صفحات أخرى

“الصحوة في ميزان الإسلام” لعلي بن محمد الرباعي

الوعّاظ يحكمون العقول
يتميز كتاب “الصحوة في ميزان الاسلام، وعاظ يحكمون عقول السعوديين” (اصدار رياض الريس للنشر) بأن كاتبه كان واحدا من الناشطين في الصحوة، وقد تخلى عن التزامه السابق، وقدّم صورة عن الوعاظ المنتشرين في العالم العربي عموما والمملكة العربية خصوصا، حيث يعرض كل واحد نفسه في وصفه ناطقا باسم الاسلام، ويشرع الاحكام والفتاوى وفق فهمه الخاص للنصوص الدينية من قرآن واحاديث نبوية، بحيث تبدو السعودية من اكثر البلاد الاسلامية تضاربا في الفتاوى والتشريعات، واخضاعا لابنائها ولما تقتضيه مصالح هذا الواعظ او ذاك. انه كتاب “من الداخل، ومن اهل البيت”. في مقدمة الكتاب، يشير المؤلف الى انه سيدخل هذا الباب الوعظي انما من مداخل مختلفة، وهو مدرك سلفا لردود الفعل السلبية التي ستواجهه حيث يقول: “لن اتحرج من خطر المسير مسار الركب، بحكم ان ابعد ما سيطاولني من المعارضين تصنيفهم لي في خانة من خانات المروق من الدين والتربص بأهله، وهذه في مجتمعي تعدّ من الموضات والصرعات المتجددة، خاصة والقوم من حولي يمارسون اشنع مما سأمارس هنا، ويجلدون العباد بسياطهم المغلقة بالاسلاموية، ويزنون المقاصد بميزانهم الذي لا يختل، ولو قيد شعرة، ثم يحاكمون ويصدرون احكاما لا مجال للاستئناف فيها او عليها. نعم لقد اغراني طرح الكثيرين من المنتسبين الى الدين، حين يتحدثون على انهم الاسلام، وحينها لا تملك الحق في مجادلة نصوصهم القطعية التي يشكلها (شيخ) وفق رؤيته، ويصوغها واعظ استساغ ان يحكم عقولنا، ويصرفها بمهارة فائقة صوب تطلعاته الحالمة”.
خلال الثمانينات من القرن الماضي دعا مثقفون سعوديون الى التجديد في رؤية الحياة وطريقة الكتابة الادبية، وبرزت اسماء تعبّر عن هذه الوجهة، فطلع وعاظ يشوّهون صورة هؤلاء الخلاّقين من شعراء وكتّاب قصة ورواية ومقالة وتشكيليين، ويرمونهم بالردة والكفر بتهمة التطاول على الذات الالهية والقيم المجتمعية، وشنّ منظّرو الصحوة حربا اعلامية ضروسا على هؤلاء “المجددين” كانت كافية لوضعهم في دائرة الاستهداف بالقتل. اتى ردّ الفعل هذا في سياق حملة منظّري الصحوة الذين امكنهم، بالنظر الى طبيعة المجتمع السعودي المتسم ببناء فكري فسيفسائي وقابل للاختراق، ان ينجحوا في “تحقيق غاية نكوص المجتمع وارتداده الى الخلف في قلب المفاهيم وتحوير مشاعر الناس في السعودية في اقل من عشرة اعوام، وانشطر الناس فسطاطين، سعوديين ملتزمين، وسعوديين مارقين من الدين لتبنيهم مناهج الكفّار والمنافقين”. للمدقق في فكر الصحوة، يكتشف ان تيّارها لم يبن مشروعه الدعوي والتحريضي على المعرفة، بل اعتمد تفعيل العاطفة من خلال افتعال الخطر الداهم على العقيدة من التيارات الاخرى.
يشير الكاتب الى تزامن بروز الصحوة مع إعلان الثورة الايرانية اواخر السبعينات من القرن الماضي، في فترة كانت الحرب الافغانية ضد الاحتلال السوفياتي ملتهبة، وصعود جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر، ونهوض الحركات الاسلامية الاصولية في معظم بلدان العالم العربي تحت وطأة فشل مشروع التحديث لأنظمة الاستقلال وتواصل الهزائم العربية امام العدو القومي. قدمت الصحوة مشروعها الفكري القائم على “فكرة اعادة تعبيد المجتمع الجاهلي – بحسب تعبيرهم – لله، بعد خروجه عن حقيقة العبادة على يد الأنظمة غير المشروعة، كما يرى المنظرون”. لقد نجح هؤلاء المنظّرون في نشر روح الكراهية والعداء ضد السلطات القائمة وشكّكوا في أطروحات العلماء المعتدلين، واغرقوا البلاد في الفتاوى المفيد منها وغير المفيد، بل وقيّدوا السعوديين بالتزامها بحيث “اصبح لكل فئة رمزها ولكل رمز مريدوه وتابعوه، وغدا الذهاب الى النوم بحاجة الى فتوى يصدرها شيخ او واعظ، يمثل دور الوسيط بيننا وبين الله”.
لم يسجل رجال الصحوة اي حضور ايجابي في المجتمع، ولم يساهموا في تطويره حضاريا، بل ان الانانية تبدو السمة الابرز لقادة هذا التيار الهادف عمليا الى عسكرة المجتمع واخضاعه لمنطقهم وافكارهم. عمل “صحوييو” السعودية على اللعب على نقاط الضعف عند ابناء الطبقات الدنيا في المجتمع، ليتسنى لهم تجنيدهم في احزاب متطرفة وارهابية. لقد بدا مشروع الصحوة في مجمله قائما على الاستبداد والتسلط، وقد زاد من خطورته ان اصحابه يزعمون ان سلطتهم آتية من الله وانهم يسعون الى الحكم بأمره وتنفيذ شرائعه الواردة في النصوص الدينية. لكن الكثير من المفكرين التنويريين في العالم الاسلامي يرون الى خطاب الصحوة في كونه مراوغا يدغدغ المشاعر والعواطف لشد جمهور المؤمنين اليها، والتركيز على ان تيار الصحوة يدعو الى الدفاع عن المسلمين في كل مكان، والى استعادة مجد الاسلام الغابر الذي عمل الغرب على تدميره. مع الاشارة الى ان معظم الواعظين لا يملكون من العلم والفقه ما يضعهم في الموقع الصحيح، بل ان كثيرين منهم يهدفون الى الشهرة والتمظهر على حساب نشر ما يثير الكره والتحريض. هذا من دون ان ينسى الكاتب ان هناك بعض العاملين في الصحوة وتيارها ممن يتسمون بالاعتدال والدعوة الى نبذ التطرف، لكن اصواتهم تبقى ضعيفة ولا تجد قوى تحملها مقابل قوى التطرف السائدة.
ليست المملكة العربية السعودية فريدة في وجود تيارات دينية متطرفة على غرار تيار الصحوة، بل ان معظم البلاد العربية انتجت ما يشابه هذه التيارات وبعضها تفوّق عليها في الارهاب ومستتبعاته المادية والفكرية. انه مأزق المجتمعات العربية والاسلامية في كل مكان، بحيث يتصدر فيها نقد هذا العقل الاسلامي وموروثاته وتنقيته مما تقادمه الزمن، والافادة مما هو حي فيه، في وصفه احد العوامل في مكافحة هذه التيارات الاصولية المتطرفة.

خالد غزال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى