صفحات مختارة

التحول سيستغرق عقداً…

حسن نافعة
هل سقط المشروع الأميركي في المنطقة أم يراوح تمهيداً لنهوض جديد؟
العنوان الذي اختارته “قضايا النهار” محورا مفتوحا للنقاش على صفحاتها، ودعت مجموعة من الكتاب والمفكرين العرب للمساهمة فيه، وشرفتني بأن أكون واحدا منهم، يثير إشكالية يتعين تفكيكها في البداية قبل محاولة الإجابة عن السؤال المطروح. فتقديم إجابة رصينة ومدروسة عن سؤال ما إذا كان “المشروع الأميركي” في المنطقة قد سقط أم لا يستلزم الاتفاق أولا على تعريف واضح لماهية “المشروع” الذي نتحدث عنه وأن نميز بينه وبين “المصالح”. فلكل إدارة أميركية “تصور” أو “مشروع” أو “خطة” للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة  سواء في منطقتنا أو على مستوى العالم. هناك إذن “مصالح وطنية”، هي بطبيعتها ثابتة أو شبه ثابتة، وهناك “سبل” أو “طرق” أو “وسائل” تترجم على شكل “خطط” أو “مشاريع” أو “برامج”، جزئية أو شاملة، للدفاع، تستهدف تحقيق هذه المصالح والدفاع عنها، هي بطبيعتها متغيرة.
وقد كثر الحديث خلال السنوات الثماني الماضية عن “المشروع” الأميركي لسببين: الأول، سيطرة تيار “المحافظين الجدد” على الإدارة الأميركية منذ انتخاب الرئيس جورج بوش في تشرين الثاني 2000، وهو تيار له رؤية واضحة أو “مشروع” محدد للهيمنة على العالم. والثاني، قيام جماعة تنتمي لهذا التيار بتأسيس منظمة فكرية غير ربحية Think Tank عام 1997 أطلقت عليها اسم “مشروع القرن الأميركي الجديد”. ولأن أبرز أعضاء هذه الجماعة وفي مقدمتهم ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول ولفوفيتز وإليوت أبرامز وريتشارد أرميتاج وجون بولتون وزلماي خليل زاد ولويس سكوتر (ليبي) وريتشارد بيرل وروبرت زوليك وغيرهم، أصبحوا مسؤولين تنفيذيين شغلوا في إدارة بوش أهم المناصب المسؤولة عن رسم وتنفيذ السياسات الدفاعية والأمنية، فقد بدا “مشروع القرن الأميركي الجديد” وكأنه هو ذاته مشروع إدارة بوش. فكل السياسات والخطط التي روجت لها هذه الجماعة أو طالبت بها، حتى من قبل فوز بوش بمقعد الرئاسة، جرى تطبيقها بالحرف الواحد، خاصة عقب أحداث ايلول 2001.
تجدر الإشارة إلى أن هذا “المشروع” لم يكن مشروعا خاصا بمنطقة الشرق الأوسط ولكنه كان مشروعا للهيمنة على العالم. وإذا كان الشرق الأوسط قد احتل فيه موقعا مركزيا فذلك يعود لاعتقاد هذا التيار، خاصة لأسباب إيديولوجية ودينية تربط ربطا عضويا بين المصالح الأميركية والإسرائيلية، أن الطريق للهيمنة الأميركية على العالم تبدأ بالهيمنة على الشرق الأوسط.
فإذا كان السؤال المطروح يتعلق بـ “مشروع القرن الأميركي الجديد” فيمكن القول بكل ثقة إنه سقط، أو هو في طريقه الى السقوط نهائيا، وذلك للأسباب الآتية:
-1 إن هذا المشروع لم يحقق أيا من أهدافه المعلنة حتى الآن وليس من المتوقع أن يحقق أيا منها حتى موعد رحيل بوش عن البيت الأبيض في كانون الثاني المقبل، وهو التاريخ المتوقع لإعلان وفاة المشروع رسميا. فحصيلة “الحرب الكونية على الإرهاب” تكاد تكون صفرا: فبن لادن مازال حيا يرزق، و”طالبان” تعود إلى الساحة بقوة وتسيطر من جديد على معظم أفغانستان بل تهدد العاصمة كابول نفسها، وتنظيم “القاعدة” ما زال قادرا على الضرب العنيف في أماكن عديدة من العالم. صحيح أن الأراضي الأميركية نفسها لم تتعرض لهجوم منذ أحداث ايلول، لكن ذلك لا يعد دليلا على نجاح الحرب على الإرهاب، فقد كان يمكن تحقيق الهدف نفسه بوسائل أقل كلفة في الدم والأموال، فضلا عن مصالح أميركا وحلفائها في الخارج تعرضت ولا تزال تتعرض للخطر.
-2 إنه لم يحقق أيضا أيا من أهدافه الخفية، والتي كان معظمها يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بل مني بهزائم واضحة. فقد كان يفترض أن تكون الحرب على العراق، والتي لم يكن لها أي علاقة بالحرب على الإرهاب، بداية لتصفية النظم والجماعات المناهضة للسياسات الأميركية في المنطقة، خاصة: النظامين الإيراني والسوري ومنظمات “حماس” و”الجهاد” في فلسطين و”حزب الله” في لبنان. غير أن الجيوش الأميركية انغرست في الوحل العراقي وتكلفت من الخسائر المادية والبشرية اضعافاً مضاعفة مقارنة بالتقديرات الأولية. وعندما تم تحريك إسرائيل لتصفية “حزب الله” منيت بهزيمة فاضحة، وما زال برنامج إيران النووي مستمرا ويحقق تقدما كل يوم، وفشلت محاولات حصار سوريا التي تمكنت مؤخرا من فك عزلتها تماما وتحولت إلى لاعب أساسي في المنطقة من جديد، وما زالت “حماس” وبقية المنظمات الجهادية في فلسطين صامدة. أما “حزب الله” فقد أصبح أقوى مما كان عند بداية وضع “المشروع” الأميركي موضع التطبيق.
-3 تراجع مكانة وتأثير معظم رموز المحافظين من مؤسسي “مشروع القرن الأميركي الجديد” على الصعيدين الإيديولوجي والسياسي وداخل الإدارة الأميركية نفسها. فقد راحت فضائح العجز والفساد تتكشف تباعا مطيحة الرؤوس الكبيرة الواحد بعد الآخر، وفي مقدمها رامسفيلد، مما زعزع من هيبة تيار المحافظين الجدد ككل وخاصة من تأثير المنظمة التي أسست “المشروع” حيث خفت حدة النبرة المستخدمة في بياناته الحماسية ووثائقه المثيرة للجدل، وراح المشروع نفسه يتوارى إلى أن تحول مجرد موقع على الانترنت. ويرى بعض المحللين أن تلك كلها مؤشرات على أن ساعة التغيير في الولايات المتحدة قد حانت وبدأت تدق.
-4 تراجع دور ومكانة الولايات المتحدة نفسها، كقوة عظمى وحيدة مسيطرة على النظام العالمي، وذلك على الصعيدين السياسي والأخلاقي. فقد بدأت قوى دولية أخرى، في مقدمها روسيا الاتحادية، تجرؤ على تحديها وتمكنت بالفعل من إظهارها بمظهر العاجز والمغلوب على أمره، وهو ما تجلى بوضوح إبان الأزمة الأخيرة في جورجيا.
غير أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن الولايات المتحدة تحولت قوة دولية من الدرجة الثانية أو أنها باتت عاجزة عن الدفاع عن مصالحها في الخارج. فهي لا تزال أقوى دولة في العالم وتملك من عناصر القوة الشاملة ما يفوق بكثير ما تملكه أي قوة دولية أخرى، بما فيها روسيا الاتحادية، وسوف تظل كذلك طوال العقد المقبل على الأقل، على الرغم من أن وزنها النسبي في النظام العالمي يتآكل بانتظام، ومن ثم فهي قادرة عن الدفاع عن مصالحها بكل الوسائل الممكنة، بما فيها الوسائل العسكرية. غير أن وسائلها في الدفاع عن هذه المصالح ستتغير بالقطع لأن مشروع المحافظين الجدد الذي اعتمد على القوة العسكرية وشن الحروب الاستباقية والانفراد باتخاذ القرار في النظام الدولي سيتغير لمصلحة تفعيل الوسائل الأخرى، خاصة الوسائل الديبلوماسية والاقتصادية والإعلامية، وتوسيع نطاق التشاور والعمل الجماعي مع الحلفاء. وسوف يتوقف حجم التغيير المتوقع في المرحلة المقبلة على عوامل عدة أهمها:
-1 سلوك الإدارة الأميركية الحالية حتى نهاية ولايتها خاصة في ما يتعلق بالضربة العسكرية المحتملة على إيران. ورغم أن الحسابات العقلانية البحتة تشير إلى استحالة توجيه مثل هذه الضربة، إلا أنني لا أستبعد كليا قيام بوش بأي حماقة، نظرا الى حساباته اللاعقلانية وتصرفاته المدفوعة برؤى إيديولوجية شديدة التطرف. بل إن بعض المعلقين لا يستبعد قيام بوش بتوجيه ضربة عسكرية لإيران حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل خصوصا إذا فاز بها أوباما، وذلك لوضعه أمام أمر واقع جديد.
-2 نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. من المتوقع أن يكون التغيير كبيرا في حال فوز أوباما، خصوصا في الأساليب والتكتيكات المستخدمة وليس بالضرورة في الأهداف. أما إذا فاز ماكين فسوف يكون التغيير أقل. لكنني لا أتفق مع الرأي القائل بأن ماكين سيكون نسخة مكررة من بوش فرغم أن مواقف ماكين ابتعدت كثيرا عن مواقفه السابقة، كواحد من “جيل حرب فيتنام”، حيث يبدو الآن كأحد صقور المحافظين الجدد، إلا أن خبرته السابقة كقائد عسكري والدروس المستفادة من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها بوش، كلها عوامل ترجح كفة التغير على كفة الاستمرارية.
-3 سلوك اللاعبين الدوليين الآخرين وتصميمهم على المشاركة في صنع القرار في النظام الدولي. فمع بروز روسيا الاتحادية كلاعب مختلف عما كان عليه في الفترة الأخيرة سوف تظهر تدريجا ملامح لقواعد جديدة في إدارة اللعبة الدولية. وقد يحاول العرب، وربما يتمكنون من الاستفادة بشكل أفضل من هذه القواعد.
وأيا كان الأمر، ورغم الحالة المزرية التي يبدو عليها النظام الرسمي العربي، فيجب ألا ننسى أن جزءاً كبيرا من الفضل في وضع حد لغطرسة المشروع الامبراطوري الأميركي، كما جسّده المحافظون الجدد، يعود في المقام الأول إلى قوة عربية وإسلامية بصرف النظر عن الموقف السياسي أو الإيديولوجي من سلوك وطروحات هذه القوى.
أعد المحور موسى عاصي
(عميد كلية العلوم السياسيةوالاقتصادية في جامعة القاهرة)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى