دراسات أميركية تعيد قراءة البنية الفكرية لظاهرة المحافظين الجدد
جهاد الترك
جرعة زائدة من أوهام المثالية بعثرت أحلامهم الامبراطورية
هؤلاء الذين أرادوا أن يصنعوا تاريخاً فوق التاريخ. أن يستبدلوه بنظريات حيكت على عجل من أجل “الامبراطورية” فقط، تبخرت أحلامهم على النار الملتهبة للصحراء العراقية. المحافظون الجدد الذين تمكنوا في العام ألفين من الإمساك بمفاصل السلطة في الولايات المتحدة. واجتهدوا كثيراً وسهروا طويلاً وناضلوا كالأبطال لينتقلوا بالولايات المتحدة من الدولة العظمى في التاريخ الى الامبراطورية الأقوى في الألفية الثالثة. خيل اليهم أن فرصتهم الذهبية قد لاحت في الأفق في العام 2001. ومن أسف، تملكتهم هواجس العظمة في تلك اللحظة، انصرفوا على الفور الى توظيف الضربات الانتحارية التي أودت بالبرجين في ولاية نيويورك وأحالتهما غباراً منثوراً يتطاير في الفراغ. ظنوا للوهلة الأولى أن القدر يبتسم من جديد لأميركا. وقد آن الأوان لتخرج من عزلتها بعد أن أسدل الستار على الحرب الباردة. وقع الاختيار على أفغانستان لتلقين ما يسمى الإرهاب الأصولي درساً له نكهة الامبراطورية هذه المرة. والأغلب أن حرب البلقان الخاطفة التي شاركت فيها الولايات المتحدة بهمة عالية لم تشفِ غليلها. كانت في تلك الأثناء من نهاية القرن العشرين تؤدي مهمة من جنس الضرورة الإنسانية. تشاركها بلدان أوروبية عدة لانقاذ الناس في كوسوفو من المجازر الهمجية التي راح يرتكبها الصرب بشهية نازية على الإبادة قل نظيرها. بدت الولايات المتحدة في تلك الحرب السهلة مغلولة اليدين. كانت تدرك مسبقاً وتعلم باليقين أن هذا النزاع تدور فصوله في الغرف الخلفية للبيت الأوروبي. ومهما تجرأت على إلحاق أفدح الخسائر بالصرب فإن حركتها في هذه الحرب تبقى محكومة بشروط أوروبية صارمة. خرجت من المعركة كما دخلت بسمعة عسكرية كبيرة وفوائد استراتيجية صغيرة. شكلت أفغانستان ومن بعدها العراق تجربتين مختلفتين كانتا مشروعين أميركيين بالكامل وإن جرى استخدام دول أخرى فيهما للايحاء فقط بأن الغزوتين تستقطبان تأييداً دولياً واسعاً. والأغلب أنهما كانا مشروعين من نسج أفكار المحافظين الجدد وطموحاتهم ورغبتهم في وضع استراتيجياتهم السياسية ومبادئهم الفلسفية موضع الاختبار الحقيقي على أرض القتال. بدا الهجوم السابق الماحق الذي شنه سلاح الجو الأميركي على أفغانستان وجبالها ومغاورها تعبيراً واضحاً عن قناعة لدى هؤلاء بأن الجبروت العسكري قادر وحده على القضاء على خرافة الإرهاب. وأن ما يسمى الديموقراطية الغربية لا تقدم الى الشعوب على طبق من فضة بل على فوهة مدفع. جاء غزو العراق في العام 2003 تمريناً ذهنياً أكثر تعقيداً من الاستيلاء الوهمي على بلاد طالبان. بدا مختبراً عملياً لإنزال شعارات المحافظين الجدد من عالم المثل الى متاهة الملح على أرض الصحراء: تمزيق المنطقة الى دويلات تحكمها الغرائر الطائفية والمذهبية والعرقية. ضم النفط الى المقتنيات الأميركية. اختراع موازين جديدة للنزاع تقوم على نمط من الجغرافيا السياسية المتناحرة. أحلام براقة راحت تداعب مخيلة هؤلاء وهم يتحينون الفرص، منذ أمد طويل، ليزعموا أن ما تفتقر اليه الولايات المتحدة هو الجرأة على ابتكار الأفكار الخلاقة. جاء اتهام العراق بامتلاكه أسلحة للدمار الشامل إحدى الذرائع التي تفترضها الدهشة السياسية. بدا العالم، في تلك الأثناء، ميالاً الى الأخذ بأكذوبة تنطوي على سحر من هذا القبيل. وفي المقابل، بدا المحافظون الجدد متأهبين ليتقمصوا شخصية الساحر الخبير في اختراع الأوهام وجعلها من الحقائق المتداولة. ولم يتورعوا عن الرهان على السمعة الأخلاقية والسياسية للإدارة الأميركية ظناً منهم أن النجاح المؤكد في الاستفراد بالعراق من شأنه أن يمحو عار الخطيئة ويحيله ضرباً من الفضائل الأمبراطورية المكتسبة.
دخل الرئيس باراك أوباما الى البيت الأبيض من بوابته الرئيسية. خرج المحافظون الجدد، يتقدمهم الرئيس السابق جورج بوش الابن من الممرات الخلفية وهم يجرون ما تبقى لهم من أذيال الخيبة. ومع ذلك، وبعد مرور عامين تقريباً على انكفاء قوتهم الضاربة عن الإدارة الأميركية لم يعترفوا بالهزيمة، حجتهم في ذلك أن الامبراطورية، في قدرها الصعب، لا تحتاج الى من يعتذر أو يتذرع أو ينحو باللائمة على غيره. والأرجح أن أفكارهم المتجذرة في تربة من المثل الايديولوجية المنغلقة لا تحتمل شيئاً من هذا القبيل. وهي إن لم تتحقق اليوم لأسباب اعتباطية ستبصر النور غداً أو بعد غد. أفكار هي أقرب الى الشعارات لا تقيم وزناً يُذكر للسيرورة الزمنية. الامبراطورية التي يرسمون خطوطها العريضة في مخيلتهم الملتبسة فوق الزمان بصيغته المألوفة. وقد تبدو أيضاً فوق المكان باعتبار أنها هي التي تشكل الجغرافيا العالمية وفقاً لمصالحها الاستراتيجية. تصور يوحي بأنه يقترب من جمهورية افلاطون في الشكل ويفترق عنه في المضمون. وهم يقرون بذلك في أدبياتهم الفلسفية السياسية. وغالباً ما يتبجحون بأنهم يستلهمون هذا المفكر الاغريقي كلما دعت الحاجة الى ذلك. أسوة بما يفعلون مع آخرين كثيرين غيره لتعزيز مواقفهم الفكرية والايديولوجية حيثما يكونون من دون حرج يُذكر أو تحفظ تنبغي الإشارة اليه.
سنتان مضتا تقريباً على إقصاء المقامات الفارعة من المحافظين الجدد عن المناصب الأخطر في الإدارة الأميركية والمؤسسات المتفرعة منها. والأرجح أن هؤلاء الذين أسقطتهم رياح باراك أوباما كأوراق الخريف، هم من الأوزان الايديولوجية الثقيلة الذين استخدمهم بذكاء الرئيس السابق جورج بوش. فقد شكلوا لديه دفاعات وخنادق فكرية وثقافية كان يفتقر اليها وهو القادم الى زعامة الامبراطورية من فراغ ذهني كبير قل مثيله في سدة الرئاسة. بدورهم، عثروا في هذا الرئيس المرتبك على ضالتهم المنشودة. أعادوا صوغه من جديد على نحو يتلاءم مع استراتيجياتهم التاريخية، إذا جاز التعبير. بدا معجباً للغاية بثقافتهم الفلسفية العالية. بدوا معجبين بهالة القداسة التي استقبلهم بها. والغريب أنه راح ينسب الى نفسه أفكارهم وفلسفتهم الأخلاقية والسياسية وهو الذي عرف عنه نفوره من الكتاب والقراءة، التقى الطرفان، على هذا الأساس، في منتصف الطريق، ثم أخذ بوش يتراجع شيئاً فشيئاً مخلياً الطريق بكاملها لخطاهم. كانوا يستحوذون على ما لم يمتلكه في شخصيته المترددة من جرأة في اتخاذ القرار، ومهارة مذهلة في المناورة، ورغبة جامحة في ملء الفراغ الايديولوجي والفكري في المواقع الحساسة للإدارة الأميركية.
صمت
أين يقف اليوم المحافظون الجدد بعد سنوات ثماني من العراك الصعب وأحياناً المستحيل مع ايديولوجيتهم السياسية أولاً، مع مثلهم العليا التي يزعمون أنها من وحي ما ينبغي أن تكون عليه الامبراطورية، ومع الجغرافيا الأخرى التي يلجأون اليها من بعد لاختبار نظرياتهم على الأرض وفي الصحراء وفي المستنقعات كذلك؟ قليلة هي الإصدارات والدراسات والمؤلفات التي أقحم أصحابها أنفسهم في قراءة ظاهرة المحافظين الجدد بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بهم بخسارة الحزب الجمهوري الانتخابات الرئاسية، كذلك هي المقالات والكتابات الصحافية التي تناولتهم بعد الفوز الساحق الذي حققه باراك أوباما في نهاية العام 2008. ثمة صمت يلف أجواءهم وجماعاتهم ومراكز أبحاثهم وفلولهم التي تناضل اليوم لاستجماع قواها المنهارة. ومع ذلك، يتكسر جدار هذا الصمت بين برهة وأخرى على وقع إصدار من هنا وكتاب من هناك. ورغم قلتها وما يفصل بين أحدها والآخر من مسافة زمنية قصيرة أو قليلة، سرعان ما تتصدر هذه المؤلفات الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وسائر أوروبا. يندرج أصحابها في الخانة الضيقة لكبار المفكرين والساسة والباحثين الضالعين في متاهات السياسة الخارجية لأميركا. والأهم، على الأرجح، أن بعضهم ممن تمرس في الجوانب الفلسفية والأخلاقية والبراغماتية لزمرة المحافظين الجدد.
من بين الإصدارات الأكثر أهمية على هذا الصعيد، يبرز كتاب الباحث الكبير، فرنسي الأصل، جاستن فايس “حركة المحافظين الجدد: مسيرة ذاتية” عن “منشورات جامعة هارفرد، 2010”. يتوخى المؤلف منهجاً ذكياً في قراءة تاريخ هذه الحركة منذ بداياتها الأولى في ستينات القرن الماضي. لا يفعل ذلك من أجل لملمة شتات هذه الحركة من خزان الذاكرة فقط. ولو أراد ذلك لجاء كتابه قصة رتيبة مسلية، على الأغلب، ضئيلة الجدوى والفائدة، يلجأ بدلاً من ذلك، الى قراءة تحليلية للوقائع التاريخية تعتمد، بالدرجة الأولى على تقصي سلسلة من التناقضات النافرة التي ميزت ولا تزال هذه الجماعة المثيرة للجدل. على سبيل المثال، باشر هؤلاء نشاطهم، مطلع العقد السابع من القرن الماضي في صفوف الحزب الديموقراطي وعلى هامشه أو على مقربة منه، استقطبتهم هذه المؤسسة العريقة بانفتاحها التاريخي على اليسار المحلي والعالمي، وتقبلها الأفكار الراديكالية والمعتدلة، استهواهم اليسار التروتسكي في بادئ الأمر، جذبهم اليه الطابع الأممي لنمط من الاشتراكية التي كانت تدغدغ الأحلام في ذلك الزمن الايديولوجي بامتياز. ومع ذلك، يتبين لاحقاً أن اختيارهم هذا المذهب السياسي بالتحديد كان ناتجاً عن ميل الى التميز الحاد عن الآخرين. فجأة، ومن دون سابق إنذار، انقلبوا الى ما يمكن اعتباره في مسميات تلك الأثناء، يساراً معتدلاً، وراحوا بعد ذلك، ينتقدون الحزب الديموقراطي لانصياعه الى أفكار اليسار الجديد الذي كان يدعو الى تدخل أكبر وأكثر فاعلية للدولة في التكوين الاجتماعي. في عقدي السبعينات والثمانينات، وجدوا أن الفرصة مؤاتية لهم ليرتقوا في مجال السياسة الداخلية والخارجية. أخذوا يتخلون عن ميولهم اليسارية، من دون سابق إنذار أيضاً، ويهرولون بسرعة قياسية نحو اليمين. ونظراً الى حاجتهم القصوى لتثبيت أقدامهم في كنفهم السياسي الجديد، توافقوا على استهداف الاتحاد السوفياتي بذريعة أن الشيوعية بشكلها الاشتراكي المتطرف هي الخطر الفظيع الذي يتهدد أمن الولايات المتحدة. وخطوا أبعد من ذلك قليلاً بتحالفهم مع الرئيس الأسبق رونالد ريغان. بلغ استمتاعهم بمواقعهم النافذة في الإدارة والمؤسسات المتفرعة منها حداً دفعهم بقوة الى هجرة جماعية نحو الحزب الجمهوري. احتلوا فيه عنوة الجناح اليمني المتشدد بدءاً من التسعينات الماضية. بدأت رحلتهم مع أوهامهم السياسية منذ ذلك التاريخ، إذ أخذوا يشيعون، من مواقعهم، أن المهمة “المقدسة” للامبراطورية تتمثل، أولاً وأخيراً، في نشر رسالة الديموقراطية حتى في المجتمعات المتخلفة. وتبنوا، في هذا السياق، شعاراً أغرب من الخيال: إن تعميم النظام الديموقراطي ولو باستخدام القوة العسكرية، أمر من شأنه أن يعجل من قيام مجتمع إنساني يشبه يوتوبيا أفلاطون. ويشير المؤلف، في هذا الإطار، الى أن اهتمامهم بجغرافيا الشرق الأوسط بدا مقصوراً فقط على محاولاتهم المستميتة لتوفير الحماية الدائمة لإسرائيل، من هنا، استهدافهم الدائرة العربية بسلسلة من المخططات والاستراتيجيات الجاهزة والمؤجلة. وإقدامهم على عدم استثناء الجغرافيا العربية من أي اطلالة لهم على الساحة الدولية. واعتبروا، ولا يزالون، أن واجبهم الأخلاقي تجاه مصالح الامبراطورية، يقتضي وضع اليد، بشكل أو بآخر، على النفط العربي، وهم يفترضون بذلك أن إزاحة كل المعوقات من أمام هذه اليوتوبيا المتوهمة، أمر مبرر بالضرورة الفلسفية إذا جاز التعبير، من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لبنائهم الفكري على مستوى العالم.
أجندة المحافظين
دراسة أخرى، في السياق عينه، يتوسل من خلالها المفكر السياسي المرموق، ستيفن سنيغوسكي، ملء الفراغ في المسيرة الغامضة للمحافظين الجدد. الكتاب بعنوان “الكابل الشفاف: أجندة المحافظين الجدد.. حرب في الشرق الأوسط والمصلحة القومية لإسرائيل” عن منشورات “آي.اتش.اس” 2008. يعتبر هذا الكاتب واحداً من أهم الضالعين في الولايات المتحدة، في الكشف عن حجم التورط الإميركي الإسرائيلي في أزمات المنطقة. والأغلب أنه أقام شهرته السياسية على معرفته النادرة بالفضائح التي اختلقتها إسرائيل في أروقة الإدارات الأميركية المتعاقبة. ينطوي الكتاب، في طبيعة مناقشته لهذه المسالة، على محورين أساسيين لا ينفصل أحدهما عن الآخر. الأول يتضمن محاولة للكشف عن الخلفيات والأبعاد الكامنة وراء السياسات التي كان ينتهجها المحافظون الجدد، أو يخططون لها، أو يخوضون أشرس المعارك الايديولوجية والفلسفية من أجل أن يضعوها موضع التنفيذ. ويتطرق الثاني، وهو بيت القصيد على الأرجح، الى الأسباب التي تحمل المحافظين الجدد على إدراج منظومة متكاملة من المعتقدات الخرافية في قائمة أولوياتهم السياسية. من بين أكثرها أهمية وخطورة اعتناق شريحة واسعة من أعضاء هذه الحركة ما يسمى في الأدبيات التوراتية، على نحو خاطئ ومضلّل، المسيحية الصهيونية. وتتبنى هذه الأخيرة أسطورة رائجة، بالتحديد، في أوساط الإنجيليين البروتستانت في الولايات المتحدة وفي الغرب بشكل عام، مفادها أن الجغرافيا العربية، ومن بينها فلسطين بشكل خاص، ذاهبة بالتأكيد الى قدرها المحتوم، وهو الحرب المرتقبة منذ الأزل بين قوى الخير والشر تمهيداً لعودة المسيح الثانية. خرافة هي من النسيج الخبيث للرؤية التي يلوّح بها، منذ زمن بعيد، عدد وفير من المنظمات والجماعات اليهودية الأصولية المتزمتة. وقد تسرّبت مع الوقت الى العقل الديني لمجموعات غفيرة من أتباع الكنائس البروتستانتية. وأصبحت أحد الثوابت الأساسية التي يلجأ إليها هؤلاء للتعبير عن معتقدهم المسيحي بتأثير مباشر من الفكر التوراتي الملتبس. ويقف أتباع الكنائس المسيحية الأخرى، وهم الأكثرية الساحقة بطبيعة الحال، بالمرصاد لهذه الرؤية العدمية للحد من انتشارها. يشاركهم في هذه المهمة الصعبة كنائس إنجيلية متعددة ترفض هذه الخرافة جملة وتفصيلاً. ومع ذلك، يناقش المؤلف هذه المسألة بشيء كثير من الهدوء والروية العقلانية. ويرى أن هذه الفكرة المبتذلة، في الأساس، قد تمكنت من بعض المحافظين، معللاً ذلك بحاجتهم الى ما يملأ فراغاً إيديولوجياً عميقاً يتآكلهم بعدما أعلنوا إفلاسهم العقائدي والسياسي عندما تنصّلوا من اليسار في ستينات القرن الماضي. ثم عادوا وتنصلوا مراراً وتكراراً من معتقدات دينية وسياسية أخرى. على هذا الأساس، لا يجد الكاتب مفراً من إدانة المحافظين الجدد بما كانوا يضمرون من نوايا وهم يحفّزون الإدارة الأميركية على غزو العراق. ويستنتج أن الهدف المبيت للعروض العسكرية المتوحشة في العراق، يتمثل أولاً وأخيراً، في حياكة مستجدة للجغرافيا العربية، على المستويات الثقافية والدينية والعرقية، لحماية الوجود الإسرائيلي في المنطقة. ويستهزئ الكاتب بما يشاع عن استراتيجيا أميركية لإحلال الاستقرار والديموقراطية في المنطقة، باعتبار أن هذا التوجه الأخلاقي لا أثر له في أجندة المحافظين الجدد.
المعادلة الدينية
كتاب آخر لا يقلّ أهمية عن مثيله السابق، يقيم ربطاً محكماً بين النزعة البراغماتية لجماعة المحافظين الجدد واندفاعهم الى التشبث بمعتقدات خرافية ذات أصل توراتي. الإصدار بعنوان “حلفاء لهرمجدون: صعود المسيحية الصهيونية” عن منشورات “جامعة يال”، 2007، للباحثة المرموقة فيكتوريا كلارك. يعنى هذا الإصدار بنمط من القراءة التحليلية العميقة لما يمكن اعتباره خلفية دينية مزعومة لدوائر واسعة ونافذة في حركة المحافظين الجدد. وهو يرى، بشكل أو بآخر، في سياق هذه الدراسة، أن الكشف عن المعادلة الدينية، بغموضها ووضوحها في الفلسفة السياسية لهؤلاء، أمر من شأنه أن يلقي أضواء غير مألوفة على الأدوار التي أداها هؤلاء أثناء السنوات الثماني من رئاسة جورج بوش الإبن.
يشير المؤلف، على نحو من اقتباسات ذات دلالة بالغة، الى أن الفلسفة المثالية التي استقرّ عليها المحافظون الجدد بعد أن ضاقوا ذرعاً باليسار وتبعاته الاجتماعية منذ ستينات القرن الماضي، دفعتهم دفعاً للذهاب بها الى نهاياتها المتوقعة. والمقصود بذلك، أن هذه المثالية قد تصبح عديمة الجدوى إذا لم تتخذ شكلاً سياسياً عملياً على أرض الواقع. هكذا بدا لهذه الزمرة التي لم تتوقف يوماً عن استبدال أقنعتها الإيديولوجية بأخرى. وتوافقت أثناء ولايتي الرئيس بوش الإبن، على أن الصراع على الساحة الدولية يتجلّى، في طبيعة حركته الداخلية، في نزاع أحدي الجانب بين الخير والشر فقط. تفكير عقيم على الأغلب، يسقط مفاهيم مسبقة على التاريخ، ثم يصادره بالكامل، وبعد ذلك يتخذه ذريعة أخلاقية متوهمة للتحكم بمصائر المجتمعات. انطلاقاً من هذه الرؤية الجامدة الى الصيرورة الإنسانية، أقنع المحافظون الجدد الرئيس بوش أن حربه على أفغانستان وغزوه للعراق هما إعلاء لقيم الخير وانتقاص من قيم الشر. استهوت جورج بوش هذه المعادلة المبسّطة لسببين جوهريين على الأرجح. أولهما أنها لا تفترض ثقافة فلسفية أو منطقية عميقة يفتقر إليها في الأساس. والثاني أنها قد تمهد له الطريق ليقيم إمبراطوريته المزعومة على خلفية أخلاقية متينة من شأنها أن تحشد له استقطاباً شعبياً واسعاً على الساحة الدولية. استخدم المحافظون الجدد الشعار عينه لتعبئة الولايات المتحدة برمتها في حرب مشكوك فيها على ما يسمى الإرهاب الأصولي. ثم وظفوا هذه الفلسفة المضحكة للإيحاء بأن إسرائيل هي الضحية الكبرى في محيط يعجّ بالإرهاب ويصنع الشر. ودعوا الى مساندة هذا “الخير” بكل الوسائل للقضاء على هذا الشر بكل الوسائل أيضاً. والأغلب أن هذا الفكر العدمي مرده، بالضرورة الخرافية، الى معتقدات “المسيحية الصهيونية” التي تنتظر بفارغ الصبر انتصار الخير المطلق على الشر المطلق في معركة “هرمجدون” التي يشير إليها عنوان الكتاب بالخط العريض. وهي إحدى أكثر الأساطير التوراتية المضللة التي ترفضها المسيحية وتدعو الى تسفيهها وعدم الأخذ بها على الإطلاق.
العقيدة القاتلة
كتاب آخر، في هذا الإطار، لمؤلف ذائع الصيت في الولايات المتحدة هو غرانت سميث. الإصدار بعنوان “العقيدة القاتلة: المحافظون الجدد انتهكوا القانون ليخدعوا أميركا” عن منشورات “مؤسسة الأبحاث”. صحيح أن هذه الدراسة تعزى الى العام 2006، غير أن لدى صاحبها مشاهدات وتجارب واحتكاكاً بسياسات المحافظين الجدد خلال السنوات الست الأولى من ولايتي الرئيس جورج بوش. وهي كافية، على الأرجح، لإجراء قراءة موضوعية في عقيدتهم السياسية الفلسفية، وأيضاً في الأهداف والأدوار التي اضطلع بها هؤلاء لتغيير وجه الولايات المتحدة عن سابق تصور وتصميم. يتجاوز المؤلف، في هذه الدراسة الموثقة، ما ذهب إليه زملاؤه آنفو الذكر. يقفز مباشرة الى النتيجة المتوخاة، وفي ذهنه أن الولايات المتحدة لا تزال تلتزم بقوانينها الدستورية وأعرافها الديموقراطية العريقة. يقدم جردة حساب منطقية بما يعتبره جرائم حقيقية، سياسية وأخلاقية وإدارية ومالية، ارتكبها المحافظون الجدد أثناء رئاسة جورج بوش الإبن وبإيعاز منه أو بغض النظر عنهم في أحسن الأحوال. دليله على هذه التهمة التي تبدو قاطعة في نظره، الترويج لعقيدة الحرب الاستباقية التي طالما افتخر بها الرئيس بوش بذريعة الدفاع عن أمن المواطنين الأميركيين. الاتفاقات المشبوهة التي ورطوا بها مؤسسات الصناعة العسكرية لتصدير السلاح الى البلدان والمناطق التي يجري فيها إشعال متعمّد لفتيل النزاعات والحروب. المناخ المافياوي الذي أشاعوه في مؤسسات الدولة على نحو يشير بوضوح الى ضلوعهم في الجريمة الدولية المنظمة. محاولة العبث بقوانين الأمم المتحدة والطعن في صدقيتها وصولاً الى إفراغها من مضامينها المعترف بها دولياً واستبدالها بشريعة الغاب بغية خلخلة الاستقرار العالمي بشكل ينكشف فيه العالم على حرب باردة دائمة. ونكاد نستشرف، في هذا الكتاب، على نحو من الإيحاء الصامت، أن تجنّب الأخطار القاتلة التي لا يتورّع المحافظون الجدد عن ارتكابها، أمر متعذّر إن لم يكن مستحيلاً. لقد بات هؤلاء الدهاقنة من المنعة بمكان أنهم تغلغلوا الى الأماكن الهشّة والمنيعة في الجسد الأميركي المنهك.
ثلاثة مؤلفات أخرى، في الإطار عينه، من شأنها أن تضفي على هذه المسألة شيئاً من وضوح ليس متوافراً بالقدر المطلوب لمعرفة الأرضية التي يقف عليها اليوم المحافظون الجدد أو فلولهم المبعثرة. الأول بعنوان “صعود وسقوط المحافظين الجدد” للكاتب ناثن إبرامز، عن منشورات “كونتيوم”، 2010. الثاني “حرب السنوات الأربعين: صعود وسقوط المحافظين الجدد” عن “دار هاربر”، 2009 للكاتب لن كولودني. الثالث “كانوا يعلمون أنهم على حق: صعود المحافظين الجدد”، عن منشورات “انكور”، 2009، للكاتب جاكوب هلبرون.
تناقش هذه الإصدارات بعضاً من أهم المحطات السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة بدءاً من صعود حركة المحافظين الجدد، مروراً بالأزمات الحادة أو المعقّدة التي أسفرت عنها مغامراتهم السياسية. وصولاً الى انهيارهم المزعوم بوصول باراك أوباما الى سدة الرئاسة. والأغلب أن هؤلاء الكتّاب الثلاثة، وبعضهم مفكرون وباحثون وساسة من الطراز الرفيع، قلّما يعالجون هذه الظاهرة، إذا جاز التعبير، بعيداً عن الجذور الإيديولوجية والفلسفية لهذه الحركة. وكأنهم يسعون بذلك الى قراءة تحليلية لأفكارهم في ضوء الأنماط المختلفة التي أقبلوا من خلالها على ممارسة السياسة وتحديداً في المجال الدولي. والعكس صحيح أيضاً. والملاحظ، أسوة بمؤلفات أخرى كثيرة تُعنى بهذه القضية، أن أصحاب هذه الإصدارات الثلاثة غالباً ما ينقبون في خزائن الماضي بحثاً عن شواهد أو وقائع أو مستندات للاستدلال بها على توجهات هذه الجماعة المغلقة في الوقت الراهن، وما يضمرون في المستقبل في حال أتاحت لهم الظروف عودة الى السلطة في الانتخابات الرئاسية المتوقعة بعد عامين ونيّف. الكاتب ناثن ابرامز، على سبيل المثال، يختار قراءته التحليلية بناء على الكشف عن طبيعة الشخصية اليهودية “المألوفة في صفوف المحافظين” الجدد. زميله لن كولودني يعوّل على انفتاح شهية المحافظين الجدد على خوض المغامرات غير محسوبة العواقب نتيجة لحاجة الصناعات العسكرية العملاقة الى زبائن دائمين للإبقاء على عجلة هذه المصانع متأهبة على الدوام. نتف من المعلومات يوفرها هذا الكتاب أو ذاك عن الصعود المزعوم للمحافظين الجدد وسقوطهم المزعوم كذلك. ومع ذلك، لا تزال الصورة ناقصة، وبالتالي غامضة الى حد كبير أو صغير. والأرجح أنها ستبقى كذلك حتى إشعار آخر بانتظار أن يتولى هذه المهمة من يجد في نفسه القدرة والجرأة على إعطاء هذه القضية حقها. وفي كل الأحوال، ثمة هامش واسع اليوم لصدور مؤلفات أكثر أهمية وصدقية حول هذه المسألة. فالانكفاء الحاصل هذه الأيام في معسكر هذه الحركة ومستقبلها القاتم أمران قد ينطويان على التعبير بالكتابة عمّا آلت إليه أوضاعهم.
خارطة طريق
تبدو المؤلفات آنفة الذكر، وسواها أيضاً، وكأنها تشير، بشكل أو بآخر، الى خارطة طريق محتملة من شأنها أن ترصد ما يظهر الى العلن من تحركات المحافظين الجدد. وقد أصبحوا اليوم، أثناء ولاية الرئيس باراك أوباما كالنمر المجروح الذي تلقى إصابة دامية من دون أن يتمكن من القضاء على فريسته. والأغلب أن هذه هي حالهم التي تحاصرهم من الجهات الأربع وتضيّق عليهم الخناق وتحرمهم قسراً من الإفادة القصوى من الوقت الضائع. وكان المفكر الأميركي ذائع الصيت والشهرة، فرانسيس فوكوياما، أحد أشرس صقور المحافظين الجدد وأكثرهم تعصباً لمبادئهم الفلسفية، قد قرر انكفاء مبكراً عن رموز الصف الأول في العام 2006. هزته في الصميم “الهزيمة” المدويّة التي حصدتها الولايات المتحدة في العراق، على المستويين السياسي والعسكري. وأعلن على الملأ بنبرة يشوبها طعم المرارة أنه يفضل الذهاب هرولةً الى المعسكر الواقعي. وهو يعني بذلك الانضمام الى النخبة البراغماتية التي ترتدي، في العادة، جلد التماسيح. حتى إذا ما تعرّض لضربات مؤلمة أو قاتلة فإن لديه على جسده ما يحول دون أن يلقى حتفه على الفور. والأرجح أنه لم ينج من مصير كهذا. اضطر مرغماً للتبرؤ من نظريته التي أذهلت الأوساط الفكرية والفلسفية والثقافية في نهاية التسعينات من القرن الماضي. قال متبجحاً وقتئذٍ، وهو يشعر بالانتشاء العميق، إن الرأسمالية الأميركية هي نهاية التاريخ. وقد وضع كتاباً حول هذه النظرية انتشر كالنار في الهشيم. ثم تحوّل هو عينه هشيماً متناثراً بعدما تراجع صاحبه عن هذه الخرافة المبتذلة. بدت هذه النظرية، في تلك الأثناء، دلالة بالغة على إحساس مسبق لدى المحافظين الجدد بأن أميركا هي فعلاً الإمبراطورية المنتظرة وفقاً لمقاييسهم الفلسفية والأخلاقية. خيّب فوكوياما أملهم. ثم وجّه إليهم صفعة قوية جداً عندما قرر أن يفرّ من معسكرهم الى خندق آخر أكثر أماناً. شكّلت هذه الواقعة فجيعة في أوساطهم في العام 2006، قبل سنتين من انتهاء الولاية الثانية للرئيس جورج بوش الإبن. والأغلب أنها كانت إيذاناً بانهيار نفوذهم وتصدّع جبل الجليد الذي تربعوا على قمته. ولشد ما أربكهم وبعثر صفوفهم أنهم خسروا الى الأبد المنظر الأخطر بينهم والمناضل الأكثر جرأة للدفاع عمّا يعتبرونه مثلهم العليا التي لا تمسّ من قريب أو بعيد. ولعلهم من النخب السياسية القليلة في الولايات المتحدة والعالم أجمع، التي تقيم ربطاً محكماً بين العقيدة السياسية أو الفلسفية من جهة، وتطبيقاتها على الأرض من جهة أخرى. ومع ذلك، لم يحدث في تاريخ هذه الحركة الغامضة، وتحديداً منذ العام 2000، أن أقرّ مفكروها الكبار باحتمال أن يعزى أي خطأ في الممارسة السياسية الى خطأ مماثل، في الأساس، في البنية الفكرية.
على صعيد آخر، من الملاحظ أن هذه المؤلفات وسواها، تعنى على نحو لافت بالمثل الفلسفية والأخلاقية للمحافظين الجدد، أكثر من اهتمامها بالكيفية التي يمارسون من خلالها العمل السياسي. علماً أنهم أقاموا شهرتهم، منذ ثمانينات القرن الماضي أثناء رئاسة رونالد ريغان، بأنهم رأس حربة عسكرية مجنّدة لمحاربة أعداء الولايات المتحدة. والأرجح أن أصحاب هذه المؤلفات غالباً ما يجنحون، على نحو تلقائي، الى فتح ملفاتهم الفكرية على مصاريعها علّهم يعثرون فيها على أسباب حقيقية أو محتملة تكمن وراء صعودهم السريع وسقوطهم كذلك في سماء السياسة الأميركية. ويكاد معظم هؤلاء الكتّاب، وجلّهم من الباحثين المرموقين، أن يتوافقوا على قناعة مشتركة، إذا صح القول. هي أن المحافظين الجدد مشبعون بالمثل الفلسفية والسياسية العليا، وهذا أمر لا جدال فيه. غير أنهم، من ناحية ثانية، يلقون بها جانباً فور وصولهم الى هذا الموقع السياسي أو ذاك. معادلة تفتقر، في حقيقة الأمر، الى أي جدوى فلسفية صلبة لأنها تضع العربة أمام الحصان. ولأن الأمر كذلك، لم يضع المحافظون الجدد عربة معتقداتهم أمام حصان سياساتهم. ولكنهم ظلّوا يزعمون أنهم يرجّحون أولوية مبادئهم على أي شيء آخر. وهذا مثير للسخرية والضحك بصوت عال. ولو صحّت مزاعمهم في هذا المجال، لثبت بالدليل القاطع أن المثل التي رسموها إطاراً عاماً لسياسة الإمبراطورية قد سقطت صريعة على صحراء العراق والجبال الوعرة لأفغانستان. ومع ذلك، لا يزالون يستبشرون خيراً رغم الهزائم المروّعة التي حلّت بهم وأكثرها قسوة هي تلك التي أحالتهم زمرة مشتتة، في عهد الرئيس باراك أوباما، من دون هوية سياسية أو فكرية واضحة. ولعلّهم كانوا دائماً يتطلّعون الى هوية كهذه ويسعون بكل ما أوتوا من قوة وسلطة للحصول عليها. بدوا ممّن يعتقدون أن الحلم قد يتحوّل حقيقة بالاستحواذ على السلطة فقط. وأن مثلهم الأعلى بامتياز بأن الصراع الحقيقي الذي يشغل العالم منذ أقدم الأزمنة بين الخير المطلق والشر المطلق قد ذهب بدوره أدراج الرياح. لسبب بسيط يرددونه هم في أدبياتهم ومراكز أبحاثهم، وهو إن لم تتصدر الولايات المتحدة هذا الصراع لمصلحة الخير فإن الشر هو السائد من دون شك. الإمبراطورية الأميركية، في نظرهم، هي مصدر الخير. وهي الطرف الوحيد المؤهل للدفاع عنه والارتقاء به. أما الشر فهو القوة الطاغية والغاشمة التي ستظل تفعل فعلها في التاريخ إن لم تحل الولايات المتحدة دون ذلك. أما أن تتولى الإمبراطورية مكافحة الشر وأما لن يبقى خير في هذا العالم. فلسفة انتحارية، على الأرجح، تؤذن بنهاية العالم أو نهاية أميركا. أي متاهة جديدة يترقّبها المحافظون الجدد لأحلامهم الإمبراطورية؟
المستقبل