقد شكلت تاليا مناطق عازلة باتت أشبه بالغيتوات المزدحمة، تحت منظومة طرق وشوارع ضيقة ومغلقة وملحقة بمرافق عامة شديدة التواضع.
لم تكن الافكار والايديولوجيات والانسان من واجهات ما سمّي بالحرب الباردة. كانت العمارة وتخطيط المدن، كذلك، من العمليات الثقافية التي تمت ادارتها والنزاع من اجلها بين المعسكرين الغربي والشرقي.
ارتبط التوسع العمراني في بغداد بامتدادها الأفقي وليس العمودي، حيث شهدت منذ خمسينات القرن المنصرم توسعا يلتهم ما يحيطها من ارض خضراء وأمكنة لتجمعات صغيرة. تحوّلٌ انطوى على إحداث علاقات مختلفة ومربكة في بعدها الاجتماعي والسياسي والثقافي، وخصوصاً بعد تواصل هجرة سكان الريف إليها، بسبب الثورات والفقر والعوز. بغداد أصبحت هي كل شيء، من المؤسسة إلى التجارة، ومن التعليم إلى فرص العمل، فيما كانت المدن العراقية الأخرى ترزح تحت ظل هامشيتها. تحولات سواء كانت لينة أو حادة حينا، هادئة أو صاخبة حينا آخر، دمغت واقع المدينة بأحداثها الصادمة.
بغداد من تلك المدن التي تتيح التنقل، في المكان الواحد، بين حقب تاريخية عديدة، اذ يندرج فيها اختلاف لافت للزمن. لكن منذ تحديثها أثناء العقود الماضية، وجدت نفسها أمام حلول معمارية إلزامية مع غياب لتصاميم موجهة تفترض التوافق بين مظهرها التاريخي ورغبتها في التطلع إلى الحداثة. لطالما خضع مشهدها العمراني لخيار القرار السياسي كسلطة وقوة، وليس لخيار القرار المديني بوصفه اجتماعاً وتحضراً، وخصوصاً في العقد الثمانيني حينما طغى عليها نمط عمارة شعبوية وخيلائية. كان عمرانها باعتبارها مدينة مدورة، قد امتد إلى جميع الجهات، فيما كان قلبها التاريخي منعزلا وبعيدا عن كل محاولة احيائية. لقد ظلت كيانا محاصرا بأطروحات معمارية، عابرة للهوية، تعاينها جسداً وظيفياً ومادياً يمكن تزيينه بمكتسبات الأسلوب العالمي والتحليلات الفولكلورية. أمام واجهات التحديث تلك، كان ثمة تفاوت يتسع مداه بين نموها وتقدمها المادي وبين محدودية تطورها الاجتماعي والحضري.
نبوءة القادمين الجدد
ما عادت بغداد بعد عام 2003 مكانا متعدد الأغراض، يثير بألفته خيال الحكاية وتعبيرية الفن أو حتى تفاؤل العمارة. لقد باتت أشبه بموضوع محيّر وعنيف يثير الريبة، تتمثله الصورة عبر وسائل الاعلام المرئي كمشهد اكتفى بعدد القتلى الجدد ومظاهر الخراب الكالحة. فالكثير من مبانيها لا يزال مدمراً، بل يمكن مشاهدة آثار الرصاص على وجهات البيوت والعمارات التي شهدت مناطقها عنفا مسلحا. لقد غادرت هذه المدينة الحرب، لكن لم تغادر هولها. فهي ما عادت تطل على احد، الا على نفسها، محتجبةً خلف اسوار من دعامات كونكريتية ونقاط تفتيش واسلاك شائكة. هذا هو ملمحها المعاصر.
حاضر لم يتوقعه الجميع، لا ذكريات الماضي القريب، لا حوارات البغداديين في ما بينهم، لا أحداث تجاربهم اليومية السابقة، لا نبوءات الجدات في حكاياتهن، لا دعاء الضحايا للخلاص من العذاب، لا أمنيات القصائد في تخيل شكل الحرية المقبلة. ما حدث كان أمراً غامضاً وخفياً، مثل أي مصير غير متوقع لم يلحظ قدومه أحد.
مدينة صامتة لا تقوم بأي شيء، بل تكاد تشبه حريتها الغريبة، الخاوية من شرط الامتلاء الانساني، والتي لا تكفل البقاء لأحد. وهي منسية تسكنها الذكريات البعيدة، فيما تحاور الآخرين من خلال حالتها الغائبة. مدينة ليس لها إلا أن تسوّغ وجودها هذا بكونها مرئية في صور تدلّ دائما على واقع فاجع وحضور حزين. نبوءة هي ذاتها شهادة عن قدر.
سؤال أخير
تطرح عليَّ تلك الصور الباهتة بالأسود والأبيض سؤالاً ليس في مقدوري الاجابة عنه: هل حقا في إمكان الصورة أن تكون ضرباً من تعويض الخسائر؟ ¶
عن ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى