كتاب عن جدوى التوجّهات التنموية في ظل هيمنة الديكتاتورية
مسعود ضاهر
هذا الكتاب هو ثمرة البحوث العلمية المعمقة التي قدمت إلى المؤتمر الثامن والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر الذي انعقد بدعوة من مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وبالشراكة العلمية مع مفوضية والوني بروكسل Wallonie-Bruxelles، في مركز المؤسسة بتونس خلال يومي 11 و12 ديسمبر 2009. وشارك في الكتاب باحثون جامعيون متخصصون وفدوا إلى تونس من بلجيكا، والجزائر، ولبنان، والمغرب الأقصى، والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى حشد من الباحثين التونسيين. تضمن الكتاب عددا من الأبحاث المنشورة باللغة العربية والتي شغلت 197 صفحة منه مقابل أبحاث أخرى بلغ حجمها 246 صفحة نشرت باللغة الفرنسية. أبرز تلك الموضوعات، وفق تسلسلها في الكتاب: التنمية المستدامة وأمن الإنسان في البلدان العربية، والمجتمع المدني والتنمية السياسية في أقطار المغرب العربي: مؤشرات التطور النوعي والتواصل العابر للحدود، وجدلية العلاقة بين التنمية المستدامة والديموقراطية في العالم العربي، والبحث عن أسس جديدة للمقاربات التنموية والمعلومات، وتطور وضعية النساء في المجالس التمثيلية بالمغرب العربي، والفساد والديموقراطية والتنمية، والديموقراطية والاستبداد المداهن، والديناميكية وتوافق السياسيات العمومية، والديموقراطية والعولمة وإنتاج ما بعد الحداثة، والأحزاب السياسية والانتخابات ومسار الدمقرطة، والجمعيات والسلط العمومية: التعاون المتضارب وبعض الدروس من تجارب الجمعيات البلجيكية، والدولة الوطنية والتخلف في المغرب العربي: عناصر مقارنة للمقاربة، ودور جمعيات الهجرة المغربية للمشاركة في الحياة الديموقراطية في بلجيكا، وتحدي التربية للسلم والمواطنة وهل أن المواطن قادر على تطوير السلم؟ والتنمية والتنمية المستدامة: معايير ومؤشرات التقويم، والأدوار الجديدة للدولة من أجل التنمية المستدامة بالمغرب العربي. دلت تلك البحوث المعمقة على حاجة الدول العربية، في المشرق والمغرب، إلى التنمية المستدامة التي باتت في صلب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتي قدمت جملة من العناصر التي تعتبر مؤشرات دالة على هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية السائدة في المنطقة العربية. وهي مكونات بنيوية تؤكد على أن التنمية المعتمدة في غالبية الدول العربية ليست تنمية بشرية واقتصادية مستدامة بل تنذر بتراجع مستمر على مختلف المستويات الثقافية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية وغيرها. كما أن ثقافة السلم الاجتماعي في علاقتها برهانات الديمقراطية والتنمية المستدامة صعبة المنال بسبب كثرة النزاعات المحلية في الدولة العربية. وهي منازعات حادة ذات طابع قبلي، وطائفي، ومذهبي، وعرقي، وسياسي، علما أن الطابع التحرري لثقافة السلم الاجتماعي ومستقبل الهوية التعددية والتنوع الثقافي هي القاعدة الصلبة التي بنيت عليها المجتمعات الأوروبية العصرية بفعل التحولات الاجتماعية والاقتصادية الشمولية، وتعزيز دور الفرد الحر والوعي في بناء السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي. بالمقابل ركزت بعض الأبحاث على ظاهرة الفساد وتأثيرها السلبي على التنمية الاجتماعية والاقتصادية ودورها في تبذير المال العام وعلاقتها بتعطيل المسار الديمقراطي والأداء السياسي الجيد في غالبية الدول العربية. فقد تحول الفساد إلى» ثقافة» شمولية في المجتمعات العربية، وساهم في توليد بيئة فاسدة وشرائح اجتماعية فاسدة تحُول دون بناء الديمقراطية وترسيخ ركائزها في الدول العربية. وتوصلت بعض الدراسات إلى نتائج بالغة الأهمية في مجال تحليل جدلية العلاقة بين التنمية الشاملة والديمقراطية في العالم العربي، والدروس التي على العرب الاستفادة منها بعد انهيار الأنظمة الشمولية السابقة، وتبنيها أنماطا سياسية ذات مسحة ليبرالية لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد هدرت موارد عربية كبيرة طوال العقود الماضية دون أن تحقق خطط التنمية العربية أيا من الأهداف التي رسمت لها. ولم توفر العدالة في توزيع الثروة ولا تكافؤ الفرص أمام المواطنين، بل قادت إلى تفشي الأمراض الاجتماعية وتدهور نظام القيم والسلوك الفردي والجماعي. ونشطت الدعوة إلى فك الارتباط التبعي مع الخارج، وبناء استراتيجية تنموية عربية جديدة تكون من نتاج المتنورين العرب، ولأهداف عربية بالكامل. ما يشجع الاعتماد على النفس لدى الفرد العربي والمؤسسات العربية عبر التركيز الثابت على أهمية الترابط الوثيق بين التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة والديمقراطية السليمة والمتطورة باستمرار. واشارت بحوث الكتاب إلى خصوصيات متعددة تتميز بها المجتمعات المدنية في منطقة المغرب العربي نظرا للتشكيلات العصرية فيها التي تجاوزت الأطر التقليدية الموروثة، ووفرة قنوات التواصل المباشر بين المجتمعات المغاربية والمجتمعات الأوروبية من خلال البعثات العلمية المتلاحقة ،ونظام التعليم الذي يركز على اللغة الفرنسية، والعمال المغاربة المتواجدين بكثافة في الدول الأوروبية، والمشاريع الاقتصادية المشتركة، وقنوات الإعلام والإعلان اليومية وغيرها. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين زادت قنوات التقارب العابر للحدود بين دول المغرب العربي وأوروبا على قاعدة قضايا مشتركة رغم الصعوبات الجمة التي ما زالت تواجهها بسبب التعقيدات الإدارية الكثيرة. تجلى ذلك التقارب من خلال طلب بعض الدول المغاربية الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي أو الحصول على امتيازات أو أولويات خاصة في مجال التبادل التجاري والثقافي والسياحي. وتأسست عشرات الاتحادات والجمعيات القطاعية المتنوعة لتعزيز الروابط المشتركة بين دول أوروبية ومغاربية. ونشطت المبادرات التربوية لإقناع الأساتذة والطلبة بالانخراط في الإطار المتوسطي وتجاوز الأطر الجغرافية والسياسية القائمة على ضفتي المتوسط. ليس من شك في أن المطالبة بديمقراطية متطورة تساهم في تطوير التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة تقع في صلب النشاط السياسي الذي تمارسه الأحزاب السياسية الأوروبية وتطالب بتعميمه على دول الجوار المغاربية. ما يمنح المواطن العربي في المغرب الشعور بالمشاركة مع الغرب عبر المقولات والنظم الديموقراطية التي تعلي من شأن الفرد وتشدد على المواطنة وتكافؤ الفرص في مجال تسيير الشأن العام. ورأت الدول المغاربية أن من واجبها اليوم تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز ركائز الديمقراطية فيها من خلال إصلاح الهياكل الإدارية والاقتصادية والتعليمية السائدة، وإقامة العدالة الاجتماعية عبر دولة القانون والمؤسسات، وعليها محاربة التجاوزات وكل أشكال الفساد والإفساد. على جانب آخر، تساءلت بعض الدراسات عن جدوى التوجهات التنموية في ظل هيمنة قوى غير ديموقراطية في غالبية الدول العربية. فالتنمية ليست محايدة لأنها تساهم في تنمية القوى التي تقوم بها. فهي تخدم الانتماء الطائفي في النظام السياسي الطائفي، والانتماء القبلي في دولة تدار بذهنية قبلية، ونظام المحسوبية والاستزلام في نظام يتحكم به الفرد الحاكم أو الحزب الحاكم. كما أن التنمية المستدامة سيرورة مستمرة تشهدها الدول المتطورة والنامية بدرجات متفاوتة. وهذا يفسر كثرة القوانين الصادرة حديثا والتي تنص على أهمية التربية على الديمقراطية السياسية الشاملة لمحاربة كل أشكال التمييز العرقي والاجتماعي، ومنح الفرص لجميع المواطنين، على اختلاف أصولهم العرقية وانتماءاتهم السياسية ومراتبهم الاجتماعية، لكي يساهموا في التنمية المستدامة وتنمية الديموقراطية في آن معا. وبدا واضحا من خلال بعض البحوث المعمقة في الكتاب أن مشكلات الديموقراطية لا تحل بالقمع بل بمزيد من الديموقراطية، وتدريب المواطنين على المطالبة بحقوقهم التي ضمنها لهم القانون، والقيام بواجباتهم بوعي فردي وجماعي للارتقاء بمجتمعاتهم بصورة مضطردة. وتم تسليط الضوء على قضايا كثيرة ذات بعد استراتيجي ومستقبلي لبناء منظومة عربية متطورة للديمقراطية والتنمية المستدامة حيث تتعدد مهمات الأنظمة والمجتمع والنخب في هذا التوجه الجديد، وتنفتح آفاق الاستفادة من التجارب الغربية والآسيوية الناجحة في هذا المجال. تمحورت أبحاث الكتاب حول رهانات الديمقراطية وعلاقاتها العضوية مع التنمية المستدامة وارتباطهما بمفاهيم عدة تتمحور حول فعالية المجتمع المدني، والمشاركة الشعبية، ودور الحاكم المتنور. لكن معالجة تلك الإشكاليات النظرية تحتاج إلى ثقافة استشرافية معمقة. فهناك أطراف عدة تتحمل مسؤولية غياب الديموقراطية أو عدم تطبيقها بصورة سليمة. وتقع المسؤولية على النظام السياسي المسيطر من جهة، وعلى مؤسسات المجتمع المدني المنتشرة على نطاق واسع في كثير من الدول العربية من جهة أخرى. كما أن النخب الثقافية العربية لم تشارك بصورة فاعلة في بناء قاعدة صلبة للممارسة الديموقراطية السليمة في المؤسسات المدنية التي تنتمي إليها على امتداد العالم العربي، ولم تشارك بصورة جدية في مخططات التنمية السياسية والاقتصادية والمعرفية المستدامة بسبب عدائها للسلطة السياسية التي تناهض الديمقراطية وتمنع تجذرها في الدول العربية.
عن ملحق نوافذ – جريدة المستقبل 28-11-2010