صفحات أخرى

ريجيس دوبريه والصراع العربي- الإسرائيلي عرض وتقديم لكتابه: غرّ ساذج في الديار المقدسة أو كانديد في الديار المقدسة

null
هاشم صالح
لا أعتقد أنّ ريجيس دوبريه كان غرّا أو ساذجا إلى هذا الحدّ عندما ذهب إلى المنطقة لاستقصاء آخر أخبارها وتقديم تقرير خاص عنها إلى الرئيس الفرنسي السابق: جاك شيراك. ففي البداية كان الأمر يتعلق بمجرد تقرير. بل طلب منه شيراك أن يكون محصورا بالمسيحيين العرب. ولكنه بعد أن وصل الشرق الأوسط وقابل معظم الشخصيات النافذة من مثقفين وسياسيين وسّع دائرة البحث كي تشمل الجميع لا المسيحيين العرب وحدهم. نقصد بالجميع هنا المسيحيين والمسلمين واليهود. وعلى هذا النحو زار الرجل كل المناطق من إسرائيل إلى فلسطين إلى لبنان إلى الأردن وسوريا..ورأى الأمور عن كثب وحاور وناقش وكان أن نتج هذا الكتاب. الشبه الوحيد بينه وبين قصة كانديد الشهيرة لفولتير هو أن كليهما عاد متشائما من رحلته: أي خائفا من الوضع العام والطبيعة البشرية. لقد أصبح واقعيا أكثر بعد أن كان ساذجا يرى العالم بمنظار وردي ويعتقد أن الناس كلهم ملائكة..بعد أن زار دوبريه كل أرجاء المنطقة عرف أن الأمور أكثر تعقيدا من ذلك وانّ الأحقاد عنيدة ورازحة. ولم تعد هذه الأحقاد محصورة فقط بالعرب/ واليهود، أو بالفلسطينيين/ والإسرائيليين. وإنما اتسعت كي تشمل المسلمين/ والمسيحيين العرب في مصر ولبنان وسوريا والعراق خصوصا. ثم تفاقمت بشكل أخص كي تندلع بين السنة/ والشيعة داخل الإسلام نفسه. وعلى المستوى العرقي أو الأقوامي لا نستطيع أن نستهين بالحزازات الفارسية/ العربية، أو الكردية/ العربية، الخ..باختصار فإن المنطقة تحولت إلى حقل متوتر تنفجر فيه القنابل الموقوتة والمحتقنة منذ زمن طويل. من هنا أهمية هذا الكتاب. فهو لا يجامل ولا يراوغ وإنما يسمي الأشياء بأسمائها ويدعو العرب إلى المزيد من العقلانية في تحليلهم للظواهر أو فهمهم للأمور..كما يدعوهم إلى القبول بالواقع الإسرائيلي رغم الظلم الفادح الذي أصاب الفلسطينيين وأيضا اللبنانيين والسوريين وبقية العرب من جراء إقامة دولة إسرائيل.
والشيء الذي يفاجئ العربي في كتاب دوبريه هو انه يبدو متفهما أكثر من اللزوم للحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل. صحيح انه يدين الأعمال العدوانية التي  ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين أو اللبنانيين ولكنه لا يدين الفكرة من أساسها. فهو يرى أن إسرائيل ليست استعمارا كبقية الاستعمارات. لا ريب في أنها استعمار ولكن من نوع مختلف. لماذا؟ لأن الدولة الإسرائيلية كالدولة الأرمنية كلتاهما ناتجة عن اكبر مجزرتين في التاريخ الحديث: مجزرة الأرمن عام 1915 ومجزرة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. والكوارث في رأيه تصنع أحيانا المعجزات. وبالتالي فهناك تبرير أخلاقي أو تاريخي في نظره لما يبدو وكأنه استعمار غير مبرر على الإطلاق.
ولكنه في ذات الوقت يقول لنا إن الصهيونية لا تمثل جوهر الشعب اليهودي. يحصل ذلك كما لو انه يعتذر عنها أو يعتبرها شيئا سيّئا. مهما يكن من أمر فإننا نلاحظ وجود بعض التناقض أو التذبذب في موقفه هنا. وذلك لأنه في صفحات لاحقة يعترف صراحة بأنّ الغرب هو الذي أجبر العرب على دفع ثمن المحرقة رغم انه هو المسؤول الوحيد عنها ولا علاقة لهم بها. وبالتالي فالرجل يعترف بالحقيقة الموضوعية فيما يخص  قضية فلسطين ولا يتهرب منها أو يزورها كما يفعل معظم مثقفي الغرب وبخاصة في الساحة الباريسية. وفي إحدى المقابلات يقول له أحد الفلسطينيين بما معناه: كيف يمكن لشخص جاء إلى هنا من أقاصي الأرض، من روسيا أو بولونيا أو نيويورك الخ..، أن يكون له حق في هذه الأرض أكثر مني؟ ويوافقه دوبريه على ذلك. ولكنه في ذات الوقت يحاول أن يجد بعض التبريرات للحركة الصهيونية ولقيام الدولة الإسرائيلية. بل انه لا يخفي إعجابه بالشعب الإسرائيلي بعد ان جال في مناطقه طولا وعرضا وكأنه سائح متجول لا على التعيين. و من أسباب إعجابه أن الإنسان الإسرائيلي يحب المطالعة أكثر من جيرانه العرب. انه يقرأ بمعدل تسع كتب في السنة، هذا في حين أن الأردني لا يقرأ كتابا واحدا في المعدل العام. ثم يتساءل المؤلف: ولكن ما حاجة العرب أو المسلمين إلى الكتب إذا كانوا يمتلكون الكتاب الأعظم؟ لماذا يطالعون ويعذبون أنفسهم وهم يمتلكون الحقيقة المطلقة بين دفتي كتاب واحد. انه يغنيهم عن كل كتب الأرض..
هذا الكلام قد يصدمنا لأنه ليس كل العرب أصوليين يعتقدون بان كل المعرفة البشرية موجودة في القرآن بما فيها علم الذرة.. وهناك أردنيون كثيرون يقرؤون أكثر من كتاب واحد في السنة أو حتى أكثر من عشر كتب..فالشعب الأردني ليس جاهلا إلى مثل هذا الحد. وقل الأمر ذاته عن السوريين وسواهم من الشعوب العربية. بل إن الشعب الفلسطيني هو من أكثر الشعوب ثقافة ومعرفة وتقدما. والبعض يقول بأنه قد يسبق اليهود يوما ما لأنه شعب محنة أو فجيعة كبرى مثلهم. والفجائع تصنع أحيانا المعجزات. وهذا ما يوافق عليه دوبريه.
ويرى المؤلف أن التلفزيون قتل الشبيبة العربية. أما الشبيبة الإسرائيلية فلا تزال تقاومه حتى الآن. ثم يضيف قائلا: انه لشيء غريب يدعو للدهشة: اليهود أيضا “أهل كتاب” مثل العرب أو المسلمين ومع ذلك فإن هذا الكتاب، أي التوراة، لم يقتل الكتب الأخرى العلمانية أو الدنيوية. وربما كان على العرب أن يقلدوهم من هذه الناحية. فالقرآن لا يغني عن كتب الفلسفة والعلوم الإنسانية وسواها. وهذا صحيح. ولكن سيادته يتجاهل أن الكثير من الإسرائيليين هم من أصول أوروبية أو على احتكاك مباشر بالغرب وبالتالي فيتمتعون بإمكانيات مادية وثقافية متفوقة منذ البداية على جيرانهم العرب سواء أكانوا أردنيين أم سوريين أم مصريين الخ..هناك تفوق منذ نقطة الانطلاق الأولى، منذ نقطة الصفر. وبالتالي فليصبر علينا قليلا فعهد الشعوب العربية قادم لا محالة. ومستقبل العرب أمامهم لا خلفهم لأنهم شعوب جديدة، شعوب طازجة، لم تدخل التاريخ بعد..وهذا على عكس الشعوب الغربية التي شاخت وتعبت بعد أن شبعت من دخول التاريخ وتجريب ذاتها وإمكانياتها وطاقاتها.
تأسيس إسرائيل هل هو حلال أم حرام؟
رأي عالم الانتربولوجيا الشهير كلود ليفي ستروس
مما يلفت الانتباه أن  ريجيس دوبريه يعارض  كلود ليفي ستروس في نقده المبدئي والعميق للفكرة الصهيونية. نقول ذلك رغم  أنّ عالم الانتربولوجيا الكبير ومؤسس الفلسفة البنيوية هو من أصل يهودي على عكس دوبريه الذي لا أصول يهودية له. وهذا ينقض الفكرة الشائعة في العالم العربي والقائلة بأن كل مثقف يهوديّ في فرنسا هو بالضرورة وبشكل أوتوماتيكي مع الصهيونية. لا ريب أن الأغلبية تتعاطف معها ولكن هناك استثناءات عديدة. ومما يزيد موقف كلود ليفي ستروس شرفا وعظمة هو انه عانى بالفعل من الاضطهاد كيهودي إبان احتلال فرنسا من قبل النازيين. صحيح انه مادي ملحد ولا يؤمن بأي دين من الأديان كما يصرح بذلك علنا. ولكنه يبقى من عائلة يهودية في نهاية المطاف..وقد حاسبه الفاشيون على أصله آنذاك..ومع ذلك فلم يصبح صهيونيا ولم ير أي ضرورة لإنشاء دولة يهودية. وعلى أي حال فهذا أمر لا يعنيه على ما يبدو كثيرا..
منذ زمن طويل كنت أتمنى أن أعرف رأي ليفي ستروس في إنشاء دولة إسرائيل دون أن أصل إلى نتيجة حتى وقعت على هذا الكلام الذي يستشهد به ريجيس  دوبريه في كتابه. يبدو أن ليفي ستروس صرح في إحدى المرات ليهودي كبير آخر عن مكنون صدره قائلا بما معناه: تصوُّري للمسألة الإسرائيلية مرتبط بتصوري لمسألة أخرى أكثر حساسية بالنسبة لي. وأقصد بها مسألة الهنود الحمر الذين درست قبائلهم في بداية حياتي الانتربولوجية عندما سافرت إلى القارة الأميركية. فالأوروبيون الذين ذهبوا إلى هناك لتأسيس الولايات المتحدة كانوا مضطهدين أيضا مثل اليهود الذين ذهبوا إلى فلسطين لاحتلالها. ولكنهم وجدوا شعوبا أصلية أضعف منهم تسكن البلاد منذ آلاف السنين. وقد استأصلوهم وحلوا محلهم كما هو معروف..وهذا ما يحصل للفلسطينيين أيضا. وبالتالي فلا أستطيع أن أتعاطف مع الهنود الحمر المنقرضين دون أن أفعل نفس الشيء مع العرب الفلسطينيين المهددين بالنزوح عن ديارهم..لا أستطيع أن أكيل بمكيالين أو بمعيارين..
هذا الكلام الذي يشرّف صاحبه قاله ليفي ستروس لريمون آرون الذي كان متعاطفا جدا مع الحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية الناتجة عنها. وقد هاجم ديغول مرة لهذا الغرض بعد مؤتمره الصحفي الشهير الذي ندد فيه بإسرائيل إثر عدوان خمسة حزيران 1967 وقال فيه عن اليهود هذه العبارة: شعب من النخبة فخور بنفسه وميال إلى الهيمنة. فأقامت الدنيا ولم تقعدها رغم  أن فيها من المدح أكثر ما فيها من الذم إلى درجة أن ديغول صرح لاحقا للدفاع عن نفسه ضد الحملة الهائلة عليه: كنت أتمنى لو استطيع أن أقول عن الفرنسيين نفس الشيء.. فما هو رأي ريجيس دوبريه به؟ انه يزاود عليه يهوديا إذا صحّ التعبير ويرفض المقارنة بين الولايات المتحدة وإسرائيل رغم اعترافه بأوجه الشبه بينهما أو بين كيفية تأسيسهما. لماذا؟ لأن إسرائيل، على عكس أميركا، هي دولة شعب يمثل أقلية مضطهدة على مدار التاريخ. هذا في حين أن الولايات المتحدة هي دولة شعب ضخم وقوي وامبريالي متغطرس بل ويهدد مستقبل العالم في عهد بوش الحالي. على هذا النحو يفصل ريجيس دوبريه بين إسرائيل والولايات المتحدة ناسيا أو متناسيا أن الدولتين متحدتان الآن بشكل لا ينفصم. وهكذا ظل الماركسيّ الثوريّ السابق مضادّا للامبريالية الأميركية وكارها لها. من هذه الناحية لم يتغير صديق تشي غيفارا كثيرا.. ولكنه كف عن أن يكون مضادا للحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية بشكل مبدئيّ أو جذريّ. هذا هو المتغير الأكبر الذي طرأ عليه والذي يتجلى بوضوح من خلال قراءة هذا الكتاب. هذا لا يعني بالطبع انه غير حساس للآلام الفلسطينية والحق الفلسطيني ولكنه أصبح أكثر تفهما وقبولا لوجود دولة إسرائيل في المنطقة. وربما لهذا السبب رحب جان دانييل بكتابه وحيّاه على صفحات مجلته الشهيرة: النوفيل اوبسرفاتور.
أخيرا فإنّ ريجيس دوبريه يعتقد بأنه لو ترجمت جريدة هآرتز الإسرائيلية إلى اللغة الفرنسية لاتسعت حرية التعبير في باريس! هناك حرية مطلقة للتعبير في إسرائيل بشرط أن تكون يهوديا. ولذلك يمكن تعريف إسرائيل على النحو التالي: إنها دولة ديمقراطية بالنسبة لليهود ودولة يهودية بالنسبة للعرب.هنا نلاحظ أن الرجل موضوعي ولا يجانب الحقيقة بل ويوجه انتقادات قوية للدولة العبرية..والواقع انه يحاول على مدار الكتاب أن يكون موضوعيا وألا يطمس الحقائق أبدا ولكن دون أن يجرح أحدا بشكل قاتل: لا الإسرائيليين ولا العرب. من هنا المرونة الهائلة للكتاب. أول سمة يتميز بها هذا الكتاب هي المرونة. ولا غرو في ذلك فالرجل يعرف انه يمشي على أرض خطرة مليئة بالألغام.. وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: هل سيفهم موقف ريجيس دوبريه من القضية الفلسطينية يا ترى أم إن أصابعه ستحترق بها مثلما احترقت أصابع سارتر من قبله؟ السؤال مفتوح على الأيام الآتية..
ريجيس دوبريه والتعاطف مع الحق الفلسطيني
ولكن لا ينبغي أن نتوهم أنّ ريجيس دوبريه قد أصبح صهيونيا خالصا! في الواقع إن هذا تقييم ظالم لكتابه. فالرجل يعترف بالحقيقة الفلسطينية. والدليل على ذلك الفصول التي كرسها للموضوع داخل الكتاب.
فهو هنا لا يناور ولا يداور وإنما يسمي الأشياء بأسمائها وله فضل الصراحة الكاملة والوضوح. ولا يمكن إلا أن يشكره القارئ على ذلك. انه يدين بكل قوة اكبر عملية نفاق سائدة الآن على الصعيد الدولي كله: ألا وهي أكذوبة الحرص على قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل! كل المؤتمرات واللقاءات الدبلوماسية وكل تصريحات زعماء العالم بمن فيهم قادة إسرائيل تحاول أن توهمنا بأن الجماعة الدولية تعمل من اجل قيام دولة فلسطينية قريبا. ولكن الكلام المعسول شيء وحقيقة الأمر على ارض الواقع شيء آخر كما اكتشف دوبريه من خلال تجواله في المنطقة. فقريبا لن يعود هناك أي شيء يمكن التفاوض عليه! لماذا؟ لأنّ إسرائيل تقضم أراضي الضفة الغربية قطعة قطعة ثم تضع الجماعة الدولية أمام الأمر الواقع في كل مرة. وهذه هي سياستها منذ نشأتها قبل ستين سنة لم تتغير ولم تتبدل. إنها تتبع المقولة التالية: التاريخ يتقدم مقنعا..فبما أنها لا تستطيع التصريح بحقيقة مخططها منذ البداية فانه تقول علنا شيئا ما وتفعل على ارض الواقع عكسه تماما حتى يكون هذا الشيء قد تحقق وترسخ وعندئذ تضمه إليها باعتباره أمرا واقعا وهكذا دواليك..إنها تريد الضفة الغربية كلها لأنها بحسب التوراة هي يهودا والسامرة: أي لب الوطن اليهودي. أما غزة فلا  تهمها أبدا لأنها لا تنتمي إلى “الجغرافيا المقدسة” للأرض الموعودة. ولهذا السبب انسحبوا منها ولا يريدونها. أما من الضفة الغربية أو القدس فلن ينسحبوا أبدا. بل سيفعلون كل شيء للتضييق على سكانها حتى يهاجروا من تلقاء أنفسهم. وهذا ما ابتدأت تفعله النخب المسيحية ..ويرى المفكر الفرنسي الكبير أن إسرائيل سوف تبلع الضفة الغربية على المدى المتوسط: أي خلال الثلاثين سنة المقبلة.فهي تعتبر أن حدودها الطبيعية هي نهر الأردن. وبالتالي فلن يعود هناك أي شيء كي يتفاوضوا عليه مع الفلسطينيين..هذه هي الحقيقة وما عدا ذلك أوهام وأكاذيب وذرّ للرماد في العيون لا أكثر ولا اقل. وعندما تساءل ريجيس دوبريه عن الموضوع محتجا وغاضبا أمام المراجع العليا في باريس أو بعض عواصم القرار في الغرب قالوا له: ما تقوله صحيح ولكن يفضل ألا تقوله. اسكت..وقد نصحته إحدى الشخصيات المطلعة بان يشغل نفسه بقصة أخرى غير هذه القصة لأنها قد تعرضه لبعض المتاعب..وخلص الرجل في نهاية المطاف إلى النتيجة التالية: وهي أن السياسة والعلاقات الدولية قائمة على النفاق أساسا. ولأن المسيح لم يفهم هذه النقطة ولم يعرف كيف يساوم على الحقيقة قتلوه. وهذا ما حصل لسقراط أيضا من قبله. وبالتالي فالكلام المعسول عن خارطة الطريق أو عن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة والمستقلة بذاتها والذي نسمعه يوميا في وسائل الإعلام ليس إلا عبارة عن أكذوبة كبرى لا أساس لها من الصحة. ومن يعش ير..
ريجيس دوبريه والمقارنة بين الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام
يمكن القول إن  القسم الأخير من هذا الكتاب العميق يشكل  خلاصة الخلاصات أو لب اللباب بالنسبة لريجيس دوبريه. فهو يدرس إمكانية التعايش أو عدم التعايش بين أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة في منطقة الشرق الأوسط. وهنا يستشهد بعبارة لسلفه الروائي الكبير “فلوبير” يقول فيها ما معناه: إذا  أردت أن تصبح تقيا ورعا فاني لا أنصحك بالذهاب إلى الأرض المقدسة! ومعلوم أن فلوبير زارها حوالي منتصف القرن التاسع عشر. ولكن ماذا لو زارها اليوم ورأى كل هذه الأحقاد التي تمتلئ بها بين اليهود/ والعرب، أو بين المسلمين/ والمسيحيين، أو بين الشيعة/ والسنة، أو بين الأكراد/ والأتراك الخ..لو زارها من جديد لوجد العجب العجاب. فهي متفجرة على أكثر من صعيد ومستوى..

ثم يردف المؤلف قائلا: ولكني على عكسه أنصح الجميع بزيارتها لكي تنقشع الأوهام إذا كانت لا تزال عند البعض أوهام..فالمرء يعود من هناك مثل “كانديد” الساذج بطل رواية فولتير:أي  أكثر واقعية وأقل هوسا بالمثاليات والأحلام الوردية. يعود وهو أكثر خبرة ومعرفة بالطبيعة البشرية. فهي ليست صافية إلى الحد الذي نتوهّم.
ولكن كيف حصل أن أصبحت الأرض المقدسة بالنسبة للأديان الثلاثة مكانا غير مقدس على الإطلاق؟ أقصد كيف أصبحت مكانا لا يطاق العيش فيه؟ أليس جوهر الدين هو المحبة والإخاء والقيم الأخلاقية والمثل العليا؟ وبالتالي فكيف حصل أن أصبحت الأرض التي شهدت الوحي والنبوات أرضا مليئة بالعصبيات الطائفية والمذهبية والأحقاد المتبادلة التي لا توصف؟ لكي نفهم ذلك يلقي علينا ريجيس دوبريه درسا في علم الأديان المقارنة. أولا نلاحظ انه يعترف بالحقيقة التالية: وهي انه لا دين له إلا دراسة الأديان. وبالتالي فلا صحة لتلك الإشاعات التي تقول بأنه عاد إلى دين آبائه وأجداده: أي المسيحية في نسختها الكاثوليكية. ومعلوم أن الكثير من الشيوعيين والماركسيين السابقين أصبحوا الآن أصوليين أو متدينين على الأقل. هذه ليست حالته على ما يبدو. وليس هناك أي داع للشك في نواياه العلنية وتصريحاته. الرجل يجد متعة في دراسة الأديان أو قل انه شعر بالحاجة إلى ذلك بعد أن أصبحت الأصوليات ظاهرة عظمى. وهذا يشرفه ونحن بحاجة إليه لكي يضيء لنا الموضوع. وبالتالي فينبغي أن نشكره على ذلك لا أن نهاجمه. ثانيا هو انه لا يثق بالمتدينين كثيرا. هناك استثناءات بالطبع ولا ينبغي التعميم كليا. ولكن عموما نلاحظ أن التدين يؤدي إلى التعصب بالضرورة إذا ما ذهب إلى مداه الأقصى. وكيف يمكن إلا يذهب؟ وحتى البوذيون المشهورون بالهدوء والمحبة والبعد عن العنف فاجئونا مؤخرا بهيجانهم وحرقهم لبعض الكنائس المسيحية في سيريلانكا. وبالتالي فمن السهل على الأديان أن تتحدث عن التقى والورع ومكارم الأخلاق وكل هذا الكلام المعسول. ولكنها عمليا بررت كل أنواع المجازر وارتكب أتباعها أبشع الموبقات على مدار التاريخ دون أن يرفّ لهم جفن. وحتى المسيحية التي يخلو كتابها المقدس من العنف على عكس كتب اليهود والمسلمين مارست طيلة عدة قرون كل محاكم التفتيش والحروب الطائفية والمذهبية والصليبية. صحيح أن المسيحية حلت بعدئذ مشكلتها مع الحداثة ولم تعد تبطش بالآخرين وإنما نبذت العنف كليا وحرمته. ولكن ذلك لم يحصل إلا بعد جهد جهيد واختلاجات عنيفة ومقاومة شرسة للحداثة على مدار ثلاثة قرون: من السابع عشر وحتى العشرين.
ثم يقول ريجيس دوبريه مردفا:
والآن  جاء الآن دور الإسلام. فقد دخل في أزمة حادة مع نفسه ومع البشرية كلها ولا أحد يعرف متى ستنتهي. وهو مرتبط الآن بالعنف على أوسع نطاق. بل انه يبرره دينيا بالفتاوى ويحض أتباعه عليه لقتل الكفار من مسيحيين ويهود وصليبيين وسواهم كما يفعل بن لادن والظواهري والزرقاوي وجماعة القاعدة.وأما فيما يخص اليهودية فإنّ كتابها المقدس أي العهد القديم أو التوراة يدعو إلى العنف في بعض أجزائه ويبرر القتل والذبح مثلما هو وارد في بعض سور القرآن وآياته. يضاف إلى ذلك أن النصوص اليهودية التوراتية تستخدم أيضا لخلع المشروعية الإلهية على مشروع سياسي محض: هو المشروع الصهيوني المعروف. وبالتالي فهناك يهودية سياسية مثلما يوجد إسلام سياسي.
ثم يضيف ريجيس دوبريه قائلا: ولكن هناك فرق أساسي بين المسيحية والإسلام هو أن الكتاب المقدس عند المسيحيين ليس إملاء إلهيا بالحرف الواحد. وإنما هو كلام ملهم أو مستلهم من قبل الله. أما عند المسلمين فالأمر مختلف تماما لأنهم يعتبرون القرآن كلام الله الحرفي. وبالتالي فينبغي تطبيقه حرفيا. وهذا يطرح مشكلة كبيرة لأنّ الأحكام الشرعية الواردة فيه تخص عصرا غير عصرنا ومجتمعا قديما غير مجتمعنا. ولكن هذا لا يعني أن الإسلام خال من الميزات الايجابية على عكس الدينين الآخرين. فالواقع أن له ميزات روحية وأخلاقية عديدة. وهو يمتاز ببساطته العقائدية وسهولة الدخول فيه ولكن ليس الخروج! فالخروج يعني الردة وبالتالي الحكم عليك بالقتل. في اليهودية من الصعب أن تدخل ومن الصعب أن تخرج. ولكنهم لا يقتلونك إذا ما خرجت.
ويرى ريجيس دوبريه أن التصالح بين الأديان التوحيدية مستحيل. لماذا؟ لأن كل دين يزعم انه يمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة وان الأديان الأخرى زورتها أو حرفتها أو خرجت عليها. وبالتالي فكيف يمكن أن تلتقي؟ ثم يقول بما معناه: إني أحاسب الأديان على أفعالها لا على أقوالها. فكلنا يعرف أن النصوص الدينية من توراة وقرآن وإنجيل تقول الشيء وعكسه. فقد تقع على آيات رائعة فيها الرحمة والمحبة ولكن بعد ثلاثة أو أربعة أسطر تقع على آيات أخرى تبيح القتل والذبح. وبالتالي فالكتب الدينية ليست كتبا في علم المنطق ولا هي متماسكة فكريا من هذه الناحية.
ولكن هل يتساوى كل المتدينين مع بعضهم البعض؟ على هذا السؤال يجيب ريجيس دوبريه قائلا: بالطبع لا. فالأمير عبد القادر الجزائري المتصوف الزاهد المتسامح الحليم غير الملاّ عمر المرعب زعيم الطالبان. وغير أسامة بن لادن والظواهري والزرقاوي وشاكر العبسي. وعيب أصلا أن نشبهه بهم. وإسحاق رابين لا يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع المتعصب الديني الذي قتله الخ..والاتجاه المتصوف في الإسلام أكثر شفقة ورحمة من تيار الفقهاء المتشددين. ولكن هناك موقف عام ومشترك لأديان التوحيد من الحداثة: فهي تكرهها عموما ولا تثق بها. وليس صحيحا ما يقوله الغرب من أن التعصب  شيء خاص بالإسلام دون المسيحية. الشيء الصحيح فقط هو التفاوت الزمني بينهما. فالمسيحية تجاوزت أزمتها مع قيم العصر الحديث في حين أن الإسلام لا يزال يتخبط فيها. هذا كل ما في الأمر. والدليل على ذلك أن ما يقوله بن لادن ضد الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان موجود حرفيا في فتاوى البابوات الكاثوليك إبان القرن التاسع عشر وبخاصة تلك التي صدرت عام 1869 وأدانت الحداثة جملة وتفصيلا. هنا ينبغي أن نقيم مقارنة موضوعية دقيقة بين الإسلام والمسيحية- ولكن ليس في نفس اللحظة- لكي نكون منصفين. فمن الواضح انه إذا ما قارنا بين الإسلام الحالي والمسيحية الحالية في أوروبا فإنّ الإسلام يبدو أكثر تعصبا وعنفا ورفضا للحداثة بكثير. ولكنا إذا ما قارنا بين الإسلام الحالي والمسيحية في القرن الماضي وجدنا تشابها كبيرا. ثم ينبغي أن يعلم القارئ أن محاكم التفتيش في اسبانيا لم تنته إلا عام 1824.
وبالتالي فلا أحد أحسن من أحد.. فالبراكين الطائفية انفجرت في كل مكان ولكن ليس في نفس اللحظة. كل واحد ودوره.. بل ويمكن القول إن المسيحية كانت أكثر تعصبا من الإسلام في الماضي. فالفظائع التي ارتكبها المذهب الكاثوليكي بحق خصومه لا تقل وحشية عن الفظائع التي ارتكبها الزرقاوي وجماعة القاعدة حاليا. انظر توماس توركمادا زعيم محاكم التفتيش في اسبانيا إبان القرن السادس عشر. فمجرد ذكر اسمه يؤدي إلى أن تقشعر النفوس والأبدان. وبالتالي فلنترك للإسلام الوقت الكافي لكي يصلح نفسه  ويهضم أفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان.
لنترك له الفترة الزمنية المناسبة لكي يرتب أوضاعه وعندئذ تخف نقمته على العالم الحديث ويصبح حضاريا متسامحا مثل المذهب الكاثوليكي اليوم. هذا شيء آت على الطريق. هذا تطور حتمي ولكن قد يأخذ بضعة عقود من السنين قبل أن يهدأ البركان الأصولي ويقذف بآخر حممه.
وأخير، أيمكن القول إن الكتاب هو عبارة عن محاولة لفهم شؤون المنطقة في العمق. وكان يمكن أن نتحدث عن جوانب أخرى فيه ولكن يكفي ما قلناه حتى الآن. كما انه  يعتبر محاولة لمساعدة المسؤولين والمثقفين الفرنسيين على فهم ما يجري هناك بالضبط ومدى تعقيد المشكلة. ولكن يمكن اعتباره أيضا محاولة لمساعدتنا نحن على فهم شؤوننا وقضايانا. فالنظرة الخارجية قد ترى فيك أشياء لا تراها النظرة الداخلية التي من شدة قربها من الموضوع تكاد تعمى عنه! وأعتقد أن ريجيس دوبريه يريد أن يوجه رسالة للجميع فحواها: حاولوا أن توسعوا عقولكم قليلا وأن تقبلوا ببعضكم البعض لكي تخرجوا من هذه الحلقة الجهنمية للحقد والحقد المضاد. فهناك حلان لا ثالث لهما: إما الاقتتال إلى نهاية الأزمان وربما حتى الإفناء المتبادل، وإما وضع حد لهذا التصعيد العبثي الذي طحن حتى الآن أجيالا بأسرها. ألا يكفي ما أريقت من دماء حتى الآن؟ ولو أن هذه الطاقات المهدورة في سبيل الحرب والضرب والتسلح والحشود والجيوش خصصت للبناء والعمران وإنشاء الحضارات، أما كانت منطقة الشرق الأوسط الآن من أجمل مناطق العالم؟ أما كان سيحلو العيش فيها؟ ألا تستحق شعوبها أن تستريح ولو قليلا بعد قرن كامل من الصراع المدمر الذي لا ينقطع؟ يضاف إلى ذلك أن ريجيس دوبريه يحاول أن يمرر الفكرة التالية في كتابه من خلال الاستشهادات الكثيرة بالإنجيل وحياة المسيح الذي كان يتجول في كل أنحاء المنطقة بدون جواز سفر كما يقول. وهي استشهادات مليئة بعبارات مثل يهودا والسامرة والتذكير بالماضي اليهودي لفلسطين في زمن المسيح قبل ألفي سنة. ما هي هذه الفكرة؟ يخيل إلي انه يريد أن يقول لنا نحن العرب والمسلمين ما يلي: صحيح انه حصل اغتصاب لأرض فلسطين واحتلال بالقوة. ولكن هذه الأرض تعني شيئا ما بالنسبة للشعب اليهودي وليست غريبة عليه إلى الحد الذي تتصورونه. والدليل على ذلك أن الكتب القديمة تتحدث عنها وكأنها أرضه التاريخية. وعليها قامت دولته الأولى. لا ريب في أنها أصبحت لاحقا ارض الفلسطينيين والعرب المسلمين طيلة خمسة عشر قرنا متواصلة. ولكن لها علاقة رمزية وروحية قوية باليهود أيضا. العام القادم في أورشليم، العام القادم في أورشليم…على هذا النحو تنتهي صلواتهم منذ ألفي سنة.. يحصل ذلك كما لو أنها عشيقة لشخصين أو لشعبين.. وهكذا تجمعت كل عناصر التراجيديا الإغريقية أو الشكسبيرية في القضية الفلسطينية: رجلان يحبان نفس المرأة ومستعدان لان يقتلا بعضهما البعض من اجلها.ومن الحب ما قتل! وبالتالي فكأنه يريد أن يقول لنا: عفا الله عما مضى.. حاولوا أن تجدوا تسوية أيها الأصدقاء فيما بينكم. ألا ترون أن الدم المراق قد أصبح تقريبا أغلى من الأرض التي تتصارعون عليها؟ ألا يكفي ما حصل من كوارث ونكبات؟ ألم يحن الأوان لكي تجربوا طريقة أخرى في إدارة الصراع أو بالأحرى وضع حد له؟ ولكن كيف يمكن ان نعترف بهم وبمشروعية وجودهم في المنطقة والاستيطان مستمر؟ هكذا نلاحظ أننا دخلنا في حلقة مفرغة أو في داهية دهياء لها أول وليس لها آخر..ومع ذلك فينبغي أن نتعايش، أن نجد تسوية ما لهذا الصراع الذي طال..مهما يكن من أمر فان الكتاب هو دعوة إلى ثقافة السلم والانفتاح الفكري والحوار بين العرب واليهود، هذا الحوار الذي يبدو حتى الآن مستعصيا، مستحيلا.. بهذا المعنى فان كتاب ريجيس دوبريه يحاول أن يقدم مساعدة مباشرة أو غير مباشرة لكل القوى ذات النزعة الإنسانية في المنطقة. وهي قوى ضعيفة ومستهدفة من قبل المتطرفين من كلا الطرفين العربي واليهودي. إنها مهددة بأن تسحق كليا في عصر الطوائف والأصوليات الدينية الهائجة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى