صفحات مختارة

الثقافــة والحاكــم الإلــه

null
حازم صاغية
(إلى ذكرى سمير قصير)
قبل وصوله إلى السلطة بثماني سنوات، مارس رسّام ألمانيّ محبط، اسمه أدولف هتلر، ولعه برسم مخطّطات لنُصب في عاصمته برلين. الرغبة هذه راودته فيما كان التضخّم الماليّ يطحن جمهورية فايمار، وصلحُ فرساي المذلّ يثقل على شعبها. فكأنّما الهزائم تملي على جليس الكوخ تكبير القصر الذي يقيم في رأسه.
بطبيعة الحال لم تقتصر الاستجابة الهتلريّة للوضع الألمانيّ حينذاك على أوهام هندسيّة. فقد كان هناك الحزب والإعداد للقوّة والعناية بالشبيبة المقاتلة، فضلاً عن اللاساميّة ومحرقتها الموعودة. لكنّ تلك الأوهام كانت جزءاً عضويّاً من الاستجابة الهتلريّة: ففكرة قوس النصر التي استوحاها الفوهرر من القوس الفرنسيّ الشهير فاقت الأصل ضخامة وأبّهة. ورغم سنواته القصيرة في الحكم قبل اندلاع الحرب، كانت النصب القليلة التي بناها من ذاك النمط الباروكيّ الذي يضرب أصوله الأولى في «الامبرياليّة الرومانيّة». بعد ذاك، ومع القرن السابع عشر، تولّت الكنيسة الكاثوليكيّة إشاعة هذا النمط وإشهاره، إذ الفنّ مُطالَب بـ «نقل موضوعات الله» وتعميمها. كذلك انحازت الأرستوقراطيّة للنمط المذكور نظراً إلى العظمة والدراميّة اللتين «تبهران الزائر والغريب».
وهتلر، المنشدّ إلى العظمة والدراما المتواصلة، كان يقول لألبرت شبير: «كم أتمنّى لو كنت مهندس عمارة». وهو لم يتردّد في تسمية شبير، مهندسه الأوّل والأكبر، وزيراً للتصنيع الحربيّ، كما لو كان توفير شروط التعمير وتوفير شروط القتال شيئاً واحداً. ذاك أن الرسوخ الذي يخلقه الحجر وينطوي عليه العمران، تجمعه بالفناء والإفناء ملحميّة الزعيم ورؤيويّة العالم الذي تصنعه الزعامة.
وبدوره، استدعى صدّام حسين بعض كبار معماريّي العالم إلى بغداد، وكان في عدادهم روبرت فِنتوري الأميركيّ وتاكاياما اليابانيّ. وقد قيل إنّه شاركهم بنفسه بعض الحلقات الدراسيّة التي عُقدت لبحث الأساليب والمناهج العمرانيّة. وفي 1985، وفي ذروة الحرب مع إيران، أمر صدّام ببناء قوس النصر الشهير الذي افتُتح بعد أربع سنوات، وجاءت فكرته التصميميّة، حسب الصياغة الرسميّة، على النحو التالي: «تفجّرت الأرض وانهالت اليد التي تمثل القوة والعزيمة حاملة سيف القادسيّة، وهي يد السيّد الرئيس القائد صدّام حسين (حفظه الله) مكبّرةً 40 مرّة».
وقيل أيضاً إن صدّام هو الذي أمر بنقش بيتين معروفين من الشعر العربيّ على أحد جدران فندق الرشيد عند إتمام بنائه: أمّا الأوّل فعن «عيون المهى بين الرصافة والجسر» تكريماً لبغداد، لكنّ الآخر لعمر بن أبي ربيعة فذاك الذي ينتهي في شطره الثاني بـ «إنّما العاجز من لا يستبدّ».
وهتلر وصدّام ليسا نموذجين حصريّين في ما يُسمّى طلب المستحيل، وإن كانا الأشهر في محاولة مشاركة الله خَلقاً وهندسةً للعالم. فـ «النقش في الحجر»، على ما تقول «حكمة» شهيرة، شبيه «العلم في الصغر». والاثنان يصنعان العالم من صفر فيؤسّسانه تأسيساً محفوراً حفراً في صلب الأشياء بحيث لا تمتدّ إليه يد الزمن ولا تغيّر فيه وفي موقع مؤسّسه أو باريه.
ومشاركة الله فعلَه هي بعض ما يتيح الكلام عن وثنيّة القادة – الأساطير. فهم يكثّرون الله ويعدّدون الآلهة. وهم، في المعنى هذا، يرثون عن السلطات الدينيّة كراهية الفنّ والثقافة كما بلغت أوجها في العصور الوسطى الأوروبيّة. ذاك أن المبدع، بدوره، خالق وصانع يمثّل للسلطات الإلهيّة وشبه الإلهيّة تحدّياً واستفزازاً يترتّبان على المنافسة. وربّما كمن في هذه الإنشائيّة ميل سلطات الاستبداد، الدينيّ منه والمدنيّ، إلى كبت الثقافة وقمعها. فالأخيرة تعيد إنتاج المجتمع عبر الخَلْق، والأولى تفعل الشيء نفسه عبر التدمير، إذ الولادة والموت، في النظرة الرؤيويّة، شيء هيوليّ واحد.
صحيح أن الثقافة تنحاز أحياناً إلى الرؤيويّة، بل كثيراً ما تفعل. وليس إزرا باوند غير اسم واحد في لائحة طويلة ممن استهوتهم القيامة أو انجذبوا إلى المعجزة أو إلى الشهادة أو أُخذوا بالانسجام الذي تستبطنه الثقافة ويُحلّه الزعيم القائد في الأرض والواقع. ويُستحسَن، هنا، عدم الجري وراء ثنائيّات مبسّطة عن ثقافة مقدّسة وسلطة مدنّسة أو ما يشبه ذلك. بيد أن التجربة تعلّمنا أن الزمن العاصف المعبّئ للنفوس والمثقل بالأيديولوجيّات والقضايا الكبرى هو حاضنة الثقافة المناهضة للثقافة، على العكس من أزمنة الاستقرار السياسيّ والنفسيّ، وتالياً الثقافيّ. وكثيراً ما تولّى انحسار التعبئة أو تحوّل الطوبى الثوريّة إلى نظام مرصوص، وغالباً دمويّ، تحويل مثقّفين رؤيويّين عن رؤيّتهم، على ما تدلّ تجارب كاندينسكي ولوناتشارسكي وكثيرين انتسبوا إلى حركات توتاليتاريّة فاشيّة وشيوعيّة، قوميّة ودينيّة، قبل أن يغادروها. فـ «التوتاليتاريّة»، على ما كتب لاحقاً اليوغوسلافيّ ميلوفان دجيلاس، «تبدأ حماسة وإيماناً، وفقط بعد ذاك تصير منظّمات وسلطة». وربّما وقع الصدام الأعنف مع انكفاء المزاعم الكونيّة والانسانيّة نحو قوميّة ومحليّة حادّتين لا مكان معهما، أو فيهما، للحظة ثقافيّة. وهذا ما بات معروفاً جيّداً في تجربة الثورة البلشفيّة الروسيّة التي تراجعت وعودها بالتحرير الإنسانيّ الشامل لتستقرّ على الستالينيّة وقوميّة الدولة الكبرى. وفي زمن غير بعيد منّا، تعهّد علي خامنئيّ، في خطاب تسلّمه رئاسة إيران، للمرّة الأولى، عام 1981، باجتثاث «الانحراف والليبراليّة واليساريّين المتأثّرين بالأميركيّين»، هكذا دفعةً واحدة. بعد ذاك، حين سُمّي وليّ الفقيه بات موصولاًَ مباشرة بالله. وكان لقوميّة موسوليني الحادّة، مثلاً لا حصراً، أن درّجت الربط بين الثقافة الأجنبيّة والنفوذ الأجنبيّ، فمارست «لحماية» الثقافة الإيطاليّة إجراءات حمائيّة تشبه ما مارسته تجاه السلع الأجنبيّة والمستوردة الأخرى. ويُحفَظ للفاشيّة الإيطاليّة أنّها سكّت تعبير «الغزو الثقافيّ» الذي شاع لاحقاً في ربوعنا، قبل أن تسكّ الثورة الثقافيّة الصينيّة تعبير «التلوّث الروحيّ»، تمهيداً منها لـ«الثورة الثقافيّة الإسلاميّة» في إيران التي وعدت بتطهير الجامعات من التأثيرات الغربيّة، أي تحديداً الأميركيّة والأوروبيّة، ووفت بوعدها.
لكنّ القاعدة تبقى أن السلطة الاستبداديّة حينما ترعى الشعر والفلسفة والفنون والعمارة فبغرض تمكين سلطان الحاكم الربّ. هكذا يُحفَظ لشبير أو لغوركي مكانهما تحت قدمي هتلر وستالين. وقد قيل مرّةً إن جوزف غوبلز، وزير «الدعاية والتنوير» الألمانيّ، هو الوحيد المثير للاهتمام، الى جانب الفوهرر طبعاً، في النظام النازيّ. ذاك أن الآخرين، كغورنغ وهملر وبورمن، لم يفعلوا ما يردّون به جميل هتلر حين أوصلهم في معيّته الى السلطة. وحده غوبلز ربطته بزعيمه علاقة تبادليّة تولّى بموجبها صنع صورته وتجميلها.
فالمطلوب، لا سيّما في الأشكال الحداثيّة من الاستبداد، حيث الحزب والزعيم والإيديولوجيا، وجود ثقافة أدبيّة وفلسفيّة تقدّم صيغة عن الكون ككلّ وعن دور الحاكم في الخطّة المقدّسة لاشتغال المجتمع ولطبيعة الكائنات الإنسانيّة ومصيرهم في هذا العالم، وربّما في ما يليه.
والحاكم الخالق، الصانع، المُحيي، المميت، المهندس، الربّ، لا يطيق أقلّ من مدّ رجليه على مدى العالم وأحياناً على مدى الما وراء.
ملحق السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بعد سقوط الإيديولوجيات و أوهام الديكتاتوريات أصبح الرجل العادي هو سيد الموقف , قليل الصخب , يرفض استخدام شعرارات مثيرة شعبوية , غبي غالبا , يملك , و يهتم بمجاراته للصور الأيقونية للنجوم رغم أنه بعيد عنها جدا , هناك من يتحدث باسمه , أكثر ذكاءا غالبا , و من يمدحه , لأنه دون ذلك يبدو مجرد سوقي على رأس هرم مرتفع و لكنه على وشك السقوط , تتمسك النخبة بالوهم , فيم رفض فلاسفة ما بعد الحداثة أي أوهام , و اصروا على أن كل السرديات قد سقطت , و رفضوا أن يتحولوا إلى بوق لأحد , لن يعيش الناس أحسن بعد سقوط السرديات الإديديولجية , لكن هذا لا يهم , من وهم إلى آخر و لكن الأصنام لا تسقط أبدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى