قضية فلسطين

غـزة… غـداً يـوم آخـر

سمير كرم
ليس هذا وقت اختبار باراك اوباما… مع ذلك فإن اسرائيل تعرف أن هذا التوقيت هو أحسن التوقيتات الممكنة لتفعل ما تشاء وتقف تتفرج على الولايات المتحدة ـ الادارتين القديمة والجديدة ـ تتعلمان كيف تتم عملية برمجة السياسة الخارجية الأميركية مجدداً، وإن بالمادة القديمة نفسها، على يد قادة اسرائيل حكومة ومعارضة.
وليس الميدان هو نفسه الميدان الذي وقفت فيه ادارة بوش الى اليمين من حكومة اسرائيل تحضها وتحرضها وتشجعها على مواصلة القتال ضاربة عرض الحائط بالرأي العام العالمي وبرد فعل الأطراف العربية… ليس لبنان ولكنها الخطط تكرر نفسها. والفرصة مؤاتية لتتعلم الولايات المتحدة ما لم تستطع ان تفعله على مدى ستين عاما من حرب كوريا حتى حرب اسرائيل على لبنان في عام ٢٠٠٦ وهو كيف تستطيع ان تواجه قوة مقاومة تنهج استراتيجية غير تقليدية… بإيجاز تتعلم كيف تتعامل مع حرب غير تقليدية… كيف تعلم جيشها مواجهة قوة ليست قوة منظمة لجيش دولة… انما قوة ضاربة لمقاومة شعبية.
وقد دفعت ادارة بوش مقدما ثمن الدروس التي تنتظر ان تجنيها من الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين. فإن توقيت تسليم اسرائيل للاسلحة الجديدة والمساعدات العسكرية بقيمة ٣ مليارات دولار (هبات لا تردها اسرائيل الى اميركا) فوصلت الى اسرائيل قبل بداية الهجمات على غزة بوقت قصير. وليس من قبيل الصدفة انها تشمل المقاتلات اف ١٦ وطائرات الهيليكوبتر الهجومية أباتشي والصواريخ »تاو« و»هلفاير« (معناها نار الجحيم)… وتشمل ايضا قطع الغيار اللازمة لها وكذلك الوقود. والاهم انها تشمل قنابل تفريغ الهواء التي تستخدم في هدم البنايات كلية… بل وتشمل قنابل اختراق الارض.
وليس اي من هذه الاسلحة للدفاع عن النفس. انها اسلحة هجومية من الفها الى يائها… من اطلاقها الى نتائجها التي تتسم بالفظاعة واللاإنسانية…
وليست القوة التي تواجهها اسرائيل هي القوة التي واجهتها في لبنان. العدو في هذه الساحة ليس حزب الله وان كان شبيها به و في ظروف مغايرة..
والنتائج ـ حتى الآن ـ لا تبدو مماثلة لنتائج حرب صيف ٢٠٠٦ وان عرضتها تغطية الفضائيات بما يكفي من صور الوحشية الاسرائيلية ووفرة الدم المسفوك بين المدنيين: العدو الذي تقدر عليه اسرائيل واسلحتها الجوية وخططها للتحكم من بعيد اقتصادا في دماء العسكريين الاسرائيليين..
مع ذلك فان رغبة اسرائيل في التخلص من عقدة الهزيمة العسكرية الحاسمة والقصوى في حرب صيف ٢٠٠٦ ظهرت واضحة كشمس تموز/ يوليو انما في عز شتاء غزة. كانت اسرائيل في صيف ٢٠٠٦ تبحث عن فرصة لتحطيم حزب الله ولبنان. وقتها ظنت اسرائيل ان الفرصة جاءتها من السماء الزرقاء كما يقول تعبير اميركي معروف… فاذا بها ـ نتيجة قتال مستمر ٣٤ يوماً ـ تتحوّل الى كارثة للاستراتيجية الاسرائيلية ـ الاميركية وهزيمة لجيش »الدفاع الاسرائيلي« ووبال على القيادة العسكرية الاسرائيلية.
لكن اسرائيل ارادت ان تعيد الكرّة فيما اعتقدت انه مشهد مماثل انما تتوفر لها فيه كل العناصر التي تجعل النتائج تختلف. اعتقدت ان صواريخ »حماس« المحلية الصنع تعطيها الفرصة للانقضاض على الشعب الفلسطيني في غزة آخذة حماس في طريق مذبحة واسعة النطاق الى حتفها ومع فصائل المقاومة التي تمترست في غزة بعد خديعة الديموقراطية التي اجادت واشنطن الدفع باتجاهها… حتى اذا ما تحققت النتيجة التي اسفرت عنها العملية الديموقراطية الفلسطينية وقع الانقلاب الاميركي الكبير في السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، بعد مجيء المقاومة الفلسطينية الى السلطة السياسية تنفيذية وتشريعية.
كما قالت اسرائيل ـ وآلتها الحربية الجوية تدمر لبنان وبنيته التحتية بشكل خاص ـ انها لا تعمل ضد لبنان، انما ضد حزب الله، تقول الآن انها لا تعمل ضد غزة ولا ضد الشعب الفلسطيني انما ضد حماس وفصائل المقاومة التي تقف معها ـ كأن العيون لا ترى الأهداف التي وجهت اليها اسرائيل ضرباتها من الجو: من المنازل الى المساجد الى الابنية الحكومية المدنية. تكرار لا يمكن ان يفلت من العين المجردة. والتكرار ماثل ـ بالمغزى نفسه ـ في الموقف الاميركي، ولا تزال كوندليسا رايس هي ذاتها، تؤكد تفهم الادارة الاميركية لاسباب اسرائيل واهدافها، وهو نفسه ما اكده وزير الخارجية المصري في وجود رايس الاسرائيلية، تسيبي ليفني وزيرة خارجية اسرائيل، التي سمحت لها القاهرة بأن تردد التهديدات ضد المقاومة الفلسطينية وهي في العاصمة المصرية واثر اجتماع مع الرئيس المصري.
ويفضح هذا التماثل كيف ان اسرائيل ارادت هذه المرة ـ اكثر مما ارادت في حربها على لبنان عام ٢٠٠٦ ـ ان تظهر قدرتها على انتهاز فرصة »الخلافات العربية« (بين الاغلبية المعتدلة والاقلية الممانعة) لتحقيق هدف سياسي عميق الاثر: اهانة العرب وحكامهم بوضعهم في موضع العاجز امام تحركها العسكري ضد الفلسطينيين.
ولعل اول المصابين في هذا الهجوم الرامي الى اهانة الحكام العرب هو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس…الذي لا تكتفي اسرائيل منه بدور تحميل حماس مسؤولية انفجار الوضع وانهيار التهدئة. فيما كان ينتظر من »ابو مازن« ان يكون في غزة في اوقات محنتها الى جانب قيادتها الفلسطينية كوسيلة وحيدة لتأكيد الوحدة الوطنية.
وبدوره يفضح عزم اسرائيل على اهانة العرب وحكامهم رسالة اسرائيلية توجه الى هؤلاء بأن اسرائيل لا تريد سلاما مع الفلسطينيين. ان الطريقة التي ارادت بها اسرائيل حربا ضد غزة وسكانها ـ باسم حرب على »حماس« ـ والوحشية الصارخة فيها وفي الاستهانة المطلقة بأرواح الفلسطينيين. ماذا يمكن ان تفعل اسرائيل اكثر مما فعلته وتفعله في غزة لتقنع العالم ـ كله ـ بأنها لا تريد سلاما مع الفلسطينيين؟
وبدوره يفضح اطلاق اسرائيل العنان لنفسها بلا اي حدود او قيود لتحقيق هدف »القضاء على المقاومة« الكثير عن حقيقة »شعب اسرائيل«… ربما اكثر كثيرا مما يتضح عن اي فاعل آخر في الاحداث… بما في ذلك حكومة اسرائيل والمعارضة الاسرائيلية وعن الحكام العرب المعتدلين. لقد ردد القادة الاسرائيليون ـ العسكريون والسياسيون ـ كثيرا خلال الايام الماضية القول ان العملية الاسرائيلية العسكرية ترمي الى »توفير حياة آمنة لشعب اسرائيل«… فأي شعب هذا الذي يعتبر انه آمن اذا كان هذا الأمن لا يتوفر الا بشلال دم متدفق ونطاق دمار دائم الاتساع؟ لقد اظهر شعب اسرائيل ـ بألوانه السياسية المتعددة ـ انه يؤيد بناء امنه على مجازر وحشية ضد الفلسطينيين العزل الذين هوجموا بعد حصار استمر لشهور. ان مواقف »شعب اسرائيل« خلال هذا العدوان تقدم دليلا كافيا على انه يفضل القضاء على الفلسطينيين على اي سلام معهم. وشعب له مثل هذا الميل يشكل خطراً داهما على المنطقة ـ وليس على الفلسطينيين وحدهم ـ لان اسرائيل دولة نووية تملك اكثر من ٢٠٠ قنبلة نووية… ويمكن القول ان خيار استخدام السلاح النووي في تحقيق ابادة جماعية باستخدام الاسلحة التقليدية… او اذا لم تنجح في فرض عملية تهجير او »ترانسفير« جماعية للفلسطينيين الى خارج وطنهم… بل بعيداً عنه.
هل صدق احد ـ حتى من الاسرائيليين او الاميركيين أصحاب هذا الزعم ـ ان اسرائيل اقدمت على هذه الجرائم ضــد الانســانية بسبب همومها الامنية؟
وكيف يمكن تصديقها واهدافها السياسية واضحة من البداية ، بل منذ وقت طويل يرجع الى ظهور نتائج الانتخابات الفلسطينية في عام ٢٠٠٦؟
هدفان سياسيان تقدما بقية الاهداف الاسرائيلية: اولهما ازالة حماس ككيان سياسي وثانيهما ازالة آثار هزيمة اسرائيل في لبنان في صيف .٢٠٠٦ والهدفان معا يمهدان لترسيخ استراتيجية اميركية ملحة في الشرق الاوسط تبقي سيطرة اميركية كاملة في المنطقة تقوم فيها اسرائيل بالدور الاساسي وتقوم نظم الحكم »العربية« المعتدلة بأدوار ثانوية (كومبارس) في التطورات المستهدفة.
وللحقيقة فان اصحاب الادوار الثانوية في تنفيذ الاستراتيجية الاميركية ـ الاسرائيلية في الشرق الاوسط لم يفتقدوا المبررات التي ظنوا انها كافية لاقناع الشعوب العربية ـ شعوبهم ـ بان لا بديل عن هذا الاعتدال، وان لا ضرر منه…ان لم يكن مصدرا للخير والاستقرار والرخاء.
المعادلة التي يؤسس عليها المعتدلون العرب »وقفتهم« مع سلطة ابو مازن هي ان سياسة مسالمة اميركا واسرائيل هي سياسة جنبت بلدانهم الدمار والخراب والدماء وضمنت الاستقرار لهذه البلدان. لسان حال هذه النظم يقول: هل كنتم تفضلون عراقا في السعودية او في مصر او في الاردن؟…أليس خيرا اننا تجنبنا الحرب لاطول فترة في تاريخنا: ٣٥ عاماً كاملة منذ حرب تشرين الاول/ اكتوبر ١٩٧٣؟ »الا تفضلون ان يحدث هذا كله للفلسطينيين وليس لكم؟«(…)
افضح ما افتقده هذا المنطق هو ادراك الواقع الحقيقي وهو ان الفلسطينيين جزء منا (كما حال اللبنانيين قبلهم). وان الدماء الفلسطينية دماء عربية وان الضحايا الفلسطينيين شهداء مسلمون. لكن تقدير النظم الحاكمة ان هذا امر يمكن تجاهله او معالجته بالكلام مع العدو…
لكن للشعب ـ للجماهير العربيةـ رأيا آخر.
لا معنى لهذا السلام الذي يضع رقاب الاشقاء تحت سيوف السفاحين والقتلة الذين اتوا من اصقاع الارض الى فلسطين. لا معنى للاستقرار الذي لا يبدو فيه شيء في استقرار الا كراسي الحكم. لا معنى للرضوخ للهينمة الاميركية حتى في زمن انحدارها… بل احتضارها. لا معنى لقبول الركوع امام نعال الخطط العسكرية الاميركية ـ الاسرائيلية لتحويل ظهورنا الى عتبات تخطو عليها من مواقع العمل لازالة حماس من الميدان العسكري لازالتها من الميدان السياسي الى مواقع العمل لتغيير نظام الممانعة في سوريا ونظام الممانعة في ايران…
بالتحديد فان للشعب الفلسطيني ـ على الرغم من كل ما يقال عن »انقسامه« وانفراط وحدته الوطنية ـ رأياً آخر في مواجهة الآلة العسكرية الاسرائيلية ـ الاميركية…
ان قدرة الشعب الفلسطيني على تأكيد وحدته كجماهير في اي مكان كان، تتجاوز الانقسام الفصائلي بين اعتدال قادة السلطة الفلسطينية وممانعة قيادة المقاومة. وهي وحدها استطاعت ان تبرز بوضوح المعنى الحقيقي لممانعة المقاومة في وجه السلطة.
[[[
الآن لا شيء مرهونا بذهاب بوش او مجيء اوباما. لا شيء مرهونا ببقاء او سقوط نظم الاعتدال »العربية« تحت ضغط الغضب الشعبي. الامور مرهونة بقوى المقاومة وهي تتوحد مع الشعب وتصمد فتقاوم… وتقاوم فتصمد.
النتائج مرهونة بحقيقة ان كل اسلحة اميركا في ايدي الاسرائيليين كانت او في ايدي الاميركيين انفسهم لا تستطيع ان تقضي على ارادة شعب مقاوم.
اليوم نتحدث عن فظائع الجرائم الاسرائيلية في غزة.
غداً نتحدث عن انتصار »فلسطين« العظيم على اسرائيل واميركا.
انه صيف ٢٠٠٦ اللبناني يمتد في شتاء عام ٢٠٠٨ الفلسطيني.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى