التعالم في زمن الانحطاط
يذهب حسين مروة مذهب الشاعر ميشال طراد في الاستياء من تدخل «الغريب» في شؤون لبنان بحسب مقالة كتبها مروة في العام 1964 عن ديوان طراد «ليش». كان ذلك زمنا سبق انقلاب الغريب غريبا والشيوعي قوميا عربيا. وما كاد يمضي عقد من السنوات على نشر المقالة تلك، حتى كان مروة وطراد في خندقين متحاربين شكّل «الغريب» والعلاقة به سببا رئيسا من أسباب الاقتتال والتناحر.
والغريب الذي تواطأ طراد ومروة (الذي أعاد نشر مقالته في كتابه «دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي») على التشكيك في نواياه حيال لبنان، لم يكن في ذهن الشاعر وناقده، واحدا على الأرجح بل متعددا بتعدد «الغرباء» الذين قصدوا التأثير في سياسة لبنان في النصف الاول من الستينيات. ولعله ليس نادرا ذلك التلاقي بين وعي غارق في انغلاقه القروي ووعي مشدود الى صراعات عالمية كبرى، على ما يبدو من وعي كل من طراد ومروة، على التنديد بدخول قوى جديدة تحمل بين ما تحمل تخريبا لقوانين العلاقة الأهلية وصراعها «الطبقي» الصافي. وقضايا من مثل القضية الفلسطينية والتنافس الناصري ـ السعودي وغيرها، مثلت مصدر ضيق لأصحاب منطقين، محلي وأممي، لم يكن في وسعهما سوى الاعتراض على عواصف تحمل الاضطراب الى رؤيتهما المتناسقة لبلدهما الصغير وللعالم من حوله.
غير أن تحديد هوية الغريب في هذا المجال، لا تتسم بأهمية تذكر طالما ان الاتفاق بين اللبنانيين طراد ومروة، على التحذير من شروره، انقضى بعد أعوام قليلة عندما أصبح الغريب عنصرا حاضرا في السياسات اليومية اللبنانية وعندما صار الحكم على وطنية أو لا وطنية اللبنانيين يمر من خلال موقف كل واحد منهم، من «الغريب». وقد أحكم «الغريب» حصاره على ايديولوجيا لبنانوية تزعم التعالي عن صراعات تحف بها من كل صوب، إحكامه على ماركسوية تعجز عجزا بينا عن الاعتراف بأنواع «زائفة» من الوعي تجعل السياسة في لبنان ومنطقته محصورة بالأقوام والعشائر والطوائف وما يدخل في بابها من صنوف الانقسام ما دون المجتمعي. عالجت تلك الماركسوية نفسها «بالنقد الذاتي» لتكتشف أنها تنطوي على عناصر قومية عربية لم تعطها حقها، فكان للعثور على الحقيقة القومية في صلب الشيوعية اللبنانية، شأن في الاعوام التي شهدت الإعداد للحرب الأهلية (السابقة).
خرج طراد ومروة ومن ورائهما أحزاب وطنية وطائفية، من التواطؤ على العداء لـ«الغريب» الغامض، بمنحه وبمنح مشروعه هوية صريحة استمدا معناها من انقسامهما وانقسام «لبنانيهما» حيال الغريب، ليس بصفته فلسطينياً أو سورياً أو اسرائيلياً، بل بصفته عنصرا من عناصر الفرز في مكونات الوطنية اللبنانية التي يستحيل الحفاظ عليها بمجرد اقتراب أي عنصر خارجي من خطوط المصالح المحلية المختلفة. ليس «الغريب» واحدا متجانس النظرة الى لبنان. بل هو الرمز الذي يحمله اللبنانيون حمولات صراعاتهم. ويقال انه لا يصح النظر الى المحن التي جلبتها الى لبنان أفواج من المقاتلين واللاجئين والموفدين، إلا في سياق تعدد المجالات التي يتيحها اللبنانيون أمام «الغريب» ليشغلها.
ما يقدمه مثال لقاء وافتراق مروة وطراد بشأن «الغريب»، جدير بالاهتمام، برغم انه عينة واحدة على أنواع من لقاءات وافتراقات كثيرة في طول الحياة الثقافية والسياسية اللبنانية وعرضها. فعندما كان الكلام عاما ومجردا، لم يجد مروة بأسا من مساندة طراد في شكوكه وشكواه. لكن المشكلة ظهرت عندما انتقل الكلام الى حيز التفصيل أو «الواقع الملموس». الحيز الذي يفترض أن يكتسي فيه المفهوم المجرد لحما ودما ويصبح بشرا يسيرون على أقدام في شوارع ومدن بعينها. ويضفون أثرهم على قرارات محددة ويقيمون قواعد عسكرية على التلال في قرى يقطنها أناس يرون أن لهم مصلحة في مساندة الغريب أو أن مصالحهم لا تستقيم بوجوده….
بعض النقاش الدائر اليوم يريد رواده السير في الاتجاه المعاكس. يريدون إثارة المشكلات على المصطلحات الكبرى (ولا نقول «مفاهيم» حيث لا تقارب إدراكاتهم هذا القدر من التجريد). يفرض هؤلاء اليوم خلافا حول الامبريالية والخيانة والعمالة وحرية التعبير والشرف. بل يقود البعض الجدال في اتجاه «القدرة» أو انعدامها على شن حرب أهلية. والقادر على شن حرب وتحمل صروفها، هو، في ذهن القائل، صنو الرجولة وهذه ليست أكثر من مرادف الفحولة، عميمة الاحترام في قيم البداوة والقبيلة، الى جانب قيمة الثأر. تشير الاولى الى القدرة على استزراع الحياة والثانية الى نشر الموت، في ثنائية أرهقت بذاتها وبمشتقاتها، العقل القَبَلي المهيمن.
لا يفصح البحث عن معنى للخلافات الصاخبة سوى عن حرب أهلية تدور في أذهان مفتعلي هذا الضجيج الذين يخفقون في ملاحظة التدرجات الطفيفة في المعطى السياسي والثقافي. واذا جاز التعبير، يمكن القول ان شعيرات الذوق على ألسنتهم لا تميز سوى ألوان الطعام فاقعة الحلاوة أو الحموضة أو الدسم. هكذا أدمغتهم، لا ترى سوى الالوان الطاغية من دون أن تتمكن من مراقبة تفاصيل الخطوط وتعرجاتها وظلالها الرقيقة. وربما ليس من المبالغة في شيء القول ان الفارق بين أدنى المخلوقات وأرقاها يكمن، تحديدا، في قدرتها على ملاحظة الفروقات بين الأشياء موضوع النظر، وفهم دلالاتها.
لعل هذا التوحش في الرؤية وفي التعبير لا يستحق التفاتة في أيام أخرى. لكنه يترافق مع دفع محموم نحو صدام عنيف، يشكل الأول السند «الفكري» للثاني. جلافة وفظاظة في النظر الى معطيات الواقع تشجع على الجلافة في التعامل معها. ولا يعود العنف المادي في الحال هذه سوى تتمة لما مهد له كتاب كانوا يدافعون عن «حقيقتهم» في وجه «الوهابيين» و«الليبراليين» وغيرهم ممن لا يحوز أبسط الصفات الإنسانية، وهي الصفات الحريصة على التمييز الدقيق بين الحقوق والواجبات، ومن بداهات الحقوق الحق في الاختلاف، حتى الجذري منه ورفض الاعتراف بقدرة أي كان على امتلاك الحق العجائبي في إقناع الآخر وكسبه الى جانب القضية الصائبة أخلاقيا أو سياسيا.
والمجال لا يتسع ههنا لتفحص بواعث هذه الآفة المستشرية ومنابتها الاولى، لكن من المهم التشديد على ارتباطها ارتباطا وثيقا بما يحيط بأوجه الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية من انحطاط شنيع. وليس أبرز في علامات الانحطاط من علامة التعالم التافه التي يرميها بعض جهلة هذا الزمان، وهم الاولى بمن يتعالم عليهم. لكن هذا الزمان كأهله … وأهله كما ترى.
السفير