صفحات أخرى

الانتخابات الأميركية من منظور عربي

null

رضوان زيادة

لم اقض وقتاً في مراقبة انتخابات ما كما أفعل اليوم في مراقبة الانتخابات التمهيدية الأميركية، فمتابعة قنوات التلفزة الأميركية (CNN و FX و ABC) جعلتني أتسمر أمام الشاشة حتى ما بعد منتصف الليل لأعرف من سيكون الفائز في هذه الانتخابات بين مرشحي الحزب الديموقراطي وهي المنافسة الاكثر إثارة أو بين مرشحي الحزب الجمهوري حيث يبدو التنافس مكرراً بعض الشيء.

ولا يعود هذا الشغف فقط الى معنى الاكتشاف الجديد بقدر ما يعود إلى مراقبة العملية السياسية والإعلامية وبالتالي الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع الأميركي اليوم. فمن غير شك تتصف الانتخابات بكونها تاريخية لجهة المنافسة بين مرشح أميركي من اصول افريقية لأول مرة، وبين سيدة مرشحة لرئاسة الولايات المتحدة للمرة الأولى أيضاً، كما تنحصر المنافسة بين ثلاثة أعضاء من مجلس الشيوخ وذلك للمرة الاولى منذ خمسينيات القرن الماضي.

يستطيع المراقب أن يسجل الكثير من الانطباعات والملاحظات لكنني سأكتفي هنا بما يحمل شيئاً جديداً بالنسبة الى العربي الآتي من عالم قلما يشهد أو نادراً ما شهد منافسة رئاسية مماثلة، وهي انطباعات ليس هدفها المقارنة فذلك برأيي مستحيل لعدم الاستواء العلمي في المقارنة بين بلد تطور قانونياً ومؤسساتياً وبين بلاد ما زالت تعيش حالاً من الممانعة السياسية في وجه التغيير وتتراكم فيها الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن هذه المراقبة قد تكون مفيدة لنا بحق في البحث عن الطرق الأمثل لتجاوز أزماتنا.

فعلى سبيل المثال فإن من بين المتنافسين الجديين باراك أوباما ذو الأصل الأسود وميت رومني الذي ينتمي إلى طائفة المورمون، فعلى رغم انتماءات المرشحين فإنها لم تشكل عائقاً امامهم دون مناقشة الموضوع بشكل علني وواضح، وهو امر غريب بالنسبة الينا، فقد تعودنا أن أفضل حل للمشكلة هو إخفاؤها، فالطائفية لدينا مشكلة وعقبة حقيقية لكننا لا نقاربها ونحاول قدر استطاعتنا مجاوزتها رغم إيماننا بأنها تشكل مركز التفكير السياسي والاجتماعي للكثير من الفئات الاجتماعية بيننا. هنا تجري معالجتها بصراحة وذكرها بشكل مباشر لكن يأتي دور النخبة السياسية لضبطها بحيث لا يجري استخدامها أبداً في النشاط السياسي.

فباراك اوباما وهيلاري كلينتون صرحا في مناظرتهما وبشكلٍ مباشر أن الاول لا يود أن ينتخبه الأميركيون لأنه أسود بل لأنه المرشح الأفضل لأميركا، وكلينتون كررت الآمر ذاته في ما يتعلق بجنسها. وحتى حينما حاول زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون حصر أوباما في هذا المربع بعد انتخابات ساوث كارولينا فإنه وجد رداً قوياً من النخبة السياسية في الحزب الديموقراطي. ما قصدت قوله أن انتماء المرشح يناقش بشكل واضح لدرجة أنه في كل ولاية تحسب نسبة المصوتين السود والذين يتوقع أن يؤيدوا أوباما وتستضيف قنوات التلفزة زعماء السود الذين يعبرون عن دعمهم للمرشح الأسود والبعض الآخر يرغب في رؤيته رئيساً لكل أميركا وليس للسود فقط. لكن النخبة السياسية تدير المسألة بحكمة وحذر كي لا تسقط إلى مستوى التصنيف العرقي مما يترك مفاعيل مدمرة على المجتمع. إنها مقاربة لطريقة معالجة النخبة لدينا للمسألة الطائفية على سبيل المثال، فهي إما تنكرها وتتجاهل وجودها أو تستثيرها من أجل الإفادة منها سياسياً وهو ما سيترك مفاعيله على المجتمع بأكمله.

الملاحظة الأخرى تتعلق بالمجهود المضني الذي على المرشح أن يبذله للحصول على دعم حزبه على مستوى الولايات كلها. إنها عملية مرهقة للغاية تستمر على مدى عام كامل وتحتاج إلى طيران دائم عبر الولايات التي تفصل بينها مسافات شاسعة، فضلاً عن الوقت الذي على المرشح أن يصرفه مع الناس العاديين ليحصل على دعمهم. اذكر فقط تقريراً عن هيلاري كلينتون التي شعرت أنها ستخسر في انتخابات نيوهامشاير فبذلت جهداً إضافياً، فقد جلست في أحد المقاهي العادية لتلتقي بسكان الولاية هناك واستمعت منهم إلى مئة سؤال حول خطتها للتأمين الصحي والضرائب وما ستفعله للولاية وما ستقوم به بالنسبة الى العراق وغير ذلك. كانت أسئلة صعبة للغاية والأهم أنها استمعت إلى مئة سؤال وأجابت عليها. لنتخيل الزمن والجهد الذي صرفته في كل ذلك. بالتأكيد لا تمكن المقارنة بينها وبين أي زعيم عربي يمكن أن ينزل إلى الشارع ليستمع إلى الناس العاديين وهمومهم بانتظار أن يعطوه أصواتهم.

الملاحظة الأخرى هي طريقة التغطية الإعلامية. ففي الولايات المتحدة لا وجود لقنوات تلفزة حكومية، لأن القانون يحظر ذلك، وبالتالي تتخاطف قنوات التلفزة الخاصة المشاهد وتغريه بالقدرة على إعطائه المعلومة بالسرعة القصوى وبالشكل الجذاب. كنت أتوقع أن قناتي «الجزيرة» أو «العربية» قد وصلتا إلى مستوى جيد من المهنية ينافس CNN وغيرها، لكني اكتشفت من متابعتي المستمرة أن هناك في الحقيقة فجوة كبيرة على المستوى المهني والقدرة على جذب المشاهد وإقناعه بالمتابعة وجعل الآراء تتصارع جنباً إلى جنب. فبقدر ما تبدو CNN محطة إخبارية جادة بقدر ما تستطيع أن تدمج التطور التكنولوجي ومهارة المذيع أو المذيعة وسرعة المعلومة سوية لتجعلك بحق أسير القناة ومجبراً على متابعة الأحداث أولاً بأول.

الملاحظة الأخيرة هي تعقيد النظام الانتخابي الأميركي بشكل كبير واختلافه بين ولاية وأخرى، بحيث يحتمل الكثير من النقد من زاوية الديموقراطية نفسها، فالديموقراطية المباشرة تبدو بعيدة هنا لأنها تمر دوماً بما يسمى المندوبين أي الممثلين، وهي ديموقراطية ليست مباشرة بأي معنى فقد يحصل المرشح على أصوات شعبية أكبر لكنه يخسر لأنه حصل على أصوات مندوبين أقل من منافسه، بل إن التدقيق في الدور الذي يمكن ان يلعبه «المندوبون الكبار» في الحزب الديموقراطي يكشف عن أسلوب غير ديموقراطي على الإطلاق، إذ تضم شريحة هؤلاء المندوبين جميع أعضاء الكونغرس الديموقراطيين من النواب والشيوخ، وجميع قادة مجلس الشيوخ السابقين، أي رؤساء اللجان ورؤساء المجموعة الديموقراطية في الكونغرس، وجميع رؤساء مجلس النواب السابقين، إضافة إلى حكام الولايات الديموقراطيين وكل من شغل منصب رفيعاً في الإدارات الديموقراطية واللجنة الوطنية للحزب الديموقراطي وبطبيعة الحال الرؤساء الديموقراطيين ونواب الرؤساء السابقين، وزعماء الحزب في الولايات. ويفقد أعضاء الحزب الذين يؤيدون مرشحاً غير ديموقراطي صفتهم كمندوبين كبار. وهؤلاء تطلق عليهم صفة «المندوبين غير الملتزمين» في مقابل «المندوبين الملتزمين» أي المنتخبين عبر الانتخابات التمهيدية والمجالس الانتخابية. لأنه يحق لهم أن لا يعبّروا عن مواقفهم بشأن تأييد هذا المرشح أو ذاك حتى انعقاد مؤتمر الحزب. ويعتبر الحزب الديموقراطي هذا الأسلوب ضرورياً من أجل ضمانة الحصول على مرشح ديموقراطي تكون له حظوظ وافرة للفوز في مواجهة المرشح الجمهوري. لكنه مبدأ ينطلق من عدم المساواة انطلاقاً من مبدأ تفاوت الخبرة. وهو ما يقيض المساواة المطلقة التي تقوم عليها فكرة الديموقراطية.

مهما يكن، فإن السباق الانتخابي يبدو في أوله لكن المتابعة للتفاصيل تبدو أكثر إغراء في كشف الكثير عن هذه العملية السياسية الغنية والثرية في تجربتها، ونتائجها أيضاً.

كاتب سوري وباحث في معهد الولايات المتحدة للسلام USIP – واشنطن

الحياة – 14/02/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى