سورية بين سقف وحضيض !.
د.نصر حسن
لعل محددات الصورة التي تظهر فيها سورية اليوم , قد تعدت مألوف المعارضة والنظام ,وباتت في حالة مجهولة تجاوزت عجز الاثنين معاً , يتحكم فيها بشكل كامل عاملان اثنان , الأول هو تطورات سياق الوضع اليومي للشعب السوري بتجلياته الأمنية والمعيشية التي تنبئ بثورة الجياع أمام شراسة الضباع ,
والثاني هو عامل الضغوط الدولية وزكزاكيتها التي تهز حيناً وتخلخل حيناً حسب تواتر عشوائي , ومن نافل القول الإشارة إلى قلة حيلة وضعف وسيلة الموقف العربي من النظام ودوره في سورية وخارجها وعقده وتعقيداته الداخلية والإقليمية والدولية , والحال كذلك يشي أن المنهجية السائدة إن وجدت على مستوى المعارضة قد ارتطمت بالحائط ووصلت إلى طريق مسدود , وخاصةً مع وضع داخلي تجاوز السياسة ودخل مرحلة الانفجار , فبدل أن تفكر في خيارات الشعب والواقع العملي الذي يغلي على أكثر من مرجل , راحت تعيد تجميع العقد في محاولة لإعادة إنتاج عقد أكبر , هاربةً من عجزها وخوائها وعدميتها إلى حالة من خلط النقائض البعيدة والمعزولة عن واقع المواطنين اللذين تعصف بهم رياح متعددة الاتجاهات , باختصار القول ومباشرته ,المعارضة أصبحت على حافة افتراق كبير مع واقع الشعب السوري, ميدانياً فكرياً سياسياً اقتصادياً أهلياً وزمنياً !.
ما هي يا ترى الأسباب والدوافع المخفية والمبطنة والمعلنة وراء ذلك؟! وما هي بذور وجذور وامتدادات الأزمة التي أصبحت مأزق ؟! مرةً أخرى يتكرر السؤال الذي يهرب منه كل أطراف المعارضة , ماذا سينتج الانتظار ؟!, وهل انعدمت مقاربات الخروج من المأزق ؟!أم أن الجميع استسلم للسلام بريشه ومصالحه , وأصبح الشعب أعزلاً بدون ريش وببرد الشتاء والقمع والمعاناة والمجهول ؟!.
فليس خافياً على أحد من العاملين بالشأن السوري, أن وضع المعارضة والنظام قد أشبعا وصفاً وشعراً ونثراًعلى المستوى النظري والسياسي , وأكثر منه تفككاً على المستوى التنظيمي بما يسهل عملية تداعيها ذاتياً أو إجهاضها من قبل النظام باستمرار في أي هزة , والأمل هو في بوادر إنتاج صيغ جديدة من العمل المعارض على مستوى الداخل , أكثر جذرية في الفترة الأخيرة التي تلت الاعتقالات في صفوف إعلان دمشق ,والذي اشتركت أطراف المعارضة الخارجية بالموقف مع النظام صدفةً أو خلافها في إضعاف إعلان دمشق وتطويقه وقتياً , وكرد على العجزين بدأت بعض مؤشرات عمل ميداني أكثر براغماتية ,وأكثر كفاءة وأكثر مؤسساتية في رصد مؤشرات الواقع ,وابتكار صيغ جديدة للتعامل معه, والاستمرار في عملية التغيير الديمقراطي السلمي التدريجي في سورية.
وليس خافياً على أحد من أطراف المعارضة الخارجية بنيتها الفكرية وحجمها التنظيمي ودورها السياسي , وتكرار خطابها الوطني والسياسي المبهم الموجه للخارج والداخل معاً , وبالتالي ضعف قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث اليومية على مستوى الداخل , وكأنها في محاولة لرصف وجودها مع المعروضات , وكل هدفها إثبات وجودها على الساحة الإقليمية والخارجية لمرحلة ما بعد التغيير ! ,كما تحلم وتتفلسف وتضع خطوط وجداول وتتكهن بساعة الصفر والرجوع من المنفى ! أو لمحاولة تثبيت نفسها والبحث عن مقعدها التمثيلي في أي مستجدات على مستوى العلاقة مع النظام أو مع المجتمع الدولي ,هنا يجب القول بصريح العبارة : أن دورها نظرياً عدمياً مفككاً ومتهالكاً, وحتى في مسرحيته يبدو قاصراً في أدائه دور التشريفات السياسية أو الأهلية لحفلة ما وشيكة في سورية !.
وليس خافياً أيضاً تركيبة أطراف المعارضة السورية وخطابها في الخارج , وغالبيتها تحتمي ظاهراً بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحوار وقبول الآخر , و” طنَبت ” عباآتها بهذه البضاعة السياسية المستنسخة , وباطناً وهو الأهم الذي يمثل أبعاد المأزق الحقيقي لأزمة المعارضة والمحددة في أزمة ثقة وطنية أهلية سياسية بين أطرافها كلها , وبشكل خاص على مستوى الأطراف التي تتظاهر سطحياً بالسياسة , لكنها في العمق غارقة في قبليتها , أي أن عمق المأزق هو في بنيتها الاهلية التي تفرض عليها شكل التحرك ووسيلته وزمنه ومفرداته وتحالفاته وصداقاته وخصوماته , أزمة ثقة مغلفة بالخداع والمناورة وعدم القدرة على ممارسة الشفافية وغياب الجرأة في خياراتها الوطنية , وبالتالي عجزها في تحليل محددات الأزمة بشكل صريح وواضح , يساعدها على تجاوز مرحلة الشك التي كبلت حركتها وأضعفتها ومنعتها من ابتكار صيغ جديدة , وأخيراً حصرتها في عجزها وترهلها وشكوكها وضعف مصداقيتها وبعدها الكبير عن معاناة الشعب السوري .
هنا يفرض السؤال نفسه مرةً أخرى , لماذا لم يتمكن أطرافها من الحوار الصريح الشفاف العلني ؟! ولماذا تصر على حصر الحوار خفيةً تحت الطاولة ؟! وهل حصل حوار بين أطراف المعارضة الخارجية إذا صحت التسمية ,أم بقي كل في مكانه ؟! في مكانه أو في كهفه يصيح ويجادل ويقيس الوطنية والديمقراطية والشرف والأخلاق لدى الطرف الآخر! ولم تستطع أطرافها مغادرة الحالة تلك لأنها غاصت في وحل مواقفها الذاتية المتمترسة في تسفيه الآخر وحتى تخوينه , وبالتالي لم تستطع أن تشتق معادلات وأطر سياسية جديدة لتفاعلها وتكاملها ؟ فما الذي يدفع طاغية نهب ثروة الوطن وارتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان مثل رفعت أسد إلى تعديل إنسانيته ومواقفه وتلطيف عصبيته بخصوص الوضع الوطني والطائفي في سورية ؟! وما الذي يفسر هذا الحنين والاصطفاف المفاجئ بين أعداء الأمس ؟! وما سر استعارة خطاب النظام وترداده وتجميله قليلاً بحقوق الإنسان واحترام الآخر ؟! رغم أن كل علاقاتها مع بعضها غير محترمة وغير واضحة وغير شفافة, وغير مؤسسة على مطلب وطني ديمقراطي أصيل , أهي وحدها الانتهازية السياسية تفسر تلك الاصطفافات التي تمت والإصطفافات التي سوف تتم بين أعداء الأمس واليوم والمخفي أعظم؟!.
فلماذا تسوَق بعض أطراف المعارضة نفسها إلى ساحة الخصم وملابساتها الوطنية وتدخل حرام الفتنة من جديد ؟! ألنقل الصراعات هذه المرة من مستوى وطني وأخلاقي وإنساني وسياسي ,إلى مستوى صراع المصالح الفردية والصفقات والرهانات المتبادلة , وحصر الشعب في خيارات الماضي المشوبة بالبراءة والجريمة ؟!.
إن المخاوف التي تنتج عن مثل هذا الوضع تنذر بخطر حقيقي على ماتبقى من وحدة المعارضة , لأن المتخاصمين وأمام حالة عجزهم عن التجاوب مع مصالح الشعب والاقتراب منها , يقترب كل منهم أكثر نحو خصمه اللدود, ورويداً رويداً يدخل لعبته ويخضع لمنطقه وقواعده , وبشكل خاص إذا كانا يشتركان ببنية وتاريخ متماثل , ويصبح شأنهم شأن النائمين في فراش واحد وبغطاء واحد وكل منهم يسحبه باتجاهه, ويتوهمون بأن هذا هو غطاء الخلاص والوطنية والشرعية والأخلاق وضمان المصالح , إنه غطاء الممارسات المشبوهة والعورات المكشوفة والمشاركات والأدوار المعروفة !.
بقي أن نقول أن جمع العجز ينتج عجزاً أكبر وفشلاً أخطر , وأن تراصف صور الماضي يفضي إلى الشك والحذر من تلاقي الأطراف المتخاصمة فيما بينها على الضلال , والتي لايهمها واقع الشعب السوري ومصالحه , والحذر الشديد من التآلف معها وتعميم حالة الاستقطاب المشبوه لإجهاض الخيارات الفكرية والسياسية الديمقراطية الفعلية , والالتفاف على الحوار والتكامل ,إلى تبادل الصفقات والمصالح الفردية على حساب مصالح الشعب ومعاناته التي أصبحت جراباً يسع جرائم كل الطغاة والفاسدين والمتهالكين أمام متعتهم الذاتية وبؤس شعبهم .
فهل قدر المعارضة والشعب السوري أن يكون حضيض رفعت ومن معه والقمع هو سقفها ؟!.
حماه وسورية اليوم هي في شباط رفعت أسد المشؤوم لمن نسي أو يتناسى , والشعب السوري الذي أرجعوه إلى واقع الثمانينات بطوابيره وسجونه , يريد وطنياً حسم فاتورة شباط اللعين الماضي المعلقة إلى الآن وعدم تكرارها من جديد , وهو وحده مخول بتوزيع النياشين والأحكام على الوطنيين من سواهم , وصكوك البراءة على البريئين ومراسيم الإدانة على الظالمين !. أين مصلحة الوطن وحقوق الإنسان التي أتخمتم الشعب فيها ؟ ! رفعت أسد لوحده يعادل فرع أمني كما يقول ماضيه وحاضره , بل قطيع من الضباع ! فإلى أين أنتم ذاهبون ؟!.
خاص – صفحات سورية –