التجربة التشيكية في التحوّل الديموقراطي
حققت التجربة التشيكية في التحول الديموقراطي نجاحاً على مستويين، الأول على مستوى التحول الآمن من عهد تجربة الحزب الواحد الشمولي إلى الديموقراطية التعددية، والثاني على مستوى الانفصال “السلس” عن سلوفاكيا من دون المرور بحروب عرقية أو أثنية كما حصل مع يوغسلافيا السابقة.
ولذلك تعد دراسة هذه التجربة مهمة على الصعيد النظري على مستوى دراسات التحول الديموقراطي، وعلى الصعيد العملي من حيث تقييم التجربة وملاحظة أخطائها والاستفادة من خبراتها ـ وهو ما يحاول كتاب “التجربة التشيكية: عملية التحول” تقديمه، وقد صدر بعدة لغات منها العربية، وعن منظمة Peple in Need التشيكية، وقد كتب بأقلام سياسيين وناشطين شاركوا في عملية التحول بعد عام 1989، وباحثين وأساتذة جامعيين واقتصاديين ومحامين راقبوا التجربة ورصدوا نجاحاتها وإخفاقاتها على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والأمنية والإعلامية والصحية وغير ذلك من قضايا السياسة المحلية والنقابات.
من المعلوم أن سبحة التحول الديموقراطي في دول أوروبا الشرقية بدأت في بولندا منذ عام 1988 حيث لعبت منظمة “تضامن” دوراً فعالاً في هذا التحول، ثم المجر، فألمانيا الشرقية ثم تشيكوسلوفاكيا. حيث تحولت المظاهرة الطلابية السلمية في 17 تشرين الثاني 1989 في براغ والتي تم قمعها بشكل قاسٍ من قبل وحدات الشرطة، إلى ما يشبه الزناد الذي أطلق الأحداث الثورية. فبعد تدخل الشرطة قام طلاب الجامعات بالاتصال بالمثقفين والفنانين ومن ثم عملوا على تشكيل أول بؤرة نشطة لحركة الشغب المدني. وولدت حركة الإضراب وبعد ذلك بيومين نشأ المنتدى المدني في براغ كحركة سياسية تضم المجموعات المعارضة.
إن المقاومة ضد النظام الشمولي تقودها عادة الأقلية في المجتمع. لكن هذه الأقلية تكون قادرة على جذب واستقطاب المزيد من الناس خلال مشروع إضعاف الديكتاتورية. وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح في تشيكوسلوفاكيا عندما ارتفع خلال الثمانينات عدد الأشخاص الذين كانوا مستعدين للتوقيع على أي عريضة أو دعوة أو احتجاج ضد عمليات المحاكمات وما شابه ذلك. وكذلك ارتفع عدد الأشخاص المستعدين للمشاركة في المظاهرات بشكل مباشر.
إن للأعمال الاحتجاجية ضد النظام أمل أكبر بالنجاح في حال اعتمدت على الأحداث المحلية أو التقاليد المحلية، وليس على الرموز المجردة غير المعروفة إلا لدائرة صغيرة من الناس كفئة المثقفين.
فعلى سبيل المثال أرادت حركة ميثاق 77 تنظيم مظاهرة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول في عام 1987 في براغ، لكن هذه المناسبة لم تعنِ شيئاً لمعظم مواطني تشيكوسلوفاكيا، ولذلك لم يأتِ منهم إلا عدد ضئيل للمشاركة في المظاهرة برغم الدعوات الكثيرة التي وزعتها الحركة عبر مطبوعاتها السرية والإذاعات الأجنبية. مقابل ذلك شارك عشرات الآلاف من المواطنين في المظاهرة التي نظمت في براغ خلال شهر تشرين الأول عام 1988 بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس تشيكوسلوفاكيا.
بعد ذلك اتحدت المعارضة في ما أطلق عليه المنتدى المدني، الذي هدف إلى إقامة الحوار مع السلطة الحاكمة حول فرض عمليتي التحرير والديموقراطية في تشيكوسلوفاكيا، وتحت تأثير الضغط القوي للشارع والساحات الممتلئة والتي بلغت ذروتها في الإضراب العام الذي تم إعلانه في 27 تشرين الثاني أطلقت السلطة الشيوعية ممثلة برئيس الحكومة جولة المحادثات مع المعارضة.
النتيجة الأولى للمحادثات كانت الموافقة على تنفيذ أول خطوات ليبرالية: إطلاق سراح الأسرى السياسيين، إزالة الفقرات من الدستور التي تنص على منح الحزب الشيوعي الدور القيادي في المجتمع، وعلى حصر النشاط السياسي ضمن إطار الجبهة الوطنية، وتشريع نشاط الحركات والمجموعات المعارضة، والسماح لها بالعمل في وسائل الإعلام. وطالب المنتدى المدني بإجراء تعديلات جذرية في هيكلية وبرنامج الحكومة، لكنهما لم يكونا راغبين بالمشاركة في هذا المشروع، ولم يكونا راغبين باستلام السلطة أو على الأقل المساهمة فيها.
تحت الضغط الشعبي استقال الرئيس الشيوعي غوستاف هوساك في العاشر من كانون الأول وأعلن المنتدى الوطني وحركة الشعب ضد العنف بأن مرشحهما المشترك لرئاسة الجمهورية هو فاتسلاف هافل.
رفض الحزب الشيوعي هذا الترشيح، كما أن الأحزاب السلوفاكية كانت تطالب بألكسندر دوبتشيك رمز العام 1968 رئيساً. فجرت محادثات ماراثونية بينهما بصفتهما مرشحين حول ما يسمى الطاولة المستديرة، وانتخب في النهاية دوبتشيك رئيساً للبرلمان الفيدرالي وهافل رئيساً لتشيكوسلوفاكيا.
وتسارع التطور اللاحق بعد ذلك، فقد انهارت سلطة الحزب الشيوعي بصفته الطرف المهيمن سياسياً بسبب إزالة فقرات الدستور الخاصة بالدور القيادي له في المجتمع والدولة. وبسبب السيطرة على المواقع الهامة والمفصلية في الوزارات والبرلمان الفيدرالي، وتلاحقت بعد ذلك التغييرات بشكل متسارع.
أولى تحديات المرحلة الجديدة كانت طريقة التعامل مع الماضي فقد صادق البرلمان على قانون حول التعويض القانوني، فألغى جميع الأحكام الظالمة وسمح بتعويض ضحايا القمع الشيوعي، لكم من دون أن يصف النظام الشيوعي بالنظام المجرم أو غير القانوني. وهو ما شكل المادة الرئيسية للنقاش العاصف في سنوات ما بعد التحول.
أما في ما يتعلق بالمسألة الاقتصادية، فقد كان الخلاف الرئيسي حول كيفية إجراء عملية الخصخصة، كما طرحت مسألة إعادة الممتلكات كأحد أساليب عملية الخصخصة باعتبار أنها ستساهم أيضاً بالتخفيف ولو جزئياً من وطأة الغبن والجرائم التي ارتكبتها الدولة الشيوعية بعد العام 1948. وعموماً فإنه خلافاً لجنوب أفريقيا أو دول أميركا اللاتينية لا توجد في دول وسط أوروبا أي اتفاقية سياسية أو إجماع عام يضمن عدم ملاحقة ممثلي النظام الشيوعي السابق قانونياً أو ينفذ سياسة المصالحة.
لقد طبقت دول وسط أوروبا عموماً سياسة جزائية تجاه الجرائم السياسية، لكن هذه السياسة بدت في كثير من القضايا الفردية معقدة وأحياناً غير ممكنة من الناحية التقنية، وقد كان الفشل المؤسساتي وعدم رغبة قسم من القضاة وممثلي الدولة بملاحقة جرائم الماضي، من الظواهر المألوفة في التسعينيات من القرن العشرين.
لكن مسألة الوحدة بين التشيك وسلوفاكيا لم تدم طويلاً بعد التحول فقد قرر البرلمان تقسيم تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين مستقلتين. لقد كانت النخبة السياسية الديموقراطية تعتبر مسألة الحفاظ على الدولة من ضمن أولوياتها نظراً لاعتبارها تراثاً تاريخياً، ولذلك عد الانهيار بمثابة الفشل الأبرز لعملية التحول. ولكن، من جهة أخرى فإن عملية التقسيم تمت بهدوء وسرعة وتنظيم، وهذا ـ مقارنة بالتصفية الدموية للحسابات في دول الاتحاد السوفياتي السابق ويوغوسلافيا ـ يعتبر مؤشراً ناجحاً للغاية.
لكن التحدي الرئيسي بالنسبة للمجتمع التشيكي هو مسألة تناقض الأجيال المتوقعة وما سينتج عنها من نقاش حاد حول عدم القدرة على التعامل مع الماضي. فقد سيطرت في التوجه السياسي الخارجي إرادة الانضمام إلى الحضارة الأوروأطلسية والتي تم التوصل إليها في النهاية عبر انضمام الجمهورية التشيكية إلى حلف شمال الأطلسي ولاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي.
(*) باحث في معهد الولايات المتحدة للسلام (USIP) ـ واشنطن
المستقبل – الثلاثاء 12 شباط 2008